التفاسير

< >
عرض

لاَّ يَتَّخِذِ ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ ٱللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَـٰةً وَيُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْمَصِيرُ
٢٨
-آل عمران

التفسير الكبير

قَوْلُهُ تَعَالَى: { لاَّ يَتَّخِذِ ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ }؛ قال ابنُ عبَّاس: (نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي عَبْدِاللهِ بْنِ أبَيٍّ وَأصْحَابهِ الْمُنَافِقِيْنَ؛ كَانُواْ مَعَ إظْهَارهِمُ الإيْمَانَ يَتَوَلَّوْنَ الْيَهُودَ وَيَأْتِيْهِمْ بأَخْبَار الْمُؤْمِنِيْنَ، وَيَرْجُونَ أنْ يَكُونَ لَهُمُ الظَّفَرُ عَلَى الْمُؤْمِنِيْنَ؛ فَأَنْزَلَ هَذِهِ الآيَةَ يَنْهَى الْمُؤْمِنِيْنَ عَنْ مِثْلِ فِعْلِهِمْ، وَيَنْهَى الْمُنَافِقِيْنَ أيْضاً؛ أيْ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِيْنَ، فَلاَ تَتَّخِذ الْكُفَّارَ أوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِيْنَ).
وقالَ الضحَّاك عنِ ابن عبَّاس: (نَزَلَتْ فِي عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ؛ وَكَانَ بَدْريّاً نَقِيْباً؛ وَكَانَ لَهُ حُلَفَاءَ مِنَ الْيَهُودِ، فَلَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللهِ يَوْمَ الأَحْزَاب؛ قَالَ عُبَادَةُ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ إنَّ مَعِي خَمْسُمِائَةِ رَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ؛ وَقَدْ رَأيْتُ أنْ يَخْرُجُواْ مَعِي فَأسْتَظْهِرُ بهِمْ عَلَى الْعَدُوِّ، فَأَنْزَلَ هَذِهِ الآيَةَ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ ٱللَّهِ فِي شَيْءٍ }؛ أي مَن يوالِيهم في نقل الأخبار إليهم وإظهارهم على عَوْرَةِ المسلمين، فليس مِن الله في شيء. قال السديُّ: (فَلَيْسَ مِنَ الْوِلاَيَةِ فِي شَيْءٍ، فَقَدْ بَرِئَ اللهُ مِنْهُمْ). كَمَا قاَلَ اللهُ تَعَالَى فِي آيَةٍ أخْرَى:
{ { وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } [المائدة: 51] معنى أنَّ وَلِيَّ الكافرِ راضٍ بكفرِه، والرِّضَى بالكفر كفرٌ، قَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أنَا بَرِئٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ مَعَ مُشْرِكٍ"
]. قَوْلُهُ تَعَالَى: { إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَـٰةً }؛ أي إلاَّ أن يُحصَرَ المؤمن في أيدي الكفَّار يخافُ على نفسِه فيداهِنُهم فيرضيهم بلسانهِ وقلبُهُ مطمئنٌّ بالإيْمان فهو مُرَخَّصٌ له في ذلكَ، كما رُويَ: أنَّ مُسَيْلَمَةَ الْكَذابَ لَعَنَهُ اللهُ أخَذ رَجُلَيْنِ مِنْ أصْحَاب رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ فَقَالَ لأحَدِهِمَا: أتَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَقَالَ لِلآخَرِ: أتَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أتَشْهَدُ أنِّي رَسُولُ اللهِ؟ قال: إنِّي أصَمٌّ، فَأَعَادَ عَلَيْهِ السُّؤَالَ ثَلاَثاً، فَأَجَابَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ هَذا الْجَوَاب، فَضَرَبَ مُسَيْلَمَةُ عُنُقَهُ، فَبَلَغَ ذلِكَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "أمَّا الْمَقْتُولُ فَمَضَى عَلَى صِدْقِهِ وَيَقِيْنِهِ فَهَنِيْئاً لَهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَقَبلَ رُخْصَةَ اللهِ فَلاَ تَبعَةَ عَلَيْهِ"
]. فمعنى الآيةِ: إلاَّ أن تَخافوا منهم مخافةً. قرأ الحسنُ والضحَّاك ومجاهد: (تَقِيَّةً). وقرأ حمزةُ والكسائيُّ بالإمالةِ. وقرأ الباقون بالتفخُّم، فكلُّ ذلك لغاتٌ فيها، ومعناهُ واحد.
قولهُ تعالى: { وَيُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفْسَهُ }؛ أي يخوِّفُكم عقوبتَه وبطشَهُ على موالاةِ الكفَّار وارتكاب المنهيِّ عنه. وقال الزجَّاج: (مَعْنَاهُ: وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ إيَّاهُ). وَخَاطَبَ اللهُ العبادَ على قدر عملهم وعقلِهم، ومعنى قولهِ تعالى:
{ { تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي } [المائدة: 116] أي تعلمُ حقيقةَ ما عندي ولا أعلمُ حقيقةَ ما عندكَ. قوله تعالى: { وَإِلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْمَصِيرُ }، زيادةٌ في الإبعادِ وتذكيرٌ بالمعادِ؛ أي إنْ فعلتُم ما نَهيتُكم عنه فمرجعكم إلَيَّ.