التفاسير

< >
عرض

وَلَمَّا سُقِطَ فِيۤ أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ
١٤٩
-الأعراف

الدر المصون

قوله تعالى: { سُقِطَ فَيۤ أَيْدِيهِمْ }:/ الجارُّ قائم مقام الفاعل. وقيل: القائمُ مقامَ [الفاعل] ضميرُ المصدر الذي هو السُّقوط أي: سُقِط السقوط في أيديهم. ونقل الشيخ عن بعضهم أنه قال: "وسقط تتضمَّن مفعولاً وهو ههنا المصدر، أي: الإِسقاط كقولك: "ذُهب بزيد". قال: "صوابه: وهو هنا ضميرُ المصدر الذي هو السُّقوط، لأنَّ "سقط" ليس مصدرُهُ الإِسقاط، ولأن القائمَ مقامَ الفاعل ضميرُ المصدر لا المصدر". وقد نقل الواحدي عن الأزهري أن قولهم "سُقِط في يده" كقول امرئ القيس:

2294ـ دَعْ عنك نَهْباً صِيح في حُجُراتِه ولكنْ حديثاً ما حديث الرواحلِ

في كون الفعل مسنداً للجار كأنه قيل: صاح المنتهبُ في حجراته، وكذلك المراد: "سُقِط في يده"، أي: سَقَطَ الندم في يده" قلت: فقوله: "أي: سقط الندم" تصريحٌ بأن القائمَ مقامَ الفاعل حرفُ الجارِّ لا ضميرُ المصدر. ونَقَل الفراء والزجاج أنه يُقال: سُقِط في يده وأُسقط أيضاً، إلا أن الفراء قال: "سَقَط ـ أي الثلاثي ـ أكثر وأجودُ". وهذه اللفظةُ تُستعمل في التندُّم والتحيُّر.
وقد اضْطَرَبَتْ أقوالُ أهل اللغة في أصلها فقال أبو مروان ابن سراج اللغوي: "قولُ العرب: سُقِط في يده مما أَعْياني معناه". وقال الواحدي: "قد بان من أقوال المفسرين وأهلِ اللغة أن "سُقِط في يده" نَدِم، وأنه يُستعمل في صفة النادم". فأمَّا القول في أصله وما حَدُّه فلم أر لأحدٍ من أئمة اللغة شيئاً أرتضيه إلا ما ذكر الزجاجي فإنه قال: "قوله تعالى: "سُقِط في أيديهم" بمعنى ندموا، نَظْمٌ لم يُسمع قبل القرآن ولم تَعْرفه العرب، ولم يوجدْ ذلك في أشعارهم، ويدلُّ على صحة ذلك أن شعراء الإِسلام لَمَّا سمعوا هذا النظم واستعملوه في كلامهم خفي عليهم وَجْهُ الاستعمال، لأن عادتَهم لم تَجْرِ به فقال أبو نواس:

2295ـ ونشوةٌ سُقِطْتُ منها في يدي

وأبو نواس هو العالِمُ النِّحْرِيْر فأخطأ في استعمال هذا اللفظ لأن فُعِلْتُ لا يُبْنى إلا من فعلٍ متعدٍ و "سَقَط" لازم لا يتعدى إلا بحرف الصفة، لا يقال: "سُقطت" كما لا يُقال: رُغبت وغُضِبت إنما يقال: رُغِب في، وغُضِب على. وذكر أبو حاتم [أن] "سُقِط فلان في يده" بمعنى ندم وهذا خطأ مثلُ قول أبي نواس، ولو كان الأمر كذلك لكان النظم "ولما سُقطوا في أيديهم" و "سُقِط القومُ في أيديهم". وقال أبو عبيدة: "يُقال لمن ندم على أمر وعجز عنه: سُقِط في يده".
وقال الواحدي: "وذِكْرُ اليد ههنا لوجهين أحدهما: أنه يُقال للذي يَحْصُل وإن كان ذلك مما لا يكون في اليد: "قد حَصَل في يده مكروهٌ" يُشَبِّه ما يحصُل في النفس وفي القلب بما يُرى بالعين، وخُصَّت اليدُ بالذِّكر لأنَّ مباشرة الذنوب بها، فاللائمةُ تَرْجِع عليها لأنها هي الجارحة العظمى، فيُسْنَدُ إليها ما لم تباشِرْ كقوله:
{ ذٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ } [الحج: 10] وكثير من الذنوب لم تقدِّمْه اليد. الوجه الثاني: أن الندم حَدَثٌ يحصلُ في القلب، وأثرهُ يظهر في اليد لأن النادمَ يَعَضُّ يدَه ويَضْرب إحدى يديه على الأخرى كقوله: { فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ } [الكهف: 42] فتقليبُ الكف عبارةٌ عن الندم، وكقوله: { { وَيَوْمَ يَعَضُّ ٱلظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ } [الفرقان: 27] فلمَّا كان أثرُ الندم يحصُل في اليدِ مِن الوجه الذي ذكرناه أُضيف سقوطُ الندم إلى اليد؛ لأن الذي يظهر للعيون من فِعْلِ النادم هو تقليبُ الكفِّ وعَضُّ الأنامل واليد، كما أن السرور معنى في القلب يَسْتشعره الإِنسان والذي يظهر من حالة الاهتزاز والحركة والضحك وما يجري مجراه".
وقال الزمخشري: "ولمَّا سُقِط في أيديهم": ولما اشتدَّ ندمهم، لأنَّ مِنْ شأن مَنْ اشتدَّ ندمُه وحسرته أن يَعَضَّ يده غَمَّاً فتصيرَ يدهُ مسقوطاً فيها لأنَّ فاه قد وقع فيها". وقيل: مِنْ عادة النادم أن يُطَأطِئ رأسه ويضع ذَقَنه على يده معتمداً عليها ويصير على هيئة لو نُزعت يده لسقط على وجهه، فكأن اليدَ مسقوط فيها. ومعنى "في": "على"، فمعنى "في أيديهم": على/ أيديهم كقوله:
{ { وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ ٱلنَّخْلِ } [طه: 71]. وقيل: هو مأخوذ من السِّقاط وهو كثرة الخطأ، والخاطِئُ يندم على فِعْله. قال ابن أبي كاهل:

2296ـ كيف يَرْجُون سِقاطي بعدما لَفَّع الراسَ بياضٌ وصَلَعْ

وقيل: هو مأخوذٌ من السَّقيط، وهو ما يُغَشِّي الأرض من الجليد يشبه الثلج؛ يقال منه: سَقَطَت الأرض كما يقال: ثَلَجت، والسَّقْطُ والسَّقيط يذوب بأدنى حرارة ولا يَبْقى، ومَنْ وقع في يده السَّقِيط لم يحصل منه على شيءٍ فصار هذا مثلاً لكل مَنْ خسر في عاقبته ولم يحصل من بغيته على طائل.
واعلم أن "سُقِطَ في يده" عَدَّه بعضُهم في الأفعال التي لا تتصرَّف كنِعْمَ وبئس. وقرأ ابن السَّمَيْفع "سَقَط في أيديهم" مبنيَّاً للفاعِل، وفاعلُه مضمر، أي: سقط الندمُ، هذا قولُ الزجاج. وقال الزمخشري: "سقط العَضُّ". وقال ابن عطية: "سَقَط الخسران والخيبة" وكل هذه أمثلةٌ. وقرأ ابن أبي عبلة "أُسْقِط" رباعياً مبنياً للمفعول. وقد تقدَّم أنها لغةٌ نقلها الفراء والزجاج.
قوله: { وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ } هذه قلبيَّة، ولا حاجةَ في هذه إلى تقديمٍ وتأخير كما زعمَه بعضُهم قال: "تقديره: ولما رأوا أنهم قد ضلُّوا وسُقِط في أيديهم". قال: "لأنَّ الندمَ والتحسُّر إنما يقعان بعد المعرفة".
قوله: { لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا } قرأ الأخَوان: "ترحمنا وتغفر" بالخطاب، "ربَّنا" بالنصب. وهي قراءةُ الشعبي وابن وثاب وابن مصرف والجحدري والأعمش، وأيوب، وباقي السبعة بياء الغيبة فيهما، "ربُّنا" رَفْعاً، وهي قراءة الحسن ومجاهد والأعرج وشيبة وأبي جعفر. فالنصبُ على أنه منادى وناسبه الخطاب، والرفعُ على أنه فاعل، فيجوز أن يكون هذا الكلامُ صَدَرَ من جميعهم على التعاقب، أو هذا من طائفة وهذا من طائفة، فَمَنْ غلب عليه الخوفُ وقَوِي على المواجهة خاطب مستقيلاً من ذنبه، ومَنْ غلب عليه الحياء أخرج كلامه مُخْرج المُسْتحيي من الخطاب، فأسند الفعل إلى الغائب.