التفاسير

< >
عرض

فَنَادَتْهُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي ٱلْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـىٰ مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ
٣٩
-آل عمران

التفسير الكبير

قوله عَزَّ وَجَلَّ: { فَنَادَتْهُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي ٱلْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـىٰ }؛ قرأ الأعمشُ وحمزة والكسائيُّ وخَلَفُ وقتادةُ: (فَنَادَاهُ)، وقرأ الباقون: (فَنَادَتْهُ)، وإذا تقدَّمَ الفعلُ فأنتَ فيه بالخيار؛ إنْ شِئْتَ أنَّثْتَ؛ وإنْ شئتَ ذكَّرْتَ.
ومعنى الآيةِ: فناداهُ جبريلُ عليه السلام وهو قائمٌ يُصَلِّي في المسجدِ بأنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بولدٍ اسْمُهُ يَحْيَى. والمرادُ بالملائكةِ هنا جِبْرِيْلَ وحدَه؛ ونظيرهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
{ { وَإِذْ قَالَتِ ٱلْمَلاَئِكَةُ يٰمَرْيَمُ } [آل عمران: 42] يعني جبريلَ وحدَهُ، وقَوْلُهُ: { { يُنَزِّلُ ٱلْمَلاۤئِكَةَ بِٱلْرُّوحِ } [النحل: 2] يعني جبريلَ وحدَه، { بِٱلْرُّوحِ } أي بالوَحْي، يدلُّ عليه قراءةُ ابنِ مسعود: (فَنَادَاهُ جِبْرِيْلُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَاب).
وقَوْلُهُ تَعَالَى: { أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ } قرأ ابنُ عامرٍ والأعمشُ وحمزة: (إنَّ اللهَ) بكسر الألفِ على إضمار القول؛ تقديرهُ: فَنَادَتْهُ الْمَلاَئِكَةُ فقالَتْ: إنَّ اللهَ، لأنَّ النداءَ قولٌ، وقرأ الباقون بالفتح بوقوعِ النِّداء عليه كأنَّهُ قالَ: فَنَادَتْهُ الْمَلاَئِكَةُ بأنَّ اللهَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: { يُبَشِّرُكَ } قرأ حمزةُ والكسائي (يُبَشُرُكَ) بفتح الياء وجزمِ الباء وضمِّ الشين، وقرأ الباقون بضمِّ الياءِ وفتح البَاء وتشديدِ الشِّين وكسرِها.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً }؛ انتصبَ على الحالِ في قوله: { بِكَلِمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ } يعني عيسَى عليه السلام؛ أنَّ يَحيى مصدِّقاً بعيسى، وكانَ يَحيى أوَّلَ مَن صدَّق بعيسَى وشَهِدَ أنَّه كلمةُ اللهِ وروحُه، وكان يحيى أكبرَ من عيسى بثلاثِ سنين، وقيلَ: بستَّة أشهرٍ.
واختلفُوا في تسمية يَحيى بهذا الاسمِ؛ فقالَ ابنُ عبَّاس: (لأنَّ اللهَ تَعَالَى حَيَى بهِ عُقْرَ أمِّهِ). وقالَ قتادةُ: (لأنَّ اللهَ أحْيَا قَلْبَهُ بالإيْمَانِ). وقيل: بالنبوَّة.
وقيل: إنَّ الله تعالى أحيَى قلبَه بالطاعةِ حتى لَم يَعْصِ ولَم يَهُمَّ بمعصيةٍ. قالَ صلى الله عليه وسلم:
"مَا مِنْ أحَدٍ يَلْقَى اللهَ عَزَّ وَجَلَّ إلاَّ وَقَدْ هَمَّ بخَطِيَّةٍ أوْ عَمِلَهَا إلاَّ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا فَإنَّهُ لَمْ يَهُمَّ بهَا ولَمْ يَعْمَلْهَا" . وقال بعضُهم: سُمِّي بذلكَ لأنه اسْتُشْهِدَ، والشهداءُ أحياءٌ عند ربهم يرزقون. قال صلى الله عليه وسلم: "مِنْ هَوَانِ الدُّنْيَا عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ أنَّ عِيْسَى قَتَلَتْهُ امْرَأةٌ، وَقُتِلَ يَحْيَى قَبْلَ رَفْعِ عِيْسَى عليه السلام"
]. قوله تعالى: { بِكَلِمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ } إنَّما سُمي عيسَى كَلِمَةً؛ لأنَّ اللهَ تعالى قالَ لهُ كُنْ مِن غيرِ أبٍ فكانَ، فوقعَ عليه اسمُ الكلمة. قولُه تعالى: { وَسَيِّداً } السيِّدُ في اللغة وفي الحقيقةِ: مَنْ تَلْزَمُ طَاعَتُهُ وَيَجِبُ عَلَى النَّاسِ الاقْتِدَاءُ وَالْقَفَا بهِ فِي الْعِلْمِ وَالْحِلْمِ وَالْعِبَادَةِ. وقال الضحَّاكُ: (السَّيِّدُ: الْحَسَنُ الْخُلُقِ). وقال ابنُ جبير: (السَّيِّدُ: الَّذِي يُطِيْعُ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ). وقال ابنُ المسيَّب: (السَّيِّدُ: الْفَقِيْهُ الْعَالِمُ). وقال سفيان: (هُوَ الَّذِي لاَ يَحْسِدُ)، وقال عكرمةُ: (هُوَ الَّّذِي لاَ يَغْضَبُ)، وقال ذُو النُّونِ: (الْحَسُودُ لاَ يَسُودُ)، وقال الخليلُ: (سَيِّداً أيْ مُطَاعاً)، وقيل: السيِّدُ: القانِعُ بما قَسَمَ اللهُ، وقيل: هو الرَّاضِي بقضاءِ الله، وقيل: المتوكِّلُ على اللهِ. وقال أبو يزيدِ البُسْطَامِي: السيدُ هو الذي قد عَظُمَتْ هِمَّتُهُ؛ ونَبُلَ قدرهُ أن يحدِّثَ نفسَه بدار الدنيا، وقيل: هو السَّخِيُّ. "قال صلى الله عليه وسلم: مَنْ سَيِّدُكُمْ يَا بَنِي سَلَمَةَ؟ قَالُواْ: جِدُّ بْنُ قَيْسٍ إلاَّ أنَّهُ بَخِيْلٌ: قَالَ: وَأَيُّ دَاءٍ أدْوَى مِنَ الْبُخْلِ؟ بَلْ سَيِّدُكُمْ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ" .
قوله تعالى: { وَحَصُوراً } الْحَصُورُ: هُوَ الَّذِي لاَ يَأْتِي النِّسَاءَ، وهذا قولُ ابنِ مسعود وابنِ عبَّاس وابن جبير وقتادةَ وعطاءٍ والسديِّ والحسنِ؛ يعنِي أنهُ يَحْصِرُ نفسَه عن الشَّهواتِ. وقال ابنُ المسَّيب والضحَّاك: (هُوَ الْعَنِّيْنُ الَّذِي مَا لَهُ ذكَرٌ قَوِيٌّ)، ودليلُ هذا التأويلِ ما روى أبو هُريرة، قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "كُلُّ ابْنِ آدَمَ يَلْقَى اللهَ بذنْبٍ قَدْ أذْنَبَهُ يُعَذِّبُهُ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ أوْ يَرْحَمُهُ إلاَّ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا؛ فَإنَّهُ كَانَ سَيِّداً وحَصُوراً؛ { وَنَبِيّاً مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ }. ثُمَّ أهْوَى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إلَى قَذاةٍ مِنَ الأَرْضِ فَأَخَذهَا وَقَالَ: كَانَ ذكَرُهُ مِثْلَ هَذِهِ الْقَذاةِ" .
وقال الْمُبَرِّدُ: الْحَصُورُ: هُوَ الَّذِي لاَ يَدْخُلُ فِي اللَّعِب وَالْعَبَثِ وَالأَبَاطِيْلِ، وَقَدْ يُسَمَّى كَاتِمُ السرِّ حَصُوراً، والذي لا يدخلُ مع الناسِ في الْمَيْسِرِ حَصُوراً لامتناعهِ من ذلك، وأصلهُ من الحصيرِ وهو الجسدُ؛ يقال: حَصَرْتُ الرَّجُلَ عَنْ حَاجَتِهِ إذا حَبَسْتُهُ، وحَصَرَ في قِرَانِهِ إذا امتنعَ من اللقواة فلم يقدِرْ عليها، ومنه إحْصَارُ العدوِّ، قال اللهُ تعالى: { { وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً } [الإسراء: 8] أي مَحْبَساً. ويسمَّى الحصيرُ حصيراً لأنه أدْخِلَ بعضُه في بعضٍ بالنسجِ وحُبسَ بعضُه على بعضٍ. وأوْلَى مَا قيلَ في تفسيرِ قولهِ تعالى: { وَحَصُوراً }: هو الذي لاَ يَأْتِي النِّسَاءَ، يَحْبسُ نفسَه عن ذلك اختياراً، فهذا التأويلُ أولَى من تأويلِ بعضهم أنهُ لا شهوةَ لهُ؛ لِما في هذا مِن إضافةِ عَيْب الْعُنَّةِ إليهِ.