التفاسير

< >
عرض

وَذَرِ الَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ ٱلْحَيَٰوةُ ٱلدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَآ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ
٧٠
-الأنعام

الدر المصون

قوله تعالى: { ٱتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً }: "اتخذوا" يجوز فيها وجهان، أحدهما: أنها متعدية لواحد على أنها بمعنى اكتسبوا وعملوا، و"لهواً ولعباً" على هذا مفعول من أجله أي: اكتسبوه لأجل اللهو واللعب. والثاني: أنها المتعدية إلى اثنين أوَّلُهما "دينهم" وثانيهما "لعباً ولهواً" قال الشيخ: "ويظهر من بعض كلام الزمخشري وكلام ابن عطية أن "لعباً ولهواً" هو المفعول الأول، و"دينهم" هو المفعول الثاني. قال الزمخشري: "أي: دينهم الذي كان يجب أن يأخذوا به لعباً ولهواً، وذلك أن عبادتهم وما كانوا عليه من تبحير البحائر وتسويب السوائب من باب اللهو واللعب واتِّباع هوى النفس وما هو من جنس الهَزْل لا الجد، وأو اتخذوا ما هو لعبٌ ولهو من عبادة الأصنام ديناً لهم، أو اتخذوا دينهم الذي كُلِّفوه وهو دين الإِسلام لَعِباً ولهواً حيث سخروا به قال: "فظاهرُ تقديرِه الثاني يدلُّ على ما ذكرنا".
وقال ابن عطية: "وأضاف الدين إليهم على معنى أنهم جعلوا اللعب واللهو ديناً، ويحتمل أن يكون المعنى: اتخذوا دينهم الذي كان ينبغي لهم لعباً ولهواً، فتفسيره الأول هو ما ذكرناه عنه" انتهى. قلت: وهذا الذي ذكراه إنما ذكراه تفسيرَ معنى لا إعراب، وكيف يَجْعلان النكرةَ مفعولاً أولَ والمعرفةَ معفولاً ثانياً من غير داعية إلى ذلك مع أنهما من أكابر أهل هذا الشأن، وانظر كيف أبرزا ما جعلاه مفعولاً أولَ معرفةً وما جعلاه ثانياً نكرة في تركيب كلامهما ليَخِدوا على كلام العرب فكيف يُظَنُّ بهما أن يجعلا النكر محدَّثاً عنها والمعرفة حديثاً في كلام الله تعالى؟
وقوله: { وَذَكِّرْ بِهِ } أي بالقرآن، يدلُّ له قوله:
{ { فَذَكِّرْ بِٱلْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ } [ق: 45] وقيل: يعود على حسابهم. وقيل: على الذين وقيل: هذا ضميرٌ يُفسِّره ما بعده وسيأتي إيضاحُه.
وقوله: { وَغَرَّتْهُمُ ٱلْحَيَٰوةُ } تحتمل وجهين. أحدهما: أنها مستأنفةٌ والثاني: أنها عطفٌ على صلةِ الذين أي: الذي اتخذوا وغَرَّتْهُم وقد تقدم معنى الغرور في آخر آل عمران وقيل: هنا غَرَّتهم من "الغَرّ" بفتح العين أي: ملأت أفواههم وأشبعتهم، وعليه قول الشاعر:

1950- ولمَّا التَقَيْنا بالحُلَيْبَةِ غَرَّني بمعروفِهِ حتى خرجْتُ أفوقُ

قوله: { أَن تُبْسَلَ }: في هذا وجهان، المشهور- بل الإِجماع - على أنه مفعول من أجله وتقديره: مخافة أن تُبْسَل، أو كراهة أن تُبْسَلَ، أو أن لا تبسل والثاني: قال الشيخ: - بعد أن نقل الاتفاق على المفعول من أجله - "ويجوز عندي أن يكون في موضعِ جرِّ على البدل من الضمير، والضميرُ مفسَّرٌ بالبدل، ويُضْمر الإِبسالُ لما في الإِضمار من التفخيم، كما أضمروا ضمير الأمر والشأن، والتقدير: وذكِّرْ بارتهان النفوس وحبسها بما كسبت كما قالوا: "اللهم صلِّ عليه الرؤوفِ الرحيمِ" وقد أجاز ذلك سيبويه قال: "فإن قلت: "ضربت وضربوني قومك" نصبت، إلا في قول مَنْ قال: أكلوني البراغيث، أوتحملُه على البدل من المضمر. وقال أيضاً: "فإن قلتَ: "ضربني وضربتُهم قومُك" رَفَعْتَ على التقديم والتأخير، إلا أن تَجْعَلَ ههنا البدل كم جعلته في الرفع" انتهى. وقد روي قوله:

1951- ............... ......فاستاكَتْ به عُودِ إسْحِلِ

بجر "عُود" على البدل من الضمير. قلت: أمَّا تفسيرُ الضميرِ غيرِ المرفوع بالبدل فهو قول الأخفش وأنشد عليه هذا العجز وأوله:

إذا هي لم تَسْتَكْ بعودِ أراكةٍ تُنُخَّلَ فاستاكَتْ به عودِ إسحلِ

والبيتُ لطُفَيل الغَنَويّ، يُروى برَفْع "عود" وهذا هو المشهور عند النحاة، ورفعُهُ على إعمالِ الأولِ وهو "تُنُخِّل" وإهمال الثاني وهو "فاستاكَتْ" فأعطاه ضميرَه، ولو أَعْمَلَه لقال: "فاستاكَتْ بعود إسحل" ولا يمكن لانكسار البيت، والروايةُ الأخرى التي استشهد بها ضعيفةٌ جداً لا يعرفها أكثر المُعْربين، ولو استشهد بما لا خلاف فيه كقوله:

1952- على حالةٍ لو أن في القوم حاتِماً على جوده لضَنَّ بالماءِ حاتمِ

بجرِّ "حاتم" بدلاً من الهاء في "بجوده" والقوافي مجورة لكان أَوْلَى والإِبسال: الارتهان، ويقال: أَبْسَلْتُ ولدي وأهلي أي ارْتَهَنْتُهُمْ قال:

1953- وإبسالي بَنِيَّ بغير جُرْمٍ بَعَوْناه ولا بدمٍ مُراق

بَعَوْنا: جَنَيْناَ، والبَعْوُ: الجناية. وقيل: الإِبسال: أن يُسْلِمَ الرجل نفسه للهلكة.
وقال الراغب: "البَسْلُ: ضَمُّ الشيء ومَنْعُه، ولتضمُّنهِ معنى الضمِّ استُعير لتقطُّب الوجه فقيل: هو: باسل ومُتْبَسِلُ الوجه، ولتضمينه معنى المنع قيل للمُحَرَّم والمرتَهَن: "بَسْلٌ" ثم قال: "والفرقُ بين الحرام والبَسْل أنَّ الحرامَ عامٌ فيما كان ممنوعاً منه بالقهر والحكم، والبَسْلُ هو الممنوع بالقهر، وقيل للشجاعة بسالة: إمَّا لِما يُوْصَفُ به الشجاع من عُبوسِ وجهه أو لكونه مُحَرَّماً على أقرانه أو لأنه يمنع ما في حوزته وما تحت يده من أعدائه، والبُسْلَةُ أجرة الراقي، مأخوذة من قول الراقي: أَبْسَلْتُ زيداً أي: جَعَلْتُه محرَّماً على الشيطان أو جَعَلْتُه شجاعاً قوياً على مدافعته، وبَسَل في معنى أَجَلْ وبَسْ" أي: فيكون حرفَ جواب كأجل، واسمَ فعل بمعنى اكتف كـ "بس".
وقوله: { بِمَا } متعلّقٌ بـ "تُبْسَل" أي: بسبب، و"ما" مصدرية أو بمعنى الذي، او نكرة، وأمرها واضح.
قوله: { لَيْسَ لَهَا } هذه الجملة فيها ثلاثة أوجه، أحدها: وهوالظاهر أنها مستأنفةٌ سِيقَتْ للإِخبار بذلك. والثاني: أنها في محل رفع صفة لـ"نفس" والثالث: أنها في محل نصب حالاً من الضمير في "كسبت".
قوله: { مِن دُونِ } في "مِنْ" وجهان، أظهرهما: أنها لابتداء الغاية، والثاني: أنها زائدةٌ، نقله ابن عطية بشيء؛ وإذا كانت لابتداء الغاية ففي ما يتعلَّق به وجهان، أحدهما: أنها حال مِنْ "وليّ" لأنها لو تأخَّرَتْ لكانَتْ صفةً له، فتتعلَّقُ بمحذوف هو حال. والثاني: أنها خبر "ليس" فتتعلق بمحذوف أيضاً هو خبر لـ "ليس" وعلى هذا فيكون "لها" متعلقاً بمحذوف على البيان. وقد مرَّ نظائره، و{ مِن دُونِ ٱللَّهِ } فيه حذفُ مضافٍ أي: من دون عذابِهِ وجزائه.
قوله: { كُلَّ عَدْلٍ } منصوبٌ على المصدرية لأنَّ "كل" بحسب ما تُضاف إليه، هذا هو المشهور، ويجوز نصبُه على المفعول به أي: وإن تَفْدِ يداها كلَّ ما تَفْدِي به لا يُؤخَذُ، فالضميرُ في "لا يُؤْخَذُ" على الأول: قال الشيخ: "عائد على المعدول به المفهوم من سياق الكلام، ولا يعود إلى المصدر، لأنه لا يُسْنَدُ إليه الأخذ، وأمَّا في
{ { وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ } [البقرة: 48] فمعنى المَفْدِيِّ به فيصح" انتهى.
أي: إنه إنما أَسْنَدَ الأخْذَ إلى العدل صريحاً في البقرة، لأنه ليس المرادُ المصدرَ بل الشيءُ المَفْدِيُّ به، وعلى الثاني يعود على "كل عدل" لأنه ليس مصدراً فهو كآية البقرة"
قوله: { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ أُبْسِلُواْ } يجوز أن يكون "الذين" خبراً "ولهم شراب" خبراً ثانياً، وأن يكون "لهم شراب" حالاً: إمَّا من الضمير في "أُبْسِلوا" وإمَّا من الموصول نفسه، و"شرابٌ" فاعل لاعتماد الجارِّ قبله على ذي الحال، ويجوز أن يكون "لهم شراب" مستأنفاً فهذه ثلاثة أوجه في "لهم شراب" ويجوز أن يكون "الذين" بدلاً من "أولئك" أو نعتاً لهم فيتعيَّنُ أن تكون الجملة من "لهم شرابٌ" خيراً للمبتدأ، فتحصَّل في الموصول أيضاً ثلاثة أوجه: كونه خبراً أو بدلاً أو نعتاً، فجاءت مع ما قبلها ستة أوجه في هذه الآية.
و"شراب" يجوز رفعُه مِنْ وجهين: الابتدائية والفاعلية عند الأخفش، وعند سيبويه أيضاً على أن يكون "لهم" هو خبر المبتدأ أو حالاً حيث جعلناه حالاً، و"شراب" مرتفعٌ به لاعتماده على ما تقدَّم، و"من حميمٍ" صفةٌ لـ "شراب" فهو في محلِّ رفع ويتعلق بمحذوف.
و"شراب" فَعَال بمعنى مَفْعول، وفَعال بمعنى مفعول كطعام بمعنى مطعوم وشراب بمعنى مشروب لا ينقاس لا يقال: أَكال بمعنى مأكول، ولا ضَراب بمعنى مضروب. والإِشارة بـ"ذلك" في قول الزمخشري والحوفي إلى الذين اتخذوا، فلذلك أتى بصيغة الجمع، وفي قول ابن عطية وأبي البقاء إلى الحبس المفهوم من قوله "أن تُبْسَلَ نَفْسٌ" إذ المرادُ به عمومُ الأنفسِ فلذلك أُشير إليه بالجمع.