التفاسير

< >
عرض

وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَّتَاعاً إِلَى ٱلْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِيۤ أَنْفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
٢٤٠
-البقرة

التفسير الكبير

قوله عَزَّ وَجَلَّ: { وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَّتَاعاً إِلَى ٱلْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ }؛ قال ابنُ عباس: (نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ الْمَوَاريْثِ وَقَبْلَ اسْتِقْرَارِ الْعِدَّةِ). وكانت المرأةُ في ابتداء الإسلام إذا احتضرَ زوجُها أوصى لها في مالهِ بنفقة سَنَةٍ من طعامها وشرابها وكسوتِها وسُكناها، وكان ذلك حظُّها من الميراثِ من مال زوجها، وإنْ كانت من أهل الْمَدَر سكنت بيتَ زوجها حتى تَبْنِي بيتاً، وإنْ كانت من أهل الوَبَرِ سكنت بيتَ زوجها حتى تغزلَ بيتاً فتتحوَّل إليه. فإن خرجت من بيتِ زوجها أو تزوجت فلا نفقة لها ولا سُكنى.
ثم نُسخت الوصية بآيةِ المواريث وبقوله صلى الله عليه وسلم:
"لاََ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ" . ونسخَ حكمُ الْحَوْلِ باعتبار أربعة أشهر وعشراً عدَّة الوفاة بقولهِ: { { وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً } [البقرة: 234].
ومعنى الآية: { وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ } نساءً؛ أي يتركون نساءً من بعدهم؛ فعليهم { وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ }. ويقال: كتبَ عليهم وصيةً؛ وكانت هذه الوصيةُ واجبةً من الله تعالى لنسائِهم أوصَى الميت أو لم يُوصِ كما قال تعالى في آيةِ المواريث:
{ { وَصِيَّةً مِّنَ ٱللَّهِ } [النساء: 12].
قرأ الحسنُ وأبو عمرو وابن عامرٍ والأصمُّ والأعمشُ وحمزة وحفصٌ: (وَصِيَّةً) بالنصب على معنى: فَلْتُوصُوا وصيةً. وقرأ الباقونَ بالرفعِ على معنى: لأزواجِهنَّ وصيةٌ، أو كُتِبَ عليهم وصيةٌ.
وقوله: { مَتَاعًا } نُصب على المصدر؛ أي متعوهُن متاعاً، وقيل: جعلَ اللهُ ذلك لهم متاعاً؛ وقيل: نُصب على الحالٍ. وقوله: { إِلَى ٱلْحَوْلِ } أي متعوهن بالنفقةِ والسُّكنى والكِسْوَةِ وما يحتاج إليه حَوْلاً كاملاً. قَوْلُهُ تَعَالَى: { غَيْرَ إِخْرَاجٍ } أي لا تخرجوهن من بيوتِ أزواجهن.
وإنَّما انتصب { غَيْرَ } لأنه صفةٌ للمتاعِ، وقيل: على الحالِ، وقيل: بنَزع الخافضِ؛ أي من غيرِ إخراج، وقيل: على معنى: لاَ إخراجاً، كما يقال: أتيتك غيرَ رغبةٍ إليك.
قوله عَزَّ وَجَلَّ: { فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِيۤ أَنْفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ }؛ أي فإن خَرَجْنَ من قِبَلِ أنفسهن قبل مُضِيِّ الحول غير إخراجِ الورثة { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } يا أولياءَ الميْتِ { فِي مَا فَعَلْنَ فِيۤ أَنْفُسِهِنَّ } من النُّشوز والتزيُّنِ والتزوُّج بالمعروف إذا لم تكنِ المرأةُ حُبلى من الميْتِ. وقيل: معناهُ: { فَإِنْ خَرَجْنَ } بعد انقضاء عدتِهن، { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِيۤ أَنْفُسِهِنَّ }.
وفي معنى رفعِ الْجُنَاحِ عن الرجالِ بفعل النساء وجهان؛ أحدُهما: لا جُناح عليكم في قطعِ النفقة إذا خرجنَ قبل تَمام الحول. والثانِي: لا جُناح عليكم في تركِ منعهِنَّ من الخروجِ؛ لأن مقامَها حَولاً في بيت زوجها غيرُ واجبٍ عليها؛ خيَّرها اللهُ تعالى في ذلك إلى أن نُسخت بأربعةِ أشهرٍ وعشر؛ لأن ذلكَ لو كان واجباً عليها لكان واجباً على أولياءِ الزوج منعُها من ذلك.
وقَوْلُهُ تَعَالَى: { غَيْرَ إِخْرَاجٍ } يتضمَّن معنيين؛ أحدُهما: وجوبُ السكنى في مالِ الزوج؛ وقد نُسخ ذلك. والثاني: حظرُ الخروج والإخراجِ؛ وهو لزومُ اللُّبْثِ في البيت إلى انقضاءِ عدتِها أربعةَ أشهر وعشراً؛ وذلك باقٍ لم يُنسخ، ولا يجوزُ لها أن تبيت بالليالي في غير منْزلِها، ولا يجوزُ لها أن تتزينَ؛ لأن
"امرأةً جاءت إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم؛ فقالت: إنَّ ابْنَتِي تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا وَقَدِ اشْتَكَتْ عَيْنَهَا؛ أفَتُكَحِّلُهَا؟ فَرَخَّصَ لَهَا ثُمَّ قَالَ صلى الله عليه وسلم: كَانَتْ إحْدَاكُنَّ تَجْلِسُ فِي أحْلاَسِ بَيْتِهَا حَوْلاً لاَ تَخْرُجُ حَتَّى إذَا مَرَّ بهََا كَلْبٌ خَرَجَتْ وَرَمَتْهُ ببَعْرَةٍ، إلاَّ عَلَى زَوْجٍ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وَعَشْراً" .
عن زينبَ بنتِ أبي سلمة قالت: دَخَلَتُ عَلَى زَيْنَبَ بنْتِ جَحْشٍ حِيْنَ تُوُفِّيَ أخُوهَا، فَدَعَتْ بطِيْبٍ فَمَسَّتْهُ ثُمَّ قَالَتْ: وَاللهِ مَا لِي بالطِّيْبِ مِنْ حَاجَةٍ غَيْرَ أنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لاَ يَحِلُّ لامْرَأةٍ تُؤْمِنُ باللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أنْ تُحِدَّ عَلَى مَيْتٍ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ، إلاَّ عَلَى زَوْجِهَا أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وَعَشْراً" . وعن ابنِ مسعود رضي الله عنه: "أنَّ نِسْوَةَ قَتْلَى أُحُدٍ شَكَوْنَ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْوَحْشَةَ؛ فَأَمَرَهُمْ أنْ يَتَزَاوَرْنَ بالنَّهَار وَلاَ يَبتْنَ باللَّيْلِ إلاَّ فِي مَنَازلِهِنَّ" .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }؛ أي قادرٌ على النقمةِ ممن خالفَ أمرهُ وحُكمه فيما حكمَ على الأزواجِ.