التفاسير

< >
عرض

وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَٰنِهِمْ لَئِن جَآءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا ٱلآيَٰتُ عِندَ ٱللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ
١٠٩
-الأنعام

الدر المصون

وقوله تعالى: { جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ }: قد تقدَّم الكلام عليه في المائدة. وقرأ طلحة بن مصرف: "لَيُؤْمَنَنْ" مبنياً للمفعول مؤكداً بالنون الخفيفة. قوله "وما يُشْعِركم": "ما" استفهامية مبتدأة، والجملة بعدها خبرها، وفاعلُ "يشعر" يعود عليها، وهي تتعدى لاثنين الأول ضمير الخطاب، والثاني محذوف، أي: وأي شيء يُدْريكم إيمانُهم إذا جاءتهم الآيات التي اقترحوها؟
وقرأ العامَّة "أنها" بفتح الهمزة، وابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر ـ بخلاف عنه ـ بكسرها. فأمَّا على قراءةِ الكسر فواضحةٌ استجودها الناس: الخليل وغيره؛ لأن معناها استئناف إخبار بعدم إيمان مَنْ طُبع على قلبه ولو جاءتهم كلُّ آية. قال سيبويه: "سألْتُ الخليل عن هذه القراءة ـ يعني قراءة الفتح ـ فقلت: ما منع أن يكون كقولك: ما يدريك أنه لا يفعل؟ فقال: لا يَحْسُن ذلك في هذا الموضع، إنما قال "وما يُشْعركم"، ثم ابتدأ فأوجب فقال { إِنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ } ولو فَتَح فقال: { وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ } لكان عُذْراً لهم". وقد شرح الناس قولَ الخليل وأوضحوه فقال الواحدي وغيره: "لأنك لو فتحت "أنَّ" وجعلتها التي في نحو "بلغني أن زيداً منطلق" لكان عذراً لمن أخبر عنهم أنهم لا يؤمنون، لأنه إذا قال القائل: "إن زيداً لا يؤمن" فقلت: وما يدريك أن لا يؤمن، كان المعنى أنَّه يؤمن، وإذا كان كذلك كان عذراً لمَنْ نفى عنه الإِيمان، وليس مرادُ الآية الكريمة إقامةَ عُذْرِهم ووجودَ إيمانهم. وقال الزمخشري "وقرئ "إنها" بالكسر، على أن الكلام قد تمَّ قبله بمعنى: وما يشعركم ما يكون منهم، ثم أخبرهم بعلمه فيهم فقال: إنها إذا جاءت لا يؤمنون".
وأمَّا قراءة الفتح فقد وجَّهها الناس على ستة أوجه، أظهرها: أنها بمعنى لعلَّ، حكى الخليل "أتيت السوق أنك تشتري لنا منه شيئاً" أي: لعلك، فهذا من كلام العرب ـ كما حكاه الخليل ـ شاهد على كون "أنَّ" بمعنى لعلَّ، وأنشد أبو جعفر النحاس:

2027ـ أريني جواداً مات هُزْلاً لأَنَّني أرى ما تَرَيْنَ أو بخيلاً مُخَلَّدا

قال امرؤ القيس: ـ أنشده الزمخشري ـ

2028ـ عُوجا على الطلل المُحيلِ لأنَّنا نبكي الديار كما بكى ابنُ حِذامِ

وقال جرير:

2029ـ هلَ أنتمْ عائجون بنا لَعَنَّا نرى العَرَصاتِ أو أثرَ الخيام

وقال عدي بن زيد:

2030ـ أعاذلَ ما يُدْرِيكَ أن منيَّتي إلى ساعةٍ في اليوم أو في ضحى الغد

وقال آخر:

2032ـ قلت لشيبانَ ادنُ مِنْ لِقائِهْ أنَّا نُغَذِّي الناسَ مِنْ شوائِهْ

فـ "أنَّ" في هذه المواضع كلها بمعنى لعلَّ، قالوا: ويدل على ذلك أنها في مصحف أُبَيّ وقراءته "وما أدراكم لعلَّها إذا جاءت لا يؤمنون" ونُقِلَ عنه: { وَمَا يُشْعِرُكُمْ لعلها إِذَا جَآءَتْ }، ذكر ذلك أبو عبيد، وغيره، ورجَّحوا ذلك أيضاً بأنَّ "لعل" قد كَثُرَ ورودها في مثل هذا التركيب كقوله تعالى: { { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ ٱلسَّاعَةَ قَرِيبٌ } [الشورى: 17] { { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ } [عبس: 3] وممَّنْ جعل "أنَّ" بمعنى "لعل" أيضاً يحيى بن زياد الفراء.
ورجَّح الزجاج ذلك، فقال: "زعم سيبويه عن الخليل أن معناها "لعلها" قال: "وهذا الوجه أقوى في العربية وأجود"،/ ونسب القراءة لأهل المدينة، وكذا أبو جعفر. قلت: وقراءة الكوفيين والشاميين أيضاً، إلا أن أبا علي الفارسي ضعَّف هذا القول الذي استجوده الناس وقوَّوه تخريجاً لهذه القراءة فقال: "التوقع الذي تدل عليه "لعلَّ" لا يناسب قراءة الكسر لأنها تدل على حكمه تعالى عليهم بأنهم لا يؤمنون" ولكنه لمَّا منع كونها بمعنى "لعل" لم يجعلها معمولة لـ "يُشْعِركم" بل جعلها على حذف لام العلة أي لأنها، والتقدير عنده: قل إنما الآيات عند الله لأنها إذا جاءت لا يؤمنون، فهو لا يأتي بها لإِصْرارهم على كفرهم، فيكون نظير
{ { وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِٱلآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا ٱلأَوَّلُونَ } [الإِسراء: 59] أي بالآيات المقترحة، وعلى هذا فيكون قوله "وما يُشْعركم" اعتراضاً بين العلة والمعلول.
الثاني: أن تكون "لا" مزيدةً، وهذا رأيُ الفراء وشيخه قال: "ومثله
{ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ } [الأعراف: 12] أي: أن تسجد، فيكون التقدير: وما يشعركم أنها إذا جاءت يؤمنون، والمعنى على هذا: أنها لو جاءت لم يؤمنوا، وإنما حملها على زيادتها ما تقدَّم من أنها لو تُقَدَّر زائدةً لكان ظاهرُ الكلام عذراً للكفار وأنهم يُؤْمنون، كما عرَفْتَ تحقيقَه أولاً. إلا أن الزجاج نسب ذلك إلى الغلط فقال "والذي ذكر أن "لا" لغوٌ غالط، لأنَّ ما يكون لغواً لا يكون غيرَ لغو، ومَنْ قرأ بالكسر فالإِجماع على أن "لا" غير لغو" فليس يجوز أن يكون معنى لفظة مرةً النفيَ ومرةً الإِيجابَ في سياق واحد.
وانتصر الفارسي لقول الفراء ونفى عنه الغلط، فإنه قال: "يجوز أن تكون "لا" في تأويلٍ زائدةً، وفي تأويلٍ غيرَ زائدة كقول الشاعر:

2032ـ أبى جودُه لا البخلَ واستعجلَتْ نَعَمْ به مِنْ فتى لا يمنع الجودَ نائِلُهْ

يُنشد بالوجهين أي بنصب "البخل" وجرِّه، فَمَنْ نَصَبَه كانت زائدة أي: أبى جوده البخل، ومَنْ خفض كانت غيرَ زائدة وأضاف "لا" إلى البخل قلت: وعلى تقدير النصب لا يلزم زيادتها لجواز أن تكون "لا" مفعولاً بها والبخل بدل منها أي: أبى جوده لفظ "لا"، ولفظ "لا" هو بخل. وقد تقدَّم لك طرفٌ من هذا محققاً عند قوله تعالى { وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } [الفاتحة: 7] في أوائل هذا الموضوع، وسيمر بك مواضعُ منها، كقوله تعالى: { { وَحَرَامٌ عَلَىٰ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } [الأنبياء: 95] قالوا: تحتمل الزيادةَ وعَدَمَها، وكذا { مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ } } [الأعراف: 12] { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ
[الحديد: 29].
الثالث: أن الفتح على تقديرِ لامِ العلة، والتقدير: إنما الآيات التي يقترحونها عند الله لأنها إذا جاءت لا يؤمنون، وما يُشْعركم اعتراض، كما تقدَّم تحقيق ذلك عن أبي علي فأغنى عن إعادته، وصار المعنى: إنما الآيات عند الله أي المقترحة لا يأتي بها لانتفاء إيمانهم وإصرارهم على كفرهم.
الرابع: أنَّ في الكلام حذفَ معطوفٍ على ما تقدَّم. قال أبو جعفر في معانيه: "وقيل في الكلام حذف، المعنى: وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون أو يؤمنون" فحذف هذا لعلم السامع، وقَدَّره غيره: ما يشعركم بانتفاء الإِيمان أو وقوعه.
الخامس: أنَّ "لا" غير مزيدة، وليس في الكلام حَذْفٌ بل المعنى: وما يدريكم انتفاء إيمانهم، ويكون هذا جواباً لمن حكم عليهم بالكفر أبداً ويئس من إيمانهم. وقال الزمخشري: "وما يشعركم وما يدريكم أنها - أن الآيات التي يقترحونها - إذا جاءت لا يؤمنون بها، يعني: أنا أعلم أنها إذا جاءت لا يؤمنون بها وأنتم لا تَدْرُون بذلك، وذلك أن المؤمنين كانوا حريصين على إيمانهم وطامعين فيه إذا جاءت تلك الآية ويتمنَّون مجيئها فقال عز وجل: "وما يدريكم أنهم لا يؤمنون" على معنى: أنكم لا تَدْرُوْنَ ما سَبَقَ علمي بهم أنهم لا يؤمنون، ألا ترى إلى قوله:
{ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [الأنعام: 110] انتهى. قلت بَسْطُ قولِه إنهم كانوا يطمعون في إيمانهم ما جاء في التفسير أن المشركين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أنزل علينا الآية التي قال الله فيها { إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } ونحن والله نؤمن فأنزل الله تعالى: وما يُشْعركم إلى آخرها/. وهذا الوجه هو اختيار الشيخ فإنه قال: "ولا يحتاج الكلام إلى زيادة "لا" ولا إلى هذا الإِضمار" - يعني حَذْفَ المعطوف - "ولا إلى "أنَّ" بمعنى لعلَّ، وهذا كله خروج عن الظاهر لغير ضرورةٍ، بل حَمْلُه على الظاهر أَوْلى وهو واضح سائغ أي: وما يشعركم ويدريكم بمعرفة انتفاء إيمانهم لا سبيل لكم إلى الشعور بها".
السادس: أنَّ "ما" حرف نفي، يعني أنه نَفَى شعورَهم بذلك، وعلى هذا فيُطْلَبُ لـ "يُشْعركم" فاعلٌ. فقيل: هو ضمير الله تعالى أُضْمر للدلالة عليه، وفيه تكلُّفٌ بعيد أي: وما يُشْعِرُكم الله أنها إذا جاءت الآيات المقترحة لا يؤمنون. وقد تقدَّم في البقرة كيفيةُ قراءةِ أبي عمرو لـ
{ { يُشْعِرُكُمْ } [الأنعام: 109] و { { يَنصُرْكُمُ } [آل عمران: 160] ونحوِهما عند قوله { إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ } [البقرة: 67]، وحاصلها ثلاثة أوجه: الضم الخالص، والاختلاس، والسكون المحض.
وقرأ الجمهور: "لا يؤمنون" بياء الغيبة، وابن عامر وحمزة بتاء الخطاب، وقرآ أيضاً في الجاثية [الآية: 6]
{ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ ٱللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ } بالخطاب، وافقهما عليها الكسائي وأبو بكر عن عاصم، والباقون بالياء للغيبة، فَتَحَصَّل من ذلك أنَّ ابن عامر وحمزة يقرآن بالخطاب في الموضعين، وأنَّ نافعاً وابن كثير وأبا عمرو وحفصاً عن عاصم بالغيبة في الموضعين، وأن الكسائي وأبا بكر عن عاصم بالغيبة هنا وبالخطاب في الجاثية، فقد وافقا أحد الفريقين في إحدى السورتين والآخر في أخرى.
فأما قراءة الخطاب هنا فيكون الظاهر من الخطاب في قوله "وما يشعركم" أنه للكفار، ويتضح معنى هذه القراءة على زيادة "لا" أي: وما يُشْعركم أنكم تؤمنون إذا جاءت الآيات التي طلبتموها كما أَقْسَمْتُمْ عليه ويتضح أيضاً على كونِ "أنَّ" بمعنى لعلَّ مع كون "لا" نافيةً، وعلى كونِها علةً بتقديرِ حَذْفِ اللامِ أي: إنما الآيات عند الله فلا يأتيكم بها؛ لأنها إذا جاءت لا يؤمنون بها، ويتضح أيضاً على كون المعطوف محذوفاً أي: وما يدريكم بعدم إيمانكم إذا جاءت الآيات أو وقوعه، لأنَّ مآل أمرِكم مُغَيَّبٌ عنكم فكيف تُقْسِمون على الإِيمان عند مجيء الآيات؟ وإنما يُشْكل إذا جَعَلْنا "أنَّ" معمولةً لـ "يُشْعركم" وجَعَلْنَا "لا" نافيةً غير زائدة، إذ يكون المعنى: وما يدريكم أيها المشركون بانتفاء إيمانكم إذا جاءتكم، ويزول هذا الإِشكال بأنَّ المعنى: أيُّ شيء يدريكم بعدم إيمانكم إذا جاءتكم الآيات التي اقترحتموها؟ يعني لا يمرُّ هذا بخواطركم، بل أنتم جازِمُون بالإِيمان عند مجيئها لا يَصُدُّكم عنه صادٌّ، وأنا أعلم أنكم لا تؤمنون وقت مجيئها لأنكم مطبوعٌ على قلوبكم.
وأمَّا على قراءة الغَيْبة فتكون الهمزةُ معها مكسورةً، وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو وأبي بكر عن عاصم، ومفتوحة وهي قراءة نافع والكسائي وحفص عن عاصم.
فعلى قراءة ابن كثير ومَنْ معه يكون الخطاب في "وما يشعركم" جائزاً فيه وجهان، أحدهما: أنه خطاب للمؤمنين أي: وما يشعركم أيها المؤمنون إيمانهم، ثم استأنف إخباراً عنهم بأنهم لا يؤمنون فلا تَطْمعوا في إيمانهم والثاني: أنه للكفار أي: وما يُشْعركم أيُّها المشركون ما يكون منكم، ثم استأنف إخباراً عنهم بعدم الإِيمان لعلمه السابق فيهم، وعلى هذا ففي الكلام التفاتٌ من خطاب إلى غيبة.
وعلى قراءة نافع يكون الخطابُ للكفار، وتكون "أنَّ" بمنى لعلَّ، كذا قاله أبو شامة وغيره. وقال الشيخ في هذه القراءة: "الظاهر أن الخطاب للمؤمنين، والمعنى: وما يدريكم أيها المؤمنون أن الآية التي تقترحونها إذا جاءت لا يؤمنون" يعني أنا أعلم أنها إذا جاءت لا يؤمنون بها، ثم ساق كلام الزمخشري بعينه الذي قَدَّمْتُ ذِكْرَه عنه في الوجه الخامس قال: "ويبعد جداً أن يكون الخطاب في "وما يشعركم" للكفار". قلت: إنما استبعده لأنه لم يَرَ في "أنَّ" هذه أنها بمعنى لعل كما حكيتُه عنه. وقد جعل الشيخُ في مجموع { أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ } بالنسبة إلى كسر الهمزة وفتحِها والخطاب والغَيْبة أربع قراءات قال: "وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والعليمي والأعشى عن أبي بكر، وقال ابن/ عطية: "ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية داود الإِيادي: إنها بكسر الهمزة، وقرأ باقي السبعة بفتحها، وقرأ ابن عامر وحمزة "لا تؤمنون" بتاء الخطاب والباقون بياء الغيبة، فترتَّب أربع قراءات: الأولى: كَسْرُ الهمزة والياء وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو وأبي بكر بخلاف عنه في كسر الهمزة" ثم قال: "القراءة الثانية: كَسْرُ الهمزة والتاء وهي رواية العليمي والأعشى عن أبي بكر عن عاصم، والمناسب أن يكون الخطاب للكفار في هذه القراءة كأنه قيل: وما يدريكم أيها الكفار ما يكون منكم؟ ثم أخبرهم على جهة الجزم أنهم لا يؤمنون على تقدير مجيئها، ويبعد جداً أن يكون الخطاب في "وما يُشْعركم" للمؤمنين وفي "تؤمنون" للكفار. ثم ذكر القراءة الثالثة نظرٌ لا يخفى: وذلك أنه لَمَّا حكى قراءة الخطاب في "تؤمنون" لم يحكها إلا عن حمزة وابنِ عامر فقط، ولم يدخل معهما أبو بكر لا من طريق العليمي والأعشى ولا من طريق غيرهما، والفرض أن حمزة وابن عامر يفتحان همزة "أنها"، وأبو بكر يكسرها ويفتحها، ولكنه لا يقرأ "يؤمنون" إلا بياء الغيبة فمن أين تجيء لنا قراءةٌ بكسر الهمزة والخطاب؟ وإنما أتيتُ بكلامه برُمَّته ليُعْرَفَ المأخذ عليه ثم إني جَوَّزْتُ أن تكون هذه روايةً رواها فكشفتُ كتابه في القراءات، وكان قد أفرد فيه فصلاً انفرد به العليمي في روايته، فلم يذكر أنه قرأ "تؤمنون" بالخطاب البتة، ثم كشفت كتباً في القراءات عديدةً فلم أرهم ذكروا ذلك فعرفتُ أنه لَمَّا رأى للهمزة حالتين ولحرف المضارعة في "يؤمنون" حالتين ضرب اثنين في اثنين فجاء من ذلك أربعُ قراءات ولكن إحداهما مهملة.
وقوله "لا يُؤْمنون" متعلَّقُه محذوف للعلم به أي: لا يؤمنون بها.
قوله: { ونُقَلِّب } في هذه الجملة وجهان، أحدهما ـ ولم يقل الزمخشري غيره ـ أنها وما عطف عليها من قوله "وَيذَرُهم" عطف على "يُؤْمنون" داخلٌ في حكم وما يُشْعركم، بمعنى: وما يشعركم أنهم لا يؤمنون، وما يُشْعركم أنَّا نقلِّب أفئدتَهم وأبصارَهم، وما يُشْعركم أنَّا نَذَرَهم" وهذا يساعده ما جاء في التفسير عن ابن عباس ومجاهد وابن زيد، والثاني: أنها استئناف إخبار، وجعله الشيخُ الظاهرَ، والظاهرُ ما تقدَّم.