التفاسير

< >
عرض

ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَٰنٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا ٱفْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ
٢٢٩
فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
٢٣٠
-البقرة

التفسير الكبير

قوله عَزَّ وَجَلَّ: { ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَٰنٍ }؛ قال عروةُ بن الزبير وقتادة في معنى هذه الآيةِ: (إنَّ الطَّلاَقَ الَّذِي يَمْلِكُ فِيهِ الرَّجْعَةَ مَرَّتَانِ؛ فَإنَّهُ بَعْدَ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ لاَ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ). وفي الآيةِ ما يدلُّ على هذا؛ لأنَّ الله عَقَّبهُ بقوله: { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَٰنٍ }. وعنِ ابن عباس ومجاهدٍ: (أنَّ الْمُرَادَ بالآيَةِ بَيَانُ طَلاَقِ السُّنَّةِ).
وقولهُ: { ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِ } لفظهُ لفظ الخبرِ ومعناه الأمرُ والندبُ، وفي لفظ المرَّتين دليلٌ على أن التفريقَ سُنَّة؛ لأن من طَلَّقَ اثنتين معاً لا يُقال طلَّقها مرتين، وليس في هذه الآيةِ كيفيةُ سُنة التفريق. وقد فسَّره اللهُ تعالى بقوله:
{ إِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } [الطلاق: 1] وأرادَ بذلك تفريقَ الطلاق على إظهار العدة؛ ألا تَرَى أنه تعالى خاطَبَ الرجالَ إحصاءَ العدة، وذكرَ الرجعةَ في سياقِ الآية بقوله: { { لاَ تَدْرِى لَعَلَّ ٱللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً } [الطلاق: 1] وعلى هذا قالَ صلى الله عليه وسلم لابْنِ عُمَرَ حِيْنَ طَلَّقَ امْرَأتَهُ فِي حَالِ الْحَيْضِ: "مَا هَكَذَا أمَرَكَ رَبُّكَ؛ إنَّمَا أمَرَكَ أنْ تَسْتَقْبلَ الطُّهْرَ اسْتِقْبَالاً، فَطَلِّقْهَا لِكُلِّ قَرْءٍ تَطْلِيْقَةً؛ فَإِنَّهَا الْعِدَّةُ الَّتِي أمَرَ اللهُ أنْ يُطَلَّقَ فِيْهَا النِّسَاءُ" .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ } أي عليكم إمساكهن بحُسْنِ الصحبةِ والمعاشرة إذا أردتُم الرجعةَ، { أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَٰنٍ } أي يتركوهن حتى ينقضيَ تَمام الطُّهر ويَكُنَّ أملكَ لأنفسهن. والإحسانُ: أنْ يوفِّي الزوجُ حقَّها في المهر ونفقةِ العدَّة؛ وأنْ لا يُطَوِّلَ العدةَ عليها. " وروي أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ؛ فَقِيْلَ لَهُ: أيْنَ التَّطْلِيْقَةُ الثَّالِثَةُ؟ فَقَالَ: فِي قَوْلِهِ: { أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَٰنٍ }" .
قوله عَزَّ وَجَلَّ: { وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ }؛ قال ابنُ عباس: "نَزَلَتْ فِي جَمِيْلَةَ بنْتِ عَبْدِاللهِ بْنِ أُبَي ابنِ سَلُولٍ وَفِي زَوْجِهَا ثَابتِ بْنِ قَيْسٍ، كَانَتْ تَبْغَضُهُ بُغْضاً شَدِيْداً لاَ تَقْدِرُ عَلَى النَّظَرِ إلَيْهِ، وَكَانَ يُحِبُّهَا حُبّاً شَدِيْداً لاَ يَقْدِرُ عَلَى أنْ يَصْبرَ عَنْهَا؛ وَكَانَ بَيْنَهُمَا كَلامٌ، فَأَتَتْ أبَاهَا فَشَكَتْ عَلَيْهِ وَقَالَتْ: إنَّهُ يَضْرِبُنِي وَيُسِيْءُ إلَيَّ! فَقَالَ لَهَا: ارْجِعِي إلَى زَوْجِكِ، فَأَتَّتْهُ الثَّانِيَةَ وَبهَا أثَرُ الضَّرْب، فَشَكَتْ إلَيْهِ فَقَالَ لَهَا: ارْجِعِي إلَى زَوْجِكِ. فَلَمَّا رَأتْ أنَّهُ لاَ يُشْكِيْهَا وَلاَ يَنْظُرُ فِي أمْرِهَا أتَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَشَكَتْ عَلَيْهِ وَأرَتْهُ أثَرَ الضَّرْب بهَا، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، لاَ أنَا وَلاَ هُوَ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلَى ثَابتٍ وَقَالَ: يَا ثَابتُ، مَا لَكَ وَلأَهْلِكَ؟ قَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بالْحَقِّ نَبيّاً؛ مَا عَلَى الأَرْضِ شَيْءٌ أحَبُّ إلَيَّ مِنْهَا غَيْرُكَ، لَكِنَّهَا لاَ تُطِيْعُنِي، فَقَالَ لَهَا النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: مَا تَقُولِيْنَ؟ فَكَرِهَتْ أنْ تَكْذِبَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَتْ: مَا كُنْتُ أُحَدِّثُكَ الْيَوْمَ حَدِيْثاً يَنْزِلُ عَلَيْكَ خِلاَفُهُ غَداً، هَوَ مِنْ أكْرَمِ النَّاسِ لِزَوْجَتِهِ لاَ أعِيْبُ عَلَيْهِ فِي دِيْنٍ وَلاَ خُلُقٍ، وَلَكِنِّي أبْغَضُهُ لاَ أنَا وَلاَ هُوَ. فَقَالَ ثَابتُ: قَدْ أعْطَيْتُهَا حَدِيْقَةٍ لِي، قُلْ لَهَا فَلْتَرُدَّهَا عَلَيَّ وَأَنَا أُخْلِي سَبيْلَهَا، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أتَرُدِّيْنَ عَلَيْهِ حَدِيْقَتَهُ وَتَمْلِكِيْنَ أمْرَكِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، وَزيَادَةٌ. فَأَنْزَلَ اللهُ قَوْلُهُ: { وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ } الآيَةُ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: أمَّا الزِّيَادَةُ فَلاَ ثُمَّ قَالَ لِثَابتٍ: خُذْ مِنْهَا مَا أعْطَيْتَهَا وَخَلِّ سَبيْلَهَا، فَفَعَلَ" . وَكَانَ ذَلِكَ أوَّلَ خُلْعٍ فِي الإسْلاَمِ).
ومعنى الآيةِ: { وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ } شيئاً مما أعطيتموهن مِن مهرٍ ولا غيرهِ، { إِلاَّ أَن يَخَافَآ }. قال أبو عبيدٍ: (مَعْنَاهُ: مُعَلِّماً وَمُؤَقِّتاً حَقِيْقَتُهُ؛ أيْ إلاَّ أنْ يَكُونَ الأَغْلَبُ عَلَيْهَا عَلَى ما ظَهَرَ مِنْهُمَا مِنَ أسْبَاب التَّبَاعُدِ الْخَوفُ مِنْ أنْ لاَ { يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ } وَهُوَ مَا فَرَضَ اللهُ تَعَالَى لِلزَّوْجِ).
ومَن قرأ (يَخَافَا) على فعلِ ما لم يُسَمَّ فاعلهُ، كان المعنى إلا أن يَخافا عليهما أن لا يُقيما حدودَ اللهِ، وهو ما فَرَضَ اللهُ تعالى للزوجِ على المرأةِ، والمرأةِ على الزوجِ، وقد يُذكر الخوفُ في معنى الْعِلْمِ كما قال أبو مِحْجَنٍ الثقفيُّ:

إذَا مِتُّ فَادْفِنِّي إلَى أصْلِ كَرْمَةٍ تُرْوي عِظَامِي بَعْدَ مَوْتِي عُرُوقٌهَا
وَلاَ تَدْفِنَنِي بالْفَلاَةِ فإنَّنِي أخَافُ إذَا مَا مِتُّ أنْ لاَ أذُوقُهَا

وأما قولهُ عَزَّ وَجَلَّ: { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ }؛ أي علمتم بغَالِب ظَنِّكُمْ أن لا يكونَ بينهما صلاحٌ ولا مقامٌ على النكاحِ. { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا ٱفْتَدَتْ بِهِ }؛ أي لا حرجَ عليهما في الأخذِ والإعطاءِ. ويقال: معناهُ: لا حرجَ على الزوج أن يأخذَ ما افتدت به المرأةُ نفسَها مما أعطاها الزوجُ. قال الفرَّاءُ: (هَذَا كَقَوْلِهِ: { { يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ } [الرحمن: 22] وَإنَّمَا يَخْرُجُ ذَلِكَ مِنْ أحَدِهِمَا؛ كَذَلِكَ فِي هَذِهِ الآيَةِ أرَادَ بقَوْلِهِ تَعَالَى: { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } نَفْيَ الْحَرَجِ عَنِ الزَّوْجِ فِي الأخْذِ: فَأَمَّا الْمَرْأةُ فَهِيَ مُفْتَدِيَةٌ باخْتِيَارهَا وَرضَاهَا).
وإنَّما يُباح للزوج أن يَخَلََعَهَا إذا كان النُّشُوزُ من قِبَلِ المرأة؛ وروي عنِ ابن عباس رضي الله عنه أنه قالَ: (لَوِ اخْتَلَعَتْ بكُلِّ شَيْءٍ لَهَا لأَخَذْتُهُ).
وروي أن امرأةً نَشَزَتْ فرُفعت إلى عمر رضي الله عنه فأباتَها في بيتِ الزِّبْلِ ثلاثَ ليال ثم دعا بها فقالَ رضي الله عنه: (كَيْفَ وَجَدْتِ مَبيْتَكِ؟) فَقَالَتْ: مَا بتُّ لَيَالِيَ مِنْذُ كُنْتُ عِنْدَهُ أقَرُّ لِعَيْنِي مِنْهُنَّ. فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه لِزَوْجِهَا: (اخْلَعْهَا، وَلَوْ بقِرْطِهَا).
قَوْلُهُ تَعَالَى: { تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا }؛ الآية؛ أي هذه الآياتِ المنَزَّلة من الأوامرِ والنواهي فرائضُ الله وأحكامه { فَلاَ تَعْتَدُوهَا } أي فلا تتجاوزُوها، { وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ }؛ أي مَن يتجاوز أحكامَ اللهِ ويترك ما أمرَ الله به أو يعملُ بما نَهاه، { فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ }؛ الضَّارُّونَ لأنفسهم بمعصيتهم. وإذا كان النشوزُ من قِبل الزوج، فلا يحلُّ له أخذه شيئاً منها دِيَانةً؛ لقولهِ تعالى:
{ { وَإِنْ أَرَدْتُّمُ ٱسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً } [النساء: 20].
واختلفَ السلفُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ في الْخُلْعِ؛ هل هو طلاقٌ أو فسخٌ؛ فذهبَ بعضهم إلى أنه فسخٌ؛ وهي روايةٌ عنِ ابن عباس، واستدلُّوا بظاهر هذه الآية؛ فقالوا: إنَّ اللهَ ذَكَرَ الطلاق الثالثَ بعد هذا بقوله: { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ }؛ فلو كان الخلعُ طلاقاً لجعل الطلاقَ أكثرَ من ثلاثٍ.
وأكثرُ فقهاءِ الأمصار قالوا: الْخُلْعُ طلاقٌ؛ وهو "رواية عن" عمرَ وعثمانَ وابنِ مسعود والحسن وإبراهيم النخعي وغيرهم. وليس في ظاهر الآية أنَّ الخلعَ فسخٌ؛ لأن قوله تعالى: { وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ } حكمٌ مبتدأ؛ إذ (الواو) للاستئناف؛ إلا أن يقومَ دليل الجمعِ، فكأنَّ الله تعالى ذكرَ في أول هذه الآية حكمَ الطلاقِ بغير بدلٍ وخيَّر الزوج بين أن يُراجعها في العدةِ أو يتركها حتى تنقضي عدتُها، ثم استأنفَ بيانَ حُكم الطلاقين إذا كان على وجهِ الخلع، وأبَانَ عن موضعِ الحظر والإباحةِ فيها، ثم ذكرَ حُكم الطلقة الثالثةِ بالآية التي بعد هذهِ الآية. وهذا مما يستدلُّ به على أن المختلعةَ يلحقُها الطلاق؛ لأن عامةَ الفقهاء اتفقوا على أن تقديرَ الآية وترتيبَ أحكامها على ما وصفناهُ؛ فحصلت التطليقةُ الثالثة بعد الْخُلْعِ. شرطٌ في إباحتها للأول؛ إلا ما روي عن سعيدِ بن المسيب رواية شاذةً: أنَّهُ لَمْ يَجْعَلْهُ شَرْطاً؛ وَلَمْ يُتَابعْهُ أحَدٌ عَلَى ذَلِكَ.
وإنَّما جُعِلَ دخولُ الزوج الثاني بها شرطاً لمفهومِ الآية وورُود السُّنة أما مفهومُ الآية؛ فلأنَّ الله تعالى قال: { حَتَّىٰ تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ } والنكاحُ هو الوطء في الحقيقةِ، وذِكْرُ الزوجِ يفيدُ العقد لاستحالة أن يكونَ زوجاً من غيرِ عقدٍ، فكأنَّ قوله { حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا } كنايةٌ مفهمةٌ مغنية عن التصريحِ.
وأمَّا السُّنَّةُ: فما
"روي أنَّ رُفَاعَةَ الْقُرَظِيَّ طَلَّقَ امْرَأتَهُ ثَلاَثاً، فَتَزَوَّجَهَا عَبْدُالرَّحْمَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَجَاءَت إلَى رَسُولِ اللهِ تُرِيْدُ أنْ تَرْجِعَ إلَى زَوْجِهَا الأَوَّلِ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: هَلْ جَامَعَكِ عَبْدُالرَّحْمَنِ؟ فَقَالَتْ: مَا الَّذِي مَعَهُ إلاَّ كَهُدْبَةِ ثَوْبِي هَذَا. فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: أفَتُرِيْدِيْنَ أنْ تَرْجِعِي إلَى زَوْجِكِ الأَوَّلِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ صلى الله عليه وسلم: لاَ؛ حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ فَنَدِمَتْ عَلَى مَقَالَتِهَا، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ قَدْ طَافَ بي، فَقَالَ: لاَ أُصَدِّقُكِ الآنَ" .
قوله عَزَّ وَجَلَّ: { فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ } حُكم الطلاقين إذا كان على وجهِ الخلع، وأبَانَ عن موضعِ الحظر والإباحةِ فيها، ثم ذكرَ حُكم الطلقة الثالثةِ بالآية التي بعد هذهِ الآية. وهذا مما يستدلُّ به على المختلعةَ يلحقُها الطلاق؛ لأن عامةَ الفقهاء اتفقوا على أن تقديرَ الآية وترتيبَ أحكامها على ما وصفناهُ؛ فحصلت التطليقةُ الثالثة بعد الْخُلْعِ؛ أي فإن طلَّقها الزوجُ الثاني بعدما دخلَ بها، فلا حرجَ على المرأةِ والزوجِ الأول أن يتراجَعا؛ بأنْ يتزوجها مرةً أُخرى بعد انقضاءِ العدَّة.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ } أي إن عَلِمَا بغالب ظنِّهما أنَّهما يقيمان حدودَ الله فيما بينهما؛ لأنَّهما قد افترقَا؛ ورأى الزوجُ وحدتهُ ورأتِ المرأة غُربتها ووحشتَها.
والحكمةُ في شرط دخولِ الزوج الثاني بها: أن الطلاقَ لَمَّا كان من أبغضِ المباحات إلى اللهِ تعالى على ما وردَ به الخبرُ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم:
"إنَّ مِنْ أبْغَضِ الْمُبَاحَاتِ إلَى اللهِ تَعَالَى الطَّلاقَ" شرطَ اللهُ في حرمةِ الطلقة الثالثة ما يَكْبُرُ علَى الأزواجِ من غشيان غيرِ تلك المرأة؛ حتى لا يعجلوا بالطلاقِ عند الغضب ولا يطلِّقوا إلا على وجهِ السُّنة.
قوله عَزَّ وَجَلَّ: { وَتِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }؛ أي هذه الآيةُ التي ذكرت أحكامَ الله وفرائضَه يبيِّنُها في القرآن لقومٍ يعلمون أوامرَ الله تعالى؛ وإن ما يأتي به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم صدقٌ. وتخصيصُ العلماء في هذه الآية؛ لأنَّهم هم الذين يحفظونَ أوامر الله وأحكامَه وينتفعون بالآياتِ. وقيل: خصَّهم الله بالذكرِ على جهة النباهةِ لَهم كما خصَّ جبريل وميكائيل مِن بين الملائكة على جهة النباهةِ لهما.