وقوله عَزَّ وَجَلَّ: { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ ٱللَّهُ ٱلْمُلْكَ }؛ أي ألَمْ تعلم يا محمدُ بالذي جادلَ إبراهيمَ في ربه؛ أي هل رأيتَ كالذي { حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ ٱللَّهُ ٱلْمُلْكَ } أي بأن أعطاهُ الله الملكَ وأُعجب بملكه وسلطانه وهو نَمْرُودُ بْنُ كَنْعَانَ أوَّل من تجبَّر في الأرضِ بادعاء الرُّبُوبيَّةِ فَخاصمَ إبراهيمَ في توحيدهِ. وقيل: إنَّّ الهاءَ في قوله { آتَاهُ } راجعةٌ إلى إبراهيمَ عليه السلام، و{ ٱلْمُلْكَ } هو النبوَّة ووجوبُ طاعتهِ على الناس.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ ٱلَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ }؛ وذلك أن نَمْرُودُ قال لإبراهيم: مَنْ رَبُّكَ؟ قال: { إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ ٱلَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ } عند انقضاءِ الأجل. فـ { قَالَ }؛ نَمْرُودُ: { أنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ } قالَ إبراهيمُ: ائتني ببيانِ ذلك؟ فأتَى برجلين من سجنهِ وجبَ عليهما القتلُ؛ فقتلَ أحدهما وتركَ الآخر. فقال: هذا قد أحييتهُ، وهذا قد أمَتُّهُ. { قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَأْتِي بِٱلشَّمْسِ مِنَ ٱلْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ ٱلْمَغْرِبِ فَبُهِتَ ٱلَّذِي كَفَرَ }؛ أي تَحيَّر وانقطعَ بما ظهرَ عليه من الحجَّة، { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ }؛ أي لا يرشِدُ المشركينَ إلى دينه وحجَّته.
فإن قيل: لِمَ لَمْ يَثْبُتْ إبراهيمُ على الحجَّة الأولى؛ والانتقالُ من الحجة إلى حجَّةٍ أخرى في المناظرةِ غيرُ محمودٍ؟ قيل: عنهُ أجوبةٌ:
أحدُها: أن إبراهيم كان داعياً ولم يكن مُناظراً، فمى كان يراهُ أقربَ إلى الهداية أخذَ به.
والثاني: أنه روي أنه قالَ لنمرود: إنكَ أمَتَّ الحيَّ ولم تُحْيي الميَّتَ، والانتقالُ بعد الإلزامِ محمودٌ.
والثالث: أن نَمرودَ كان عالماً أن ما ذكرهُ ليس بمعارضةٍ وكان مَن حوله من أصحابهِ يوقنون بكذبهِ في قوله: { أنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ } لكن أرادَ التمويهَ على أغمَار قومه كما قال فرعونُ للسحرة حين آمنوا: أن هذا المكرَ مكرتُموه في المدينةِ، كذلك فعلَ نَمرودُ بقوله: { أنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ }. فتركَ إبراهيم إطالةَ الكلامِ، وعَدَلَ إلى حجَّةٍ مسكتةٍ لا يُمكنه التمويهُ فيها.
فإن قيل: فهلاَّ قال نَمرود لإبراهيمَ: إن مجيءَ الشمس هو العادةُ؟ فقُلْ لربك حتى يأتي بها من المغرب! قيل: عَلِمَ لِمَا رأى من المعجزات التي ظهرت أنهُ لو سأله ذلك لأتى بهِ. فكان يزدادُ فضِيحة عند الناسِ. وقيل: خَذَلَهُ عن هذا القولِ، فلم يُوَفَّق للسؤالِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَبُهِتَ ٱلَّذِي كَفَرَ } البُهْتُ في اللغة: هي مُوَاجَهَةُ الرجلِ بالكذب عليه؛ يقال: بَهَتَ يَبْهَتُ بُهتاناً، وبَاهَتَ يُبَاهِتُ مُبَاهَتَةً. وفي الحديثِ: "إنَّ الْيَهُودَ قَوْمٌ بُهْتٌ" أي كَذَبَةٌ. والبهتُ الحيرة عند انقطاعِ الحجة أيضاً. وفيه لغاتٌ: بَهَتَ وبَهِتَ وبُهِتَ، وأجودها بُهِتَ بضمِّ الباء.