التفاسير

< >
عرض

مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
١٠٦
-البقرة

التفسير الكبير

قوله عَزَّ وَجَلَّ: { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا }؛ قيل: سببُ نزول هذه الآية: أنَّ اليهودَ كانوا يقولون حين حُوِّلت القبلةُ إلى الكعبة: إنْ كانَ الأولُ حقّاً فقد رجعتُم، وإن كان الثاني حقّاً فقد كنتم على الباطلِ. وقيل: سببهُ: أنَّ اليهود كانوا يُنْكِرُونَ نسخَ الشرائع؛ ويقولون: إن النسخَ سببُ الندامة، ولا يجوزُ ذلك على الله. فَنَزلت هذه الآية ردّاً عليهم وبيَّن أنه يدبرُ الأمرَ كيف يشاء.
ومعناهُ: ما نُبدِّلْ من آية أو نتركْها غيرَ منسوخة نأت بخيرٍ من المنسوخة؛ أي أكثرُ في الثواب. وقيل: ألْيَنُ، وأسهلُ على الناس؛ أو مثلها في المصلحةِ والثواب. قيل: إن قولَه: { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا }، مثل الأمرِ بالقتال؛ فرضَ اللهُ في القتال أوَّل ما فرضَ في الجهاد بأن يكونَ كلُّ مسلمٍ بدل عشرةٍ من الكفار، وكان لا يحلُّ له أن يَفِرَّ من عشرةٍ كما قال تعالى:
{ { إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ } [الأنفال: 65] ثُم نُسِخَ بقوله: { { ٱلآنَ خَفَّفَ ٱللَّهُ عَنكُمْ } [الأنفال: 66] الآيةُ. ولَم يقل أحدٌ إن بعض آيات القرآن خير من بعض في التلاوة والنظم؛ إذ جميعه معجزٌ.
وأما قَوْلُهُ تَعَالَى: { أَوْ مِثْلِهَا }؛ فهو مثل آيةُ القِبلة جعلَ الله ثوابَ الصلاةِ إلى الكعبة بعد النسخِ مثلَ ثواب الصلاةِ إلى بيتِ المقدس قبلَ النسخ. وروي أن المشركين: قالوا: ألا تَرَوْنَ إلى مُحَمَّدٍ يأمرُ أصحابَهُ بأمرٍ ثم ينهاهم عنهُ، ويأمرُهم بخلافهِ، ويقول اليومَ قولاً ويرجعُ عنه غداً، ما هذا القرآنُ إلا كلامُ محمَّدٍ يقولهُ من تِلْقَاءِ نفسه، وهو كلامٌ يناقضُ بعضُه بعضاً. فأنزلَ الله تعالى:
{ { وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوۤاْ إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [النحل: 101]. وأنزل أيضاً: { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا }.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { مَا نَنسَخْ } قرأ ابن عامر (نُنْسِخُ) بضم النون وكسر السين، ومعناه على هذه القراءة نجعله نسخةً من قولك: نسخت الكتابَ؛ إذا كتبتَهُ. وقرأ الباقون: (نَنْسَخْ) بفتح النون والسين.
وقوله { أَوْ نُنسِهَا } قراءة سعيد بن المسيب وشيبة ونافع وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي (نُنْسِيْهَا) بضم النون وكسر السين، ومعناه: نأمره بتركها. وقرأ أُبي ابن كعب (أو نُنْسِكْ). وقرأ عبدالله (مَا نُنْسِكْ مِن آيَةٍ أوْ نَنْسَخْهَا). وقرأ سالِمُ مولَى حذيفةَ: (أو نُنْسِكَهَا). وقرأ أبو حاتم: (أوْ نُنِسِّهَا) بالتشديد. وقرأ الضحاك: (أوْ تُنْسَهَا) بضم التاء وفتح السين. وقرأ سعدُ بن أبي وقاص: (أوْ تَنْسَاهَا) بتاء مفتوحة. وعن القاسمِ بن رَبيعة قال: سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ أبي وَقَّاص يَقْرَأُ (أوْ تَنْسَهَا)، فَقُلْتُ: إنَّ سَعِيْدَ ابْنَ الْمُسَيَّب يَقْرَأُ (أوْ تَنْسَاهَا) فَقَالَ: (إنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَنْزِلْ عَلَى آلِ الْمُسَيَّب. قَالَ اللهُ تَعَالَى: لِنَبيِّهِ صلى الله عليه وسلم:
{ { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَىٰ } [الأعلى: 6] { { وَٱذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } [الكهف: 24]).
وقرأ عمرُ بن الخطاب وابن عباس وعطاء وابن كثير وأبو عمرو والنخعي: (أو نَنْسَأْهَا) بفتح النون الأُولى وفتح السين وبعدها همزةٌ مهموزة، ومعناها: نَتْرُكْهَا، يقال: نسيتُ الشيء؛ إذا تركتُه، ومنه قَوْلُهُ تَعَالَى:
{ { نَسُواْ ٱللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } [التوبة: 67] أي فتَرَكَهم. وقيل: معناه نؤخِّرُها فلا نبدلُها ولا ننسخها، يقال: نسأَ اللهُ في أجَلِهِ؛ وأنسَأَ اللهُ في أجله، ومنه النسيئةُ في البيع.
قَوْلُُهُ تَعَالَى: { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا } أي بما هو أسهلُ وأنفع وأكثر أجراً، لا أن آية خيرٌ من آيةٍ؛ لأن كلام الله واحد، وكله خير. { أَوْ مِثْلِهَا } يعني في المنفعة والثواب. قَوْلُهُ تَعَالَى: { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }؛ أي من النسخ والتبديل. قال الزجَّاج: (لفظه استفهامٌ، ومعناه التوقيفُ والتقرير).