التفاسير

< >
عرض

وَلَمَّا جَآءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِيۤ أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـٰكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسَىٰ صَعِقاً فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْمُؤْمِنِينَ
١٤٣
-الأعراف

الدر المصون

قوله تعالى: { لِمِيقَاتِنَا }: هذه اللامُ للاختصاص وكذا في قوله تعالى: { لِدُلُوكِ ٱلشَّمْسِ } } [الإِسراء: 78]/ وليست بمعنى "عند" كما وَهِمَ بَعضُهم.
قوله: { أَرِنِيۤ } مفعولُه الثاني محذوفٌ، والتقدير: أرني نفسَك أو ذاتك المقدسةَ وإنما حَذْفُه مبالغةٌ في الأدب، حيث لم يواجهْه بالتصريح بالمفعول. وأصل أَرِني: أَرْ إني فنُقِلَتْ حركةُ الهمزة. وقد تقدَّم تحريرُه.
قوله: { لَن تَرَانِي }: "لن" قد تقدَّم أنه لا يلزم مِنْ نفيِها التأبيدُ وإن كان بعضُهم فَهِم ذلك، حتى إن ابن عطية قال: "فلو بَقينا على هذا النفي بمجرده لتضمَّن أن موسى لا يَراه أبداً ولا في الآخرة، لكن وَرَدَ من جهة أخرى الحديثُ المتواتر: أنَّ أهلَ الجنةِ يَرَوْنه". قلت: وعلى تقدير أنَّ "لن" ليست مقتضيةً للتأبيد فكلامُ ابنِ عطية وغيرِه ممن يقول: إن نفي المستقبل بعدها يَعُمُّ جميعَ الأزمنة المستقبلة صحيح لكن لِمَدْرك آخرَ: وهو أن الفعلَ نكرةٌ، والنكرةُ في سياق النفي تعمُّ، وللبحث فيه مجال.
والاستدراكُ في قوله "ولكن انظر" واضحٌ. وقال الزمخشري: "فإن قلت: كيف اتصلَ الاستدراكُ في قوله "ولكن انظر" [بما قبله]؟ قلت: اتصلَ به على معنى أن النظر إليَّ مُحالٌ فلا تطلبه، ولكن اطلب نظراً آخر وهو أن تنظر إلى الجبل" وهذا على رأيه مِنْ أن الرؤية محالٌ مطلقاً في الدنيا والآخرة.
قوله: { جَعَلَهُ دَكّاً } قرأ الأخوان "دَكّاء" بالمدّ على وزن حَمْراء والباقون "دَكّاً" بالقصر والتنوين. فقراءةُ الأخوين تحتمل وجهين أحدهما: أنها مأخوذةٌ مِنْ قولهم: ناقةٌ دكَّاء، أي: منبسطة السَّنام غيرُ مرتفعتِه وإمَّا من قولهم: أرضٌ دكاء للناشزة. وفي التفسير: أنه لم يذهبْ كلُّه، بل ذهب أعلاه فهذا يناسبه. وأمَّا قراءة الجماعة فـ "دَكٌّ" مصدرٌ واقعٌ موقعَ المفعول به، أي مدكوكاً أو مندَكّاً، على حذف مضاف، أي: ذا دَكٍّ. وفي انتصابه على القراءتين وجهان، المشهور: أنه مفعولٌ ثان لـ "جعل" بمعنى صيَّر. والثاني: ـ وهو رأي الأخفش ـ أنه مصدرٌ على المعنى، إذ التقدير: دَكَّه دَكّاً.
وأمَّا على القراءة الأولى فهو مفعولٌ فقط، أي: صَيَّره مثلَ ناقةٍ دكاء أو أرضٍ دكاء. والدكُّ والدقُّ بمعنى وهو تفتيت الشيء وسَحْقُه. وقيل: تسويتُه بالأرض. وقرأ ابن وثاب: "دُكَّا" بضم الدال والقصر، وهو جمع دَكَّاء بالمد كحُمر في حمراء وغُرّ في غَرَّاء، أي جعله قِطَعاً.
قوله: "صَعِقاً" حالٌ مقارنةٌ، والخُرورُ السُّقوط، كذا أطلقه الشيخ، وقيَّده الراغب بسقوطٍ يُسمع له خريرٌ، والخريرُ يقال لصوتِ الماءِ والريح وغيرِ ذلك ممَّا يَسْقُط من علوٍّ. والإِفاقة: رجوعُ الفهمِ والعقل إلى الإِنسان بعد جنونٍ أو سُكرٍ، ومنه إفاقة المريض وهي رجوعُ قوته، وإفاقةُ الحَلْب: وهي رجوع الدَّرِّ إلى الضَّرْع يُقال: استَفِقْ ناقَتَك، أي: اتركها حتى يعودَ لبنُها، والفُواق ما بين حَلْبَتَي الحالب. وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.