التفاسير

< >
عرض

أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ ٱلصِّيَامِ ٱلرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَٱلآنَ بَٰشِرُوهُنَّ وَٱبْتَغُواْ مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلْخَيْطُ ٱلأَبْيَضُ مِنَ ٱلْخَيْطِ ٱلأَسْوَدِ مِنَ ٱلْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصِّيَامَ إِلَى ٱلَّليْلِ وَلاَ تُبَٰشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَٰكِفُونَ فِي ٱلْمَسَٰجِدِ تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ ءَايَٰتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ
١٨٧
-البقرة

التفسير الكبير

قوله عَزَّ وَجَلَّ: { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ ٱلصِّيَامِ ٱلرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَآئِكُمْ }؛ قال المفسِّرونَ: كان الرجلُ في ابتداء الأمرِ إذا أفطرَ أُحِلَّ له الطعامُ والشراب والجماعَ إلى أن يصلَِّي العشاء الأخيرة أو ترَقَّدَ قبلَها، فإذا صلَّى العشاء ورَقَدَ قبلَ الصلاة ولَم يُفطِرْ، حَرُمَ عليهِ الطعامُ والشرابُ والجماعُ إلى مثلِها من القَابلَةِ. ثُم "إنَّ عُمَرَ رضي الله عنه وَاقَعَ أهْلَهُ بَعْدَمَا صَلَّى الْعِشَاءَ؛ فَلَمَّا اغْتَسَلَ أخَذَ يَبْكِي وَيَلُومُ نَفْسَهُ، ثُمَّ أتَى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم؛ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنِّي أعْتَذِرُ إلَيْكَ وَإلَى اللهِ مِنْ نَفْسِي هَذِهِ الْخَاطِئَةُ، إنِّي رَاجَعْتُ أهْلِي بَعْدَمَا صَلَّيْتُ صَلاَةَ الْعِشَاءِ الأخِيْرَةِ؛ فَوَجَدْتُ رَائِحَةً طَيِّبَةً فَسَوَّلَتْ لِي نَفْسِي فَجَامَعْتُ أهْلِي، فَهَلْ لِي مِنْ رُخْصَةٍ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَا كُنْتَ جَدِيْراً بذَلِكَ يَا عُمَرُ! فَقَامَ رجَالٌ فَاعْتَرفُواْ بالَّذِي كَانُواْ صَنَعُواْ بَعْدَ الْعِشَاءِ" ، فَنَزَلَتْ فِي عُمَرَ وَأصْحَابهِ { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ ٱلصِّيَامِ ٱلرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَآئِكُمْ } أيْ أُبيْحَ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ.
قرأ ابنُ مسعود والأعمشُ: (الرُّفُوثُ) برفع الواو والفاء وبواو. والرفوثُ والرفثُ كنايةٌ عن الجِماع. قال ابنُ عباس: (إنَّ اللهَ حَييٌّ كَرِيْمٌ؛ فَكُلُّ مَا ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْمُبَاشَرَةِ وَالْمُلاَمَسَةِ وَالإفْضَاءِ وَالدُّخُولِ، فَإِنَّمَا يُرِيْدُ بهِ الْجِمَاعَ). قال الشاعرُ:

فَضَلْنَا هُنَالِكَ فِي نِعْمَةٍ وَكُلِّ اللَّذَاذَةِ غَيْرُ الرَّفَثِ

وقال القُتَيبيُّ: (الرَّفَثُ هُوَ الإفْصَاحُ عَمَّا تُحِبُّ أنْ يُكْنَى بهِ عَنْ ذِكْرِ النِّكَاحِ؛ وَأصْلُهُ الْفُحْشُ وَالْقَوْلُ الْقَبيْحُ). وقال الزجَّاجُ: (الرَّفَثُ كُلَّ كَلِمَةٍ جَامِعَةٍ لِكُلِّ مَا يُرِيْدُهُ الرِّجَالُ مِنَ النِّسَاءِ).
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ }؛ أي هن سَكَنٌ لكم وأنتم سَكَنٌ لَهن؛ قالَهُ أكثرُ المفسِّرين. ونظيرهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
{ { وَجَعَلْنَا ٱلَّيلَ لِبَاساً } [النبأ: 10] أي سَكَناً، ودليلهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: { { وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا } [الأعراف: 189].
وقال أهلُ المعانِي: اللِّبَاسُ: الشِّعَارُ الذي يلي الجلدَ من الثياب؛ فسمي كل واحدٍ من الزَّوجَين لِبَاساً؛ لتجردُّهما عند النومِ واجتماعهما في ثوبٍ واحدٍ؛ وانضمامِ جسدٍ كلِّ واحد منهما إلى جسد صاحبه، حتى يصيرَ كلُّ واحد منهما لصاحبهِ كالثَّوب الذي يلبسهُ. وقال بعضُهم: يقال: لِمَا سترَ الشيءَ وواراهُ لباساً، فجازَ أن يكون كلُّ واحد منهما لصاحبه سِتراً عما لا يحل، كما روي في الخبر
"مَنْ تَزَوَّجَ فَقَدْ أحْرَزَ نِصْفَ دِيْنِهِ" .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ }؛ أي عَلِمَ اللهُ أنكم كنتم تَظْلِمُونَ أنفُسَكم بمعصيتكم وجِماعِكم بعد العشاءِ الأخيرة في ليالِي الصَّومِ فتجاوزَ عنكم ولَم يعاقِبْكم على ذلك وعفَا عنكم ذنُوبَكم. قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَٱلآنَ بَٰشِرُوهُنَّ }؛ أي جامِعُوهن في ليالِي الصومِ فهو حلالٌ لكم. سُميت الْمُجَامَعَةُ مباشرةً؛ لتلاصُقِ بَشَرَةِ كلِّ واحد منهما لصاحبهِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: { وَٱبْتَغُواْ مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمْ }؛ أي واطلبُوا ما قضَى اللهُ لكم من الولدِ. قال مجاهدُ: (إنْ لَمْ تَلِدْ هَذِهِ فَهَذِهِ). وقال ابنُ زيدٍ: ((وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) أيْ "مَا" أحَلَّ لَكُمْ مِنَ الْجِمَاعِ). وقرأ معاذُ بن جبل: (وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ مِنَ الاتِّبَاعِ) يعنِي ليلةَ القدر، وكذلك روى أبو الجوزاء عن ابنِ عباس. وقرأ الأعمش: (وَأتُواْ مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) أي افعَلوا.
وأشبهُ الأقاويلِ فظاهرُ الآية في تأويلِ قوله: (وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) قول من تَأَوَّلَهُ على الولد؛ لأنه عقيب قوله (فَبَاشِرُوهُنَّ) وهو أمرٌ بإباحةِ الطلب وندبٌ كقوله صلى الله عليه وسلم:
"تَنَاكَحُواْ تَكَثرَوُا، فإنِّي أُبَاهِي بكُمُ الأُمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى بالسَّقَطِ" .
وقال أهلُ الظاهر: هو أمرُ إيجابٍ وحَتْْمٍ يدلُّ عليه ما روى أنس بن مالك: "أنَّ امْرَأةً كَانَ يُقَالُ لَهَا الْخَوْلاَءُ عَطَّارَةُ أهْلِ الْمَدِيْنَةِ، دَخَلَتْ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا؛ فَقَالَتْ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِيْنَ، زَوْجِي فُلاَنٌ أَتَزَيُّنُ لَهُ كُلَّ لَيْلَةٍ وَأتَطَيَّبُ كَأَنِّي عَرُوسٌ زُفَّتْ إلَيْهِ، فَإذَا أوَى إلَى فِرَاشِهِ دَخَلْتُ فِي لِحَافِهِ ألْتَمِسُ بذَلِكَ رضَى اللهِ تَعَالَى، فَحَوَّلَ وَجْهَهُ عَنِّي أرَاهُ قَدْ أبْغَضَنِي؟ فَقَالَتْ: اجْلِسِي حَتَّى يَدْخُلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَتْ: فَبَيْنَمَا أَنَا كَذَلِكَ إذْ دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَا هَذِهِ الرَّوَائِحُ الَّتِي أجِدُهَا، هَلْ أتَتْكُمُ الْخَوْلاَءُ؟ ابْتَعْتُمْ مِنْهَا شَيْئاً؟ قَالَتْ عَائِشَةُ: لاَ وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَصَّتْ عَلَيْهِ الْخَوْلاَءُ قِصَّتَهَا، فَقَالَ لَهَا: اذْهَبي وَاسْمَعِي لَهُ وَأَطِيْعِي فَقَالَتْ: أفَعْلُ يَا رَسُولَ اللهِ، فَمَا لِي مِنَ الأَجْرِ؟ قَالَ: مَا مِنِ امْرَأةٍ رَفَعَتْ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا وَوَضَعَتْهُ تُرِيْدُ الإحْسَانَ إلاَّ كَتَبَ اللهُ لَهَا حَسَنَةً، وَمَحَى عَنْهَا سَيِّئَةً، وَرَفَعَ لَهَا دَرَجَةً. وَمَا مِنِ امْرَأةٍ حَمَلَتْ مِنْ زَوْجِهَا حِيْنَ تَحْمِلُ إلاَّ كَتَبَ اللهُ لَهَا مِنَ الأَجْرِ مِثْلَ الْقَائِمِ لَيْلَةَ الصِّيََامِ نَهَارَهُ وَالْغَازي فِي سَبيْلِ اللهِ. وَمَا مِن امْرَأةٍ يَأْتِيْهَا طَلْقٌ إلاَّ كَتَبَ اللهُ لَهَا بكُلِّ طَلْقَةٍ عِتْقَ نَسْمَةٍ؛ وَبكُلِّ رَضْعَةٍ عِتْقَ رَقَبَةٍ. فَإذَا فَطَمَتْ وَلَدَهَا نَادَى مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: أيَّتُهَا الْمَرْأةُ قَدْ كُفِيْتِي بالْعَمَلِ فِيْمَا مَضَى، فَاسْتَأْنِفِي الْعَمَلَ فِيْمَا بَقِيَ" .
قَالَتْ عَائشة: قَدْ أُعْطِيَ النِّسَاءُ خَيْراً كَثِيْراً، فَمَا بَالُكُمْ يَا مَعْشَرَ الرِّجَالِ؛ فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَا مِنْ رَجُلٍ أخَذَ بيَدِ امْرَأتِهِ يُرَاودُهَا إلاَّ كَتَبَ اللهُ لَهُ حَسَنَةً؛ وَإنْ عَانَقَهَا فَعَشْرُ حَسَنَاتٍ؛ وَإنْ قَبَّلَهَا فَعُشْرُونَ حَسَنَةً؛ وَإنْ أتَاهَا كَانَ خَيْراً مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيْهَا، فَإذَا قَامَ لِيَغْتَسِلَ لَمْ يُمِرَّ الْمَاءَ عَلَى شَعْرَةٍ مِنْ جَسَدِهِ إلاَّ تُمْحَى عَنْهُ سَيِّئَةٌ وَيُعْطَى لَهُ دَرَجَةٌ، وَيُعْطَى بغُسْلِهِ خَيْراً مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيْهَا، وَإنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يُبَاهِي بهِ الْمَلاَئِكَةَ، يَقُولُ: أُنْظُرُواْ إلَى عَبْدِي قَامَ فِي لَيْلَةٍ بَاردَةٍ يَغْتَسِلُ مِنَ الْجَنَابَةِ، يَتَيَقَّنُ بأَنِّي رَبُّهُ، اشْهَدُواْ أنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُ" .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلْخَيْطُ ٱلأَبْيَضُ مِنَ ٱلْخَيْطِ ٱلأَسْوَدِ مِنَ ٱلْفَجْرِ }؛ هذا أمرُ إباحةٍ مثل { { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَٱصْطَادُواْ } [المائدة: 2] وشبهه. نزلتْ في رجلٍ من الأنصار يسمى صِرْمةَ بن أنس هكذا قال الكلبيُّ. وقال معاذُ بن جبل: (اسْمُهُ أبُو صِرْمَةَ). وقال عكرمةُ والسديُّ: (اسْمُهُ أبُو أقْيَسَ بْنِ صِرْمَةَ). وقال مقاتلُ: (صِرْمَةُ بْنُ إيَاسٍ).
وكانت قصتهُ:
"أنَّهُ ظَلَّ نَهَارَهُ يَعْمَلُ فِي أرْضٍ لَهُ وَهُوَ صَائِمٌ، فَلَمَّا أمْسَى قَالَ لأَهْلِهِ: قَدِّمِي الطَّعَامَ، فَأَرَادَتِ الْمَرْأَةُ أنْ تُطْعِمَهُ شَيْئاً سُخْناً، فَأَخَذَتْ تَعْمَلُ لَهُ سَخْنِيَّةً، وَكَانَ ذَلِكَ الْوَقْتُ مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ أوْ نَامَ حَرُمَ عَلَيْهِ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ وَالْجِمَاعُ، فَلَمَّا فَرَغَتْ مِنَ طَبْخِ طَعَامِهِ؛ إذْ بهِ قَدْ نَامَ فَأَيْقَظَتْهُ فَكَرِهَ أنْ يَعْصِيَ اللهَ تَعَالَى وَرَسُولَهُ، فَأَبَى أنْ يَأْكُلَ فَأَصْبَحَ صَائِماً مَجْهُوداً، فَلَمْ يَنْتَصِفِ النَّهَارُ حَتَّى غُشِيَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا أفَاقَ أتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ أجْهَدَهُ الصَّوْمُ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: [يَا أبَا قَيْسٍ، مَا لَكَ طَرِيْحاً!] قَالَ: ظَلَلْتُ أمْسَ فِي النَّخْلِ نَهَاري كُلَّهُ أجُرُّ بالْجَرِيْدِ حَتَّى أمْسَيْتُ. - وَفِي بَعْضِ النُسَخِ: أجُرُّ الْجَرِيْدَ - فَأَتَيْتُ أهلي، فَأَرَادَتِ امْرَأتِي أنْ تُطْعِمَنِي شَيْئاً سُخْناً، فَأَبْطَأَتْ عَلَيَّ فَنِمْتُ، فَأَيْقَظُونِي وَقَدْ حَرُمَ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ؟ فَطَوَيْتُ فَأَصْبَحْتُ قَدْ أجْهَدَنِي الصَّوْمُ. فَاغْتَمَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: { وَكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلْخَيْطُ ٱلأَبْيَضُ مِنَ ٱلْخَيْطِ ٱلأَسْوَدِ مِنَ ٱلْفَجْرِ }" . أي كلُوا في لَيالِي الصَّوْمِ واشربُوا فيها حتى يتبينَ لكم بياضُ النهار وضَوءَ يْهِ من سوادِ الليل وظلمتهِ، كذا قال المفسِّرونَ. وَقِيْلَ: معناهُ حتى يتبينَ لكم الفجرُ الأولُ من الثانِي، قال الشاعرُ:

الْخَيْطُ الأَبْيََضُ قَبْلَ الصُّبْحِ مُنْصَدِعٌ وَالْخَيْطُ الأَسْوَدُ حِيْنَ اللَّيْلِ مَرْكُومُ

وعن عديِّ بن حاتَم قال: " عَلَّمَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الصَّلاَةَ وَالصِّيَامَ فَقَالَ: صَلِّ كَذَا وَكَذَا، وَصُمْ كَذَا وَكَذَا، فَإذَا غَابَتِ الشَّمْسُ فَكُلْ وَاشْرَبْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الْخَيْطُ الأَبَيْضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ؛ وَصُمْ ثَلاَثِيْنَ يَوْماً إلاَّ أنْ تَرَى الْهِلاَلَ قَبْلَ ذَلِكَ قَالَ: فَأَخَذْتُ خَيْطَيْنِ مِنْ حَرِيْرٍ أبْيَضَ وَأسْوَدَ، وَكُنْتُ أنْظُرُ فِيْهِمَا فَلاَ يَتَبَيَّنُ لِي، فَذَكَرْتُُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، فَقَالَ: يَا عَدِي، إنَّمَا ذَلِكَ بَيَاضُ النَّهَارِ مِنْ سَوَادِ اللَّيْلِِ " .
وقوله: { مِنَ ٱلْفَجْرِ } يعني المستطيرَ الذي ينتشرُ ويأخذ الأفقَ؛ وهو الثانِي؛ وهو الفجرُ الصادقُ الذي تحلُّ فيه الصَّلاةُ؛ ويحرمُ فيه الطعامُ على الصِيَّام. وأما الفجرُ الأول؛ وهو الذي يَسْتَطِعُ في السَّماءِ مستطيلاً كذنب السَّرْحَانِ ولا ينتشرُ؛ فذلك من الليلِ لا تحلُّ الصلاةُ فيه، ولا يحرمُ الطعام فيه على الصائمِ؛ وهو الفجرُ الكاذب.
وعن سَمُرَةَ بن جُنْدُبٍ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:
"لاَ يَمْنَعُكُمْ مِنَ السُّحُور أذانُ بلاَلٍ، وَلاَ الصُّبْحُ الْمُسْتَطِيْلُ؛ وَلَكِنِ الصُّبْحُ الْمُسْتَطِيْرُ فِي الأُفُقِ" .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصِّيَامَ إِلَى ٱلَّليْلِ }؛ قال عبدُالله بنُ أبي أوفَى:" "كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَسِيْرٍ وَهُوَ صَائِمٌ؛ فَلَمَّا غَرَبَتِ الشَّمْسُ قَالَ لِرَجُلٍ: انْزِلْ فَأَخْرِجْ لِي مَاءً؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَوْ أمْسَيْتَ؟ قَالَ: انْزِلْ فَأَخْرِجْ لِي مَاءً فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنَّ عَلَيْنَا نَهَاراً؟ فَقَالَ لَهُ الثَّالِثَةَ؛ فَنَزَلَ فَخَرَجَ لَهُ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إذَا أقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَا هُنَا، وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَا هُنَا، فَقَدْ أفْطَرَ الصَّائِمُ. وفي بعضِ الألفاظ: أكَلَ أوْ لَمْ يَأْكُلْ" .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَلاَ تُبَٰشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَٰكِفُونَ فِي ٱلْمَسَٰجِدِ }؛ أصلُ العكوفِ والاعتكافِ الْمُلاَزَمَةُ والاقامةُ؛ يقال: عَكَفَ بالمكان إذا أقامَ به، قال اللهُ تعالى: { { فَأَتَوْاْ عَلَىٰ قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَىٰ أَصْنَامٍ لَّهُمْ } [الأعراف: 138] أي يقيمون. قال الفرزدقُ يصف القُدورَ:

تَرَى حَوْلَهُنَّ الْمُعْتَفِيْنَ كَأَنَّهُمْ عَلَى صَنَمٍ فِي الْجَاهِليَّةِ عُكَّفُ

والاعتكافُ: هو حبسُ النَّفْسِ في المسجدِ على عبادةِ الله تعالى.
واختلفَ العلماءُ في معنى المباشرةِ التي نَهى المعتكفَ عنها؛ فقال قومٌ: هي المجامعةُ خاصةً؛ معناه: ولا تُجامعوهنَّ وأنتم معتكفينَ في المساجدِ؛ قالهُ ابنُ عباسٍ وعطاء والضحاكُ والربيع. وقال قتادةُ ومقاتل والكلبيُّ: (نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي نَفَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ كَانُواْ يَعْتَكِفُونَ فِي الْمَسْجِدِ، فَإذَا أعْرَضَتْ بالرَّجُلِ مِنْهُمْ حَاجَةٌ إلَى أهْلِهِ خَرَجَ إلَيْهَا، فَجَامَعَهَا ثُمَّ يَغْتَسِلُ وَيَرْجِعُ إلَى الْمَسْجِدِ، فنُهُوا أنْ يُجَامِعُواْ نِسَاءَهُمْ لَيْلاً وَنَهَاراً حَتَّى يَفْرَغُواْ مِنَ اعْتِكَافِهِمْ).
وقال ابنُ زيد: (الْمُبَاشَرَةُ: الْجِمَاعُ وَاللَّمْسُ وَالْقُبْلَةُ وَأَنْوَاعُ التَّلَذُّذِ). والجماعُ مفسدٌ للاعتكاف بالإجماعِ. وأما الْمباشرةُ غير الجماع فعلى ضَربين: ضربٌ يقصد به التلذُّذُ بالمرأةِ فهو مكروهٌ ولا يفسدُ الاعتكافَ عند أكثرِ الفقهاء؛ وقال مالك: (يُفْسِدُهُ). والضربُ الثانِي: ما لا يقصد به التلذُّذ بالمرأةِ؛ فهو مباحٌ كما جاءَ في خبرِ عائشة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا
"أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُدْخِلُ إلَيْهَا رَأْسَهُ فَتُرَجِّلُهُ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ" . قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنِ اعْتَكَفَ عَشْراً فِي رَمَضَانَ كَانَ بحَجَّتَيْنِ وَعُمْرَتَيْنِ" .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ }؛ أي الْمُجَامَعَةُ في الاعتكافِ معصيةٌ: وَقِيْلَ: جميعُ ما في هذه الآية إلى آخرِها أحكامُ اللهِ، { فَلاَ تَقْرَبُوهَا }؛ يعني المباشِرَ في الاعتكافِ. وَقِيْلَ: أحكامُ اللهِ لاَ تقرَبُوها بالخلافِ، { كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ }، لكم هذه الأحكامَ؛ أي فهكذا يبيِّن للناسِ سائرَ أدلَّتهِ على دِينهِ وشرائعه، وَقِيْلَ: سائرَ أوامره ونواهيهِ لكي تتَّقوا معاصيهِ.
و(حُدُودُ اللهِ) قال السديُّ: (شُرُوطُ اللهِ) وقال شهرُ بن حوشب: (فَرَائِضُ اللهِ). وقال الضحَّاكُ: (مَعْصِيَةُ اللهِ). وأصلُ الحد في اللغة: المنعُ، وقيل منه للبوَّاب: حدادٌ. وقال الخليلُ بن أحمد: الْحَدُّ: الْجَامِعُ الْمَانِعُ، وَمِنْهُ حُدُودُ الدَّار وَالأَرْضِ؛ وَهِيَ مَا تَمْنَعُ غَيْرَهَا أنْ يُدْخِلَ فِيْهَا غَيْرَهَا. وسُمي الحديدُ حديداً لأنه يُمْتَنَعُ به مِن الأعداءِ. ويقالُ: حَدَّتِ المرأةُ وأحَدَّتْ إذا منعتْ نفسَها من الزينةِ. فحدودُ الله هي ما منعَ اللهُ منها أو منعَ من مخالفتها والتعدِّي إلى غيرها.
قَوْلُهُ تَعََالَى: { فَلاَ تَقْرَبُوهَا } أي فلا تأتُوها، يقالُ: قَرُبْتُ من الشيء أقْرَبُهُ، وَقربته وقرُبت منه بضمِّ الراءِ؛ إذا دَنَوْتَ منه.
وقَوْلُهُ تَعَالَى: { كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ } أي هكذا يُبَيِّنُ الله؛ { ءَايَٰتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ }؛ لكي تتَّقوها وتنجُوا من سخط الله والعذاب.