التفاسير

< >
عرض

وَإِذَا جَآءُوكُمْ قَالُوۤاْ آمَنَّا وَقَدْ دَّخَلُواْ بِٱلْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ
٦١
-المائدة

الدر المصون

قوله تعالى: { وَإِذَا جَآءُوكُمْ }: الضميرُ المرفوعُ لليهودِ المعاصرين، فحينئذ لا بُدَّ مِنْ حذفِ مضافٍ أي: وإذا جاءكم ذريتُهم أو نَسْلُهم؛ لأنَّ أولئك المجعولَ منهم القردة والخنازير لم يَجيئوا، ويجوزُ ألاَّ يقدَّر مضافٌ محذوفٌ، وذلك على أن يكونَ قولُه { مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ } إلى أخره عبارةً عن المخاطبين في قوله: { يَا أَهْلَ ٱلْكِتَابِ } وأنه مِمَّا وُضِع فيه الظاهرُ موضعَ المضمر، وكأنه قيل: أنتم، كذا قاله الشيخ، وفيه نظرٌ فإنه لا بدَّ من تقدير مضافٍ في قوله تعالى: { وَجَعَلَ مِنْهُمُ ٱلْقِرَدَةَ } تقديرُه: وجَعَلَ من آبائِكم أو أسلافكم أو من جنسكم، لأن المعاصرين ليسوا مجعولاً منهم بأعيانِهم، فسواءً جَعَله مِمَّا ذَكَر أم لا، لا بد من حذف مضاف.
قوله تعالى: { وَقَدْ دَّخَلُواْ بِٱلْكُفْرِ } هذه جملةٌ حاليةٌ / وفي العامل فيها وجهان أحدُهما: وبه بدأ أبو البقاء - أنه "قالوا" أي: قالوا كذا في حالِ دخولِهم كفرةً وخروجِهم كفرةً وفيه نظرٌ، إذ المعنى يَأباه. والثاني: أنه "آمنَّا"، وهذا واضحٌ أي: قالوا آمنَّا في هذه الحال. و"قد" في "وقد دَخَلُوا"وقد خَرَجُوا" لتقريب الماضي في الحال. وقال الزمخشري: "ولمعنًى آخرَ وهو أنَّ أماراتِ النفاقِ كانت لائحةً عليهم فكان الرسولُ عليه السلام متوقعاً لإِظهار الله تعالى ما كتموه، فدخَلَ حرفُ التوقعِ، وهو متعلِّقٌ بقولِه "قالوا آمنا" أي: قالوا ذلك وهذه حالُهم" يعني بقوله: "وهو متعلِّقٌ" أي: والحال، وقوةُ كلامِه تُعْطي أنَّ صاحبَ الحالِ وعاملَها الجملةُ المَحْكِيَّة بالقول. و"بالكفر" متعلقٌ بمحذوفٍ لأنه حالٌ من فاعلِ "دَخَلوا" فيه حال من حالٍ أي: دَخلوا ملتبسين بالكفرِ أي: ومعَهم الكفرُ كقولِهم: "خرج زيدٌ بثابه" وقراءةِ مَنْ قرأ: { تَنْبُتُ بالدُّهْن } أي: وفيها الدهن، ومنه ما أنشدَ الأصمعي:

1761- ومُسْتَنَّةٍ كاسْتنانِ الخَرُو فِ قد قَطَعَ الحَبْل بالمِرْوَدِ

أي: ومرودُه فيه، وكذلك "به" أيضاً حالٌ من فاعلِ "خرجوا".
وقوله: { وهم } مبتدأٌ، و"قد خَرَجُوا" خبرُه، والجملةُ حالٌ أيضاً عطفٌ على الحالِ قبلَها، وإنما جاءتِ الأولى فعليةً والثانيةُ اسميةً تنبيهاً على فرطِ تهالكِهم في الكفر، وذلك أنهم كان ينبغي لهم إذا دخلوا على الرسولِ عليه السلام أَنْ يُؤمنوا، لِما يَرَوْن من حسنِ سَمْتِه وهَيْبَته وما يظهرُ على يديهِ الشريفة من الخوارقِ والمعجزات، ولذلك قال بعض الكفرة: "رأيت وجهَ مَنْ ليس بكذَّاب" فلمَّا [لم] ينجَعْ فيهم ذلك أكَّد كفرهَم الثاني بأَنْ أبْرَز الجملةَ اسميةً صدرُها اسمٌ وخبرها فعلٌ، ليكونَ الإِسنادُ فيها مرتين. وقال ابن عطية: "وقولُه"وهم" تخليص من احتمالِ العبارةِ أن يدخُلَ قومٌ بالكفرِ ثم يؤمنوا ويخرجَ قومٌ وهم كفرة، فكان ينطبِقُ على الجميع وهم قد دَخَلوا بالكفر وقد خَرَجوا به، فأزال اللّهُ الاحتمالَ بقوله: "وهم قد خَرَجوا به" أي: هم بأعيانِهم" وهذا المعنى سَبَقه إليه الواحدي فبسَطَه ابنُ عطية، قال الواحدي: "وهم قد خَرَجوا به" أكَّد الكلامَ بالضمير تعييناً إياهم بالكفرِ وتمييزاً لهم عن غيرِهم" وقال بعضُهم: "معنى "هم" التأكيدُ في إضافة الكفر إليهم، ونفى أن يكونَ من الرسولِ ما يوجِبُ كفرَهم مِنْ سوءِ معاملتِه لهم، بل كان يلطفُ بهم ويعاملُهم أحسنَ معاملةٍ، فالمعنى: أنهم هم الذين خَرَجوا بالكفر باختيارِ أنفسهم، لا أنك أنت الذي تسبَّبْبَ لبقائِهم في الكفر" وقال أبو البقاء: "ويجوز أن يكونَ التقديرُ: وقد كانوا خَرَجُوا به" ولا معنى لهذا التأويلِ. والواوُ في قوله تعالى: { وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ } تحتمل وجهين أحدهما: أن تكونَ عاطفةً لجملةِ حالٍ على مثلِها، والثاني: أن تكونَ هي نفسُها واوَ الحال، وعلى هذا يكونُ في الآية الكريمة حجةٌ لمن يُجيز تعدُّدَ الحالِ لذي حالٍ مفردٍ من غير عطف ولا بدل إلا في أفعلِ التفضيل، نحو: "جاء زيدٌ ضاحكاً كاتباً" وعلى الأول لا يجوزُ ذلك إلا بالعطفِ أو البدلِ، وهذا شبيهٌ بالخلاف في تعدُّد الخبر.