التفاسير

< >
عرض

وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا ٱلْقِبْلَةَ ٱلَّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ
١٤٣
-البقرة

التفسير الكبير

قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً }؛ أي عَدْلاً؛ وقيل: خِيَاراً، يقالُ في صفةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: [هُوَ أوْسَطُ قُرَيْشٍ حَسَباً] ويقالُ: فلانٌ وسيطٌ في حَسَبهِ؛ أي كامِلٌ مُنْتَهٍ في الكمالِ؛ ولأن المتوسِّطَ في الأمور لا يفرِّطُ فَيَغْلُو ولا يُقَصِّرُ فَيَتَّضِعُ، فهذه الأمةُ لم تَغْلُو في الأنبياءِ كَغُلُوِّ النصارى حيث قالُوا: المسيحُ ابن الله! ولم يقصَّروا كتقصيرِ اليهود حيث كذَّبوا الأنبياءَ وقَتَلُوهُمْ. وأصلهُ أن خيرَ الأشياءِ أوسطُها.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ }؛ أي شهداءَ للنبيين صلوات الله عليهم بالتبليغِ. وقد يقامُ مقام اللام في مثلِ قوله:
{ { وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ } [المائدة: 3] أي للنُّصب؛ وقولهُ تعالى: { وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً }؛ أي ويكون مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم عليكم شهيداً معدِّلاً مزكّياً لكم، وذلك أن الله تعالى يجمعُ الأولين والآخِرين في صعيدٍ واحد، ثم يقولُ لكفار الأمم: { { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ } [الملك: 8]، فينكرون ويقولون: ما جاءَنا من نذير، فيسألُ الأنبياءَ عن ذلك فيقولون: قد بلَّغناهم. فيسألهم البينةَ إقامةً للحجة عليهم؛ وهو أعلم بذلك، فيؤتى بأمة مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فيشهدونَ لَهم بالتبليغِ، فتقولُ الأمم الماضية: من أينَ عَلِموا ذلك وبيننا وبينهم مدةٌ مديدة؟ فيقولوا: عَلِمْنَا ذلك بإخبار الله تعالى إيَّانا في كتابهِ الناطق على لسان رسولِ الله، فيؤتَى بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ فيزكِّي أُمَّتَهُ ويشهدُ بصدقهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَمَا جَعَلْنَا ٱلْقِبْلَةَ ٱلَّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ }؛ أي ما أمرتُك يا مُحَمَّدُ بالتوجه إلى بيت المقدس ثم بالتحويل منها إلى الكعبة إلا ليتميز من يتبع الرسول ممن يرجع إلى دينه الأول. وقيل: ومعناه: { وَمَا جَعَلْنَا ٱلْقِبْلَةَ ٱلَّتِي } أنتَ { عَلَيْهَآ } وهي الكعبةُ لقوله تعالى:
{ { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ } [آل عمران: 110] أي أنتم؛ إلا لنرى ونُمَيِّزَ من يتبع الرسول في القبلة ممن ينقلبُ على عَقِبَيْهِ فيرتدَّ ويرجع إلى قِبلته الأُولَى. قولهُ: { لِنَعْلَمَ } أي ليتقرَّر علمنا عندكم. وقيلَ: معناه: ليعلَمَ محمدٌ صلى الله عليه وسلم؛ فأضاف علمه إلى نفسهِ تفصيلاً وتخصيصاً كقولهِ تعالى: { { إِنَّ ٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱللَّهَ } [الأحزاب: 57].
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً }؛ أي وإن كان اتباعُ بيت المقدس ثم الانتقال إلى الكعبة لشديدٌ؛ { إِلاَّ عَلَى ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ }؛ أي حَفِظَ الله قلوبَهم على الإسلام. قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ }؛ أي تصديقكم بالقبلتين. وقيل: معناهُ: وما كان الله ليفسدَ صلاتكم إلى بيت المقدس؛ وذلك أنَّ حُيَيَّ ابْنَ أخْطَبَ وَأصْحَابَهُ مِنَ الْيَهُودِ قَالُواْ لِلْمُسْلِمِيْنَ: أخْبرُونَا عَنْ صَلاَتِكُمْ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ أكَانَتْ هُدًى أمْ ضَلاَلَةً؟ فَإِنْ كَانَتْ هُدًى فَقَدْ تَحَوَلْتُمْ عَنْهَا! وَإنْ كَانَتْ ضَلاَلَةً فَقَدْ ذَنَّبْتُمُ اللهَ بها. وَمَنْ مَاتَ مِنْكُمْ عَلَيْهَا فَقَدْ مَاتَ عَلَى الضَّلاَلَةِ؛ وَكَانَ قَدْ مَاتَ قَبْلَ التَّحْوِيْلِ إلَى الْكَعْبَةِ سَعْدُ بْنُ زُرَارَةَ مِنْ بَنِي النَّجَّار؛ وَالْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ وَرِجَالٌ آخَرُونَ. فَانْطَلَقَتْ عَشَائِرُهُمْ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرُوهُ بذَلِكَ، وَقَالُواْ: إنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ حَوَّلَكَ إلَى قِبْلَةِ إبْرَاهِيْمَ؛ فَكَيْفَ بإخْوَانِنَا الَّذِيْنَ مَاتُواْ وَهُمْ يُصَلُّونَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ؟ فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } أيْ صَلاَتكُمْ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ }، الرَّءُوفُ: شديدُ الرحمةِ؛ وهو الذي لا يضيَّعُ عنده عملُ عامل. رَحِيْمٌ بهم حين قبل طاعتهم وتعبدهم في كل وقت بما يصلحُ لَهم. والجمع بين الرحمةِ والرأفة في الآية للتأكيدِ كما في قوله:
{ ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } [الفاتحة: 3].
وفي (رَءُوفٌ) ثلاث قراءات: مهموز مثقَّل؛ وهي قراءة شيبة ونافع وابن كثير وابن عامر وحفص، واختاره أبو حاتم. قال الشاعرُ:

سَنُطِيْعُ رَسُولَنَا وَنُطِيْعُ رَبَّاهُ هُوَ الرَّحْمَنُ كَانَ بنَا رَءُوفَا

و(رَوُوفٌ) مثقل غير مهموز؛ وهي قراءة أبي جعفر. و(رؤف) مهموز مخفف؛ وهي قراءة الباقين، واختاره أبو عبيد. قال جرير:

بتَّ تَرَى لِلْمُسْلِمِيْنَ عَلَيْكَ حَقّاً كَفِعْلِ الْوَالِدِ الرَّؤُفِ الرَّحِيْمِ

والرأفة: أشدُّ الرحمة.