التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱللَّهَ وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ
٨٣
-البقرة

التفسير الكبير

قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ }؛ أي أخَذنا عليهم في التوراةِ العهدَ الشديدَ: { لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱللَّهَ }؛ بالتاء قرأ ابنُ كثيرٍ وحمزة والكسائيُّ؛ وقرأ الباقون بالياءِ. قال أبو عمرٍو: وَالإنْزَاهُ { وَقُولُواْ لِلنَّاسِ } فَدَلَّتِ الْمُخَاطَبَةُ عَلَى التَّاءِ. قال الكسائي: إنَّمَا ارْتَفَعَ { لاَ تَعْبُدُونَ } لأَنَّ مَعْنَاهُ: أخَذْنَا مِيْثَاقَ بَنِي إسْرَائِيْلَ أنْ لاَ تَعْبُدُونَ إلاَّ اللهِ. فَلَمَّا أَلْقَى (أنْ) رَفَعَ، وَمِثْلُهُ: لاَ يَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ، ونظيرهُ قوله تعالى: { { قُلْ أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ تَأْمُرُونِّيۤ أَعْبُدُ أَيُّهَا ٱلْجَاهِلُونَ } [الزمر: 64] يريدُ: أنْ أعبدَ؛ فلما حذفَ (أنْ) الناصبةَ عاد الفعلُ إلى المضارعة. وقرأ أُبَيُّ بنُ كعب: (لاَ تَعْبُدُوا) جزماً على النَّهيِ؛ أي وقل لَهم: لا تعبدُوا إلاَّ الله.
ومعنى الآيةِ: أمَرْنَاهُم بإخلاصِ العبادةِ لله عَزَّ وَجَلَّ، { وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً }؛ أي وصَّيناهم بالوالدين إحساناً برّاً بهما؛ وعَطْفاً عليهما. وإنَّما قال: { وَبِٱلْوَالِدَيْنِ } وأحدُهما والدةٌ؛ لأن المذكَّرَ والمؤنَّثَ إذا اقترَنَا غلبَ المذكرُ لخفَّته وقوَّته.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينِ }؛ أي وبذي القُربَى. ووصَّيناهم بصِلَةِ الرَّحمِ. واليَتَامَى: جمعُ يَتِيْمٍ؛ وهو الطفلُ الذي لا أبَ له. والمساكينُ: الفقراءُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: { وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً }؛ اختلفَ القُرَّاء فيه؟ فقرأ زيدُ بن ثابت وأبو العاليةِ وعاصم وأبو عمرٍو ونافع بضمِّ الحاء وجزْمِ السِّين؛ وهي قراءةُ أبي حاتِم، ودليلهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
{ { وَبِالوالِدَيْنِ حُسْناً } [النساء: 36] وَقَوْلُهُ: { { ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوۤءٍ } [النمل: 11].
وقرأ ابنُ مسعودٍ وحمزة والكسائي وخلَف: (حَسَناً) بفتح الحاءِ والسِّين؛ وهو اختيارُ أبي عُبيد. قال: إنَّما آثرْنَاهَا؛ لأَنَّهَا نَعْتٌ بمَعْنَى قَوْلاً حَسَناً. وقرأ عيسَى بن عمر بضمِّ الحاء والسِّين والتنوين؛ وهو لغةٌ مثل (النُّصُبُ والسُّحُتُ). وقرأ عاصمُ الجحدري (إحْسَاناً) بالألف. وقرأ أُبَي بنُ كعبٍ وطلحة بن مصرف (حُسْنِي) بالتأنيثِ مرسلةً؛ ومجازهُ كلمة حُسْنَى.
ومعنى الآية: أيُّهَا الرُّؤَسَاءُ مِنَ الْيَهُودِ قُولُواْ لِلسَّفَلَةِ قَوْلاً حَسَناً؛ أيْ حَقّاً وَصِدْقاً، وَبَيِّنُواْ لَهُمْ صَفَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا فِي التَّوْرَاةِ، وَلاَ تَكْتُمُوهَا، وَلاَ تُغَيِّرُواْ صِفَةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. هَذا قولُ ابنِ عبَّاس وابن جُبير وابن جريج ومقاتل. ودليله قَوْلُهُ تَعَالَى:
{ { أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً } [طه: 86] أي صِدقاً. وَقِيْلَ: معناه: مُرُوهُمْ بالمعروف وانْهُوهُمْ عن المنكرِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ }؛ { ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ } أي ثُم أعرَضْتم عن العهدِ والميثاق. وقولهُ { إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْكُمْ } هو عبدُالله بن سلامٍ وأصحابهُ. وانتصبَ { قَلِيْلاً } على الاستثناءِ.