التفاسير

< >
عرض

أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ ٱلْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَآءُ فَأَصَابَهَآ إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَٱحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلأيَٰتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ
٢٦٦
-البقرة

التفسير الكبير

قوله عَزَّ وَجَلَّ: { أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ ٱلْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَآءُ }؛ الآية؛ هذا استفهامٌ في الظاهرِ يقتضي في الحقيقةِ تقديراً: أي لا يَوَدُّ أحدُكم كقولهِ تعالى: { { أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً } [الحجرات: 12]. ومعنى الآية: يتمنَّى أحدُكم أن يكونَ له بستانٌ من نخيل وكَرْمٍ؛ تجري من تحتِ شجرِها ومساكنِها وغرفِها الأنْهارُ، له في الجنةِ من ألوانِ الثمار كلِّها، وأصابَه الْهَرَمُ والضعفُ وله أولادٌ ضعاف عَجَزَةٌ عن الحيلة، { فَأَصَابَهَآ إِعْصَارٌ }، يعني تلكَ الجنةَ. والإعصارُ: ريْحٌ عاصفُ تَهُبُّ به مِن الأرضِ بالشدة كالعمودِ إلى نحو السماءِ، وتسميها العربُ الزَّوْبَعَةَ، وسُميت إعصاراً لأنَّها تعلُو كثوبٍ عُصِرَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { فِيهِ نَارٌ فَٱحْتَرَقَتْ }؛ أي الجنةَ. وهذا مثلٌ ضربه الله لنفقةِ المنافقِ والمرائي، تقولُ عَمَلُ هذا المرائي في حُسنه كحُسن الجنةِ ينتفعُ بها كما ينتفعُ صاحب الجنةِ، فإذا كَبُرَ وضَعُفَ فصار له أولادٌ صغار ضِعَافٌ، أصاب جنتَهُ إعصارٌ فيه نارٌ، فاحترقت عندما هو أحوجُ إليها وضَعُفَ عن إصلاحِها لِكِبَرِهِ وضَعُفَ أولادهُ عن أصلاحِها لِصِغَرِهِمْ؛ وعجزهِ وعجزهِم من أن يَغْرِسُوا مثلها، لا يُرَدُّ عليه شبابهُ وقوته ليغرسَ، فيحزنَ ويغتَمَّ ويهلك أسفاً وتحسُّراً على ذلك، فلا هو يجدُُ شيئاً يعيشه ولا معَ أولاده شيءٌ يعودون به عليه، فبقي هو وأولادهُ فُقْراءَ عجزةً متحيرينَ لا يقدرون على حيلةٍ، فكذلك يُبْطِلُ اللهُ صدقةَ هذا المرائي والمنافقُ والْمَانُّ بصدقتهِ؛ حيثُ لا يسمع مستغيثَ لهما ولا توبةَ ولا إقالة، يُحْرَمُ أجرَها عند أفقرِ ما يكونُ إليها، ويرى في القيامةِ أعمالَه هباءً منثوراً، ولا يؤذنُ له في الرجوعِ إلى الدنيا ليتصدَّق وليكون من الصالحين.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ } أي كهذا البيانِ الذي بَيَّنَ اللهُ لكم فيما تقدَّم؛ ويبيِّن لكم الدلالات والعلامات لكي تتفكَّروا فتعتَبروا.
فإنْ قيلَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: { أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ } فعلُ مستقبلٍ، وقوله: { وَأَصَابَهُ ٱلْكِبَرُ } فعلُ ماضٍ، فكيفَ عطفَ الماضي على المستقبلِ؟ والجوابُ من وجهين:
أحدُهما: أن (قد) ها هنا مقدَّرة؛ المعنى وقد أصابهُ الكِبَرُ، فيكون للحالِ كما قالَ في آيةٍ أخرى:
{ { وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ } [يوسف: 27] أي قَدْ قُدَّ.
والثَّاني: أنَّ (يودُّ) يقتضي أن يكون في خبرهِ (لو) كما في قولِهِ:
{ { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ } [البقرة: 96] وقولهِ: { { وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ } [النساء: 89] ويقتضي أن يكون في أخْبُرِهِ (إنْ) كما في هذه الآية و(لو) للماضي، و(أنّ) للمستقبل. ثم قد تستعمل (لو) مكانَ (إن)؛ و(إنْ) مكان (لو) يقامُ أحدهما مقام الآخر، ويقولُ الإنسان: أنا أتَمنَّى لو كان لي ولدٌ، ويقول: أتَمنَّى إن كان لي ولدٌ. وإذا كان معنى التمنِّي قد يقعُ على الماضي صحَّ عطفُ الماضي عليهِ.