التفاسير

< >
عرض

وَهُوَ ٱلَّذِي يُرْسِلُ ٱلرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّىٰ إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ ٱلْمَآءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ كَذٰلِكَ نُخْرِجُ ٱلْموْتَىٰ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
٥٧
-الأعراف

الدر المصون

قوله تعالى: { بُشْراً }: قد تقدَّم خلافُ القراء في إفراد "الريح" وجمعها بالنسبة إلى سائر السور في البقرة. وأمَّا "بُشْراً" فقرأه في هذه السورة ـ وحيث ورد في غيرها من السور ـ نافع وأبو عمرو وابن كثير بضم النون والشين، وهي قراءةُ الحسن وأبي عبد الرحمن وأبي رجاء بخلافٍ عنهم وشيبة بن نصاح والأعرج وعيسى بن عمر وأبي يحيى وأبي نوفل الأعرابيين. وفي هذه القراءة وجهان فيتحصَّل فيها ستة أوجه، أحدها: أنَّ "نُشُراً" جمع ناشر كبازِل وبُزُل وشارِف وشُرُف وهو جمع شاذ في فاعل. ثم "نشر" هذا اختُلِفَ في معناه فقيل: هو على النسب: إمَّا إلى النَّشْر ضد الطيّ، وإمَّا إلى النشور بمعنى الإِحياء كقوله: { وَإِلَيْهِ ٱلنُّشُورُ } [الملك: 15] والمعنى: ذا نشر أو ذا نشور كـ "لابن" و "تامر". وقيل: هو فاعِل مِنْ نَشَر مطاوع أَنْشر يقال: أنشر الله الميت فنشر فهو ناشر وأنشد:

2218ـ حتى يقولَ الناسُ ممَّا رَأَوا يا عجباً للميتِ الناشِرِ

وقيل: ناشر بمعنى مُنْشِر أي: المُحْيي تقول: نشر الله الموتى وأنشرها، ففَعَل وأَفْعَل على هذا بمعنى واحد، وهذه الثالثة ضعيفة.
الوجه الثاني: أن "نُشُراً" جمع نَشُور. هذا فيه احتمالان، أحدهما: ـ وهو الأرجح ـ أنه بمعنى فاعِل، وفَعول بمعنى فاعِل ينقاس جمعُه على فُعُل كصَبُور وصُبُر وشكور وشُكُر. والثاني: أنه بمعنى مفعول كرَكوب وحَلوب بمعنى مَرْكوب ومحلوب قالوا: لأنَّ الريح تُوْصَفُ بالموتِ وتوصفُ بالإِحياء، فمن الأولِ قولُه:

2219ـ إني لأرجو أن تموتَ الريحُ فأقعدُ اليومَ وأستريحُ

ومن الثاني قولهم: "أنشرَ اللهُ الريحَ وأحياها" وفَعول بمعنى مفعول يُجْمع على فُعُل كرسول ورُسُل. وبهذا قال جماعة كثيرة، إلا أن ذلك غيرُ مقيس في المفرد/ وفي الجمع، أعني أنه لا ينقاس فَعول بمعنى مفعول لا تقول: زيد ضَروب ولا قتول بمعنى مضروب ومقتول، ولا ينقاس أيضاً جمعُ فَعُول بمعنى مفعول على فُعُل.
وبيان ستة الأوجه في هذه القراءةِ: أنها جمع لناشِر بمعنى ذا نشر ضد الطيّ. الثاني: جمع ناشِر بمعنى ذي نشور. الثالث: جمع ناشر مطاوع أنشر. الرابع: جمعُ ناشِر بمعنى مُنْشِر. الخامس: جمع نُشور بمعنى فاعل. السادس: جمع نُشور بمعنى مَفْعول.
وقرأ ابنُ عامر بضمِّ النون وسكون الشين وهي قراءةُ ابن عباس وزر ابن حبيش ويحيى بن وثاب والنخعي وابن مصرف والأعمش ومسروق. وقد كُفِينا مؤونةَ تخريج هذه القراءة بما ذُكِر في القراءة قبلَها فإنَّها مخففةٌ منها كما قالوا: رُسْل في رُسُل وكُتْب في كُتُب، فَسَلَبُوا الضمةَ تخفيفاً، وإذا كانوا قد فعلوا ذلك في المفرد الذي هو أخفُّ من الجمع كقولهم في عُنُق: عُنْق، وفي طُنُب، طُنْب فما بالُهم في الجمع الذي أثقل من المفرد؟
وقرأ الأخَوان: "نَشْراً" بفتح النون وسكون الشين. ووجهُها: أنها مصدرٌ واقعٌ موقعَ الحال بمعنى ناشرة أو منشورة أو ذات نشر كلُّ ذلك على ما تقدَّم في نظيره. وقيل: نَشْراً مصدر مؤكِّد؛ لأنَّ أرسل وأنشر متقاربان. وقيل: نَشْراً مصدر على حذف الزوائد أي: إنشاراً، وهو واقعٌ موقعَ الحال أي: مُنْشِراً أو مُنْشَراً حسبَ ما تقدَّم في ذلك.
وقرأ عاصم: "بُشْراً" بالباء الموحدة مضمومةً وسكونِ الشين، وهو جمعُ بشيرة كنذيرة ونُذُر. وقيل: جمع فعيل كقليب وقُلُب ورغيف ورُغُف، وهي مأخوذةٌ في المعنى من قوله تعالى: "وهو الذي يُرْسِلُ الرياحَ مُبَشِّرات" أي تُبَشِّر بالمطر، ثم خُفِّفت الضمَّة كما تقدَّم في "نُشُر". ويؤيد ذلك أن ابنَ عباس والسلمي وابن أبي عبلة قرؤوا بضمِّها، وهي مرويَّةٌ عن عاصم نفسِه. فهذه أربعُ قراءاتٍ في السبع.
والخامسة ما ذكرْتُه الساعة عن ابن عباس ومَنْ معه. وقرأ مسروق: "نَشَراً" بفتح النون والشين، وفيها تخريجان أحدهما: نقله أبو الفتح أنه اسمُ جمعٍ كـ "غَيَب" و "نَشَأ" لغائبة وناشئة. والثاني: أن فَعَلاً بمعنى مفعول كقبَض بمعنى مقبوض. وقرأ أبو عبد الرحمن "بَشْراً" بفتح الباء وسكون الشين. ورُوِيَتْ عن عاصم أيضاً على أنه مصدرُ "بَشَر" ثلاثياً. وقرأ ابن السَّمَيْفَع "بُشْرى" بزنة رُجعى وهو مصدرٌ أيضاً. فهذه ثمان قراءات: أربع مع النون وأربع مع الباء، هذا ما يتعلَّق بالقراءات وما هي بالنسبة إلى كونها مفردة أو جمعاً.
وأمَّا نصبها فإنها في قراءة نافع ومن معه وابنِ عامر منصوبةٌ على الحال من "الرياح" أو "الريح" حسبما تقدَّم في الخلاف. وكذلك هي في قراءة عاصم وما يُشْبهها. وأمَّا في قراءة الأخوين ومسروق فتحتمل المصدرية أو الحاليةَ، وكلُّ هذا واضح وكذلك قراءة بُشْرى بزنة رُجْعى. ولا بد من التعرُّض لشيء آخر وهو أنَّ مَنْ قرأ "الرياح" بالجمع وقرأ "نُشْراً" جمعاً كنافع وأبي عمرو فواضحٌ.
وأمَّا مَنْ أفرد "الريح" وجمع "نشراً" كابن كثير فإنه يجعلُ الريحَ اسم جنس فهي جمع في المعنى فوَصَفَها بالجمع. كقول عنترة:

2220ـ فيها اثنتانِ وأربعونَ حَلُوبةً سُوداً كخافيةِ الغُرابِ الأسْحَمِ

والحالية في بعض الصور يجوز أن تكون مِنْ فاعل "يُرْسل" أو مفعوله، وكلُّ هذا يُعْرف مما قَدَّمْتُه فلا حاجةَ إلى ذِكْر كلِّ صورةٍ بلفظها. و "بين" ظرف لـ "يُرْسل" أو للبشارة فيمن قرأه كذلك.
وقوله: { حَتَّىٰ إِذَآ أَقَلَّتْ } غايةٌ لقوله "يرسل". وأقلَّتْ: أي حَمَلَتْ، مِنْ أَقْلَلْتُ كذا أي حملتُه بسهولة، وكأنه مأخوذ من القِلَّة لأنه يقال: أَقَلَّه أي: حَمَله بسهولة فهو مستقلٌّ لما يحمله. والقُلَّة بضم القاف هذا الظرفُ المعروف، وقِلال هَجَر كذلك لأنَّ البعير يُقِلُّها أي يَحْملها. والسَّحاب تقدم تفسيره، وأنه يُذَكَّر ويُؤَنَّثُ، ولذلك عاد الضمير عليه مذكَّراً في قوله "سُقْناه". ولو حُمِل على المعنى كما حُمِل قوله "ثقالاً" فجُمِع لقال "سقناها". و "لبلدٍ" جعل الزمخشري اللامَ للعلة أي: لأجلِ بلده. قال الشيخ: "فرقٌ بين قولك:/ سُقْت له مالاً، وسُقْتُ لأجله مالاً، فإنَّ "سُقْت له" أَوْصَلْتَه إليه وأَبْلَغْته إياه، بخلاف "سُقْته لأجله" فإنه لا يلزم منه إيصاله له، فقد يسوق المال لغيري لأجلي وهو واضحٌ. وقد تقدَّم الخلافُ في تخفيف "ميت" وتثقيله في آل عمران. وجاء هنا وفي الروم "يرسل" بلفظ المستقبل مناسَبةً لما قبله، فإنَّ قبله: { ادْعُوه خَوْفاً } وهو مستقبل. وفي الروم { ليَجْزي الذين } وهو مستقبل. وأمَّا في الفرقان وفاطر فجاء بلفظ الماضي "أرسل" لمناسبةِ ما قبله وما بعده في المضيّ؛ لأنَّ قبله: { ألم تَرَ إلى ربِّك كيفَ مَدَّ الظلَّ" } وبعده { مَرَجَ البحرَيْن }، فناسب ذلك الماضي، ذكره الكرماني.
وقوله: { فَأَنْزَلْنَا بِهِ } الضميرُ في "به" يعودُ على أقربِ مذكورٍ وهو "بلد ميت" وعلى هذا فلا بد من أن تكون الباءُ ظرفيةً بمعنى: أنزلنا في ذلك البلد الميت الماء. وجعل الشيخُ هذا هو الظاهر. وقيل: الضمير يعود على السحاب. ثم في الباء وجهان، أحدُهما: هي بمعنى "مِنْ" أي: فأنزلنا من السحاب الماء. والثاني: أنها سببيةٌ أي: فأنزلْنا الماءَ بسبب السحاب. وقيل: يعودُ على السَوْق المفهومِ من الفعل. والباءُ سببيةٌ أيضاً أي: فأنزلْنا بسبب سَوْقِ السحاب. وهو ضعيف لعَوْد الضمير على غيرِ مذكور مع إمكان عَوْدِه على مذكور.
وقوله: { فَأَخْرَجْنَا بِهِ } الخلافُ في هذه الهاء كالذي في قبلها، ونزيد عليه وجهاً أحسنَ منها وهو العَوْدُ على الماء، ولا ينبغي أن يُعْدَلَ عنه و "مِنْ" تبعيضيةٌ أو ابتدائية وقد تقدَّم نظيرُه. و "كذلك" نعتُ مصدر محذوف أي: يُخْرج الموتى إخراجاً كإخراجنا هذه الثمراتِ.