التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً
٩
-الأحزاب

التفسير الكبير

قَوْلُهُ تَعَالَى: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ }؛ يُذكِّرُهم اللهُ إنْعَامَهُ عليهم في دفعِ الأحزَاب عنهم من غيرِ قتالٍ، وذلك: أنَّ الْكُفَّارَ جَاءُوا بأَجْمَعِهِمْ فِي وَقْعَةِ الْخَنْدَقِ، وَأحَاطُواْ بالْمَدِيْنَةِ مِنْ أعْلاَهَا وَأسْفَلِهَا، طُلَيْحَةُ بْنُ خُوَيْلِدِ الأَسَدِي وَأصْحَابُهُ مِنْ فَوْقِ الْوَادِي، وَكَانَ أبُو الأَعْوَر السُّلَمِيُّ وَأصْحَابُهُ مِنْ أسْفَلِ الْوَادِي، وَكَانَ أبُو سُفْيَانٍ وَأصْحَابُهُ وَيَهُودُ بَنِي قُرَيْظَةَ فِي مُوَاجَهَةِ الْمُؤْمِنِيْنَ، فَاشْتَدَّ الْخَوْفُ بالْمُؤْمِنِيْنَ وَزَاغَتْ أبْصَارُهُمْ؛ أيْ مَالَتْ مِنَ الْخَوْفِ، وَيُقَالُ: مَالَتْ أبْصَارُ الْمُنَافِقِيْنَ خَوْفاً مِنَ النَّظَرِ إلَيْهِمْ. وكانَ الكُفَّارُ خَمْسَةَ عَشَرَ ألْفاً، وبَلَغَتْ قُلُوبُ الْمُسْلِمِيْنَ الْحَنَاجِرَ؛ أيْ كَادَتْ تَبْلُغُ الْحُلُوقَ، وَذلِكَ أنَّ شِدَّةَ الْخَوْفِ تَرْفَعُ الرِّئَةَ، فترفعُ الرِّئَةُ القلبَ.
كما رُوي:
"أنَّ الْمُؤْمِنِيْنَ قَالُواْ: يَا رَسُولَ اللهِ! قَدْ بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ، فَهَلْ مِنْ شَيْءٍ؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: قُولُواْ: اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِنَا وَآمِنْ رَوْعَاتِنَا، يَكْفِيْكُهُمُ اللهُ تَعَالَى فَأَرْسَلَ اللهُ عَلَى الْكُفَّار ريْحاً بَاردَةً مُنْكَرَةً شَغَلَتْهُمْ عَنِ الاسْتِعْدَادِ لِلحَرْب، وَمَنَعَتْهُمْ مِنَ الثَّبَاتِ عَلَى الْمَكَانِ، وَقَلَعَتْ خِيَامَهُمْ وَأكْفَأَتْ أوَانِيَهِمْ، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَالْمُسْلِمُونَ مِنْهَا فِي سَلاَمَةٍ، وَلَيْسَ بَيْنَهُمْ إلاَّ مَسَافَةُ الْخَنْدَقِ، وَكَانَ ذلِكَ إحْدَى مُعْجِزَاتِهِ عليه السلام كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم: نُصِرْتُ بالصَّبَا، وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بالدَّبُور" .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { إِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ }؛ يعني الذين تَحَزَّبُوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم يومَ الخندق، وهم عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ وأبُو سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ وبَنُو قُرَيْظَةَ، { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً }، وهي الصَّبَا، أُرسِلَتْ عليهم حتى أكفَأَتْْ قدورَهم ونزعت فَسَاطِيْطَهُمْ، وقوله: { وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا }، يعني الملائكةَ؛ { وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً }.
ورُوي:
"أنَّ شَابّاً مِنْ أهْلِ الْكُوفَةِ قَالَ لِحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ: يَا أبَا عَبْدِاللهِ هَلْ رَأيْتَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: (إيْ وَاللهِ لَقَدْ رَأيْتُهُ) قَالَ: وَاللهِ لَوْ رَأيْنَاهُ لَحَمَلْنَاهُ عَلَى رقَابنَا، وَمَا تَرَكْنَاهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ، فَقَالَ لَهُ حُذيْفَةُ: (يَا ابْنَ أخِي أفَلاَ أُحَدِّثُكُ عَنِّي وَعَنْهُ؟) قَالَ: بَلَى. قَالَ: (وَاللهِ لَوْ رَأيْتَنَا يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَبنَا مِنَ الْجَهْدِ وَالْجُوعِ مَا لاَ يَعْلَمُهُ إلاَّ اللهُ. قَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى مِنَ اللَّيْلِ مَا شَاءَ اللهُ، ثُمَّ قَالَ: ألاَ رَجُلٌ يَأْتِي بخَبَرِ الْقَوْمِ جَعَلَهُ اللهُ رَفِيْقِي فِي الْجَنَّةِ؟ فَوَاللهِ مَا قَامَ مِنَّا أحَدٌ مِمَّا بنَا مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَالْجَهْدِ. ثُمَّ صَلَّى مَا شَاءَ اللهُ، ثُمَّ قَالَ: ألاَ رَجُلٌ يَأْتِيْنِي بخَبَرِ الْقَوْمِ جَعَلَهُ اللهُ رَفِيْقِي فِي الْجَنَّةِ؟ فَوَاللهِ مَا قَامَ مِنَّا أحَدٌ مِمَّا بنَا مِنَ الْجَهْدِ وَالْخَوْفِ وَالْجُوعِ. فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ أحَدٌ، دَعَانِي فَلَمْ أجِدْ بُدّاً مِنْ إجَابَتِهِ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: اذْهَبْ فَجِئْ بخَبَرِ الْقَوْمِ، وَلاَ تُحْدِثَنَّ شَيْئاً حَتَّى تَرْجِعَ.
قَالَ حُذيْفَةُ: قُمْتُ وَجَنْبَيَّ يَضْطَرِبَانِ، فَمَسَحَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَأسِي وَوَجْهِي، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ احْفَظْهُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ، وَعَنْ يَمِيْنِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ، وَمِنْ فَوْقِهِ وَمِنْ تَحْتِهِ. قَالَ: فَانْطَلَقْتُ أمْشِي حَتَّى أتَيْتُ الْقَوْمَ، وَإذا ريْحُ اللهِ وَجُنُودُهُ يَفْعَلُ بهِمْ مَا يَفْعَلُ، مَا يَسْتَمْسِكُ لَهُمْْ بنَاءٌ، وَلاَ تَثْبُتُ لَهُمْ نَارٌ، وَلاَ يَطْمَئِنُّ لَهُمْ قِدْرٌ. فَبَيْنَمَا هُمْ كَذلِكَ، إذْ خَرَجَ أبُو سُفْيَانَ مِنْ رَحْلِهِ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ؛ مَا أنْتُمْ بدَار مُقَامٍ، لَقَدْ هَلَكَتِ الْخُفُّ وَالْحَافِرْ وَأخْلَفَتْنَا بَنُو قُرَيْظَةَ، وَهَذِه الرِّيْحُ لاَ يَسْتَمْسكُ لَنَا مَعَهَا شَيْءٌ، وَلاَ تَثْبُتُ لَنَا نَارٌ وَلاَ تَطْمَئِنُّ قِدْرٌ. ثُمَّ عَجَّلَ فَرَكِبَ رَاحِلََتَهُ، وَإنَّهَا لَمَعْقُولَةٌ مَا حَلَّ عِقَالَهَا إلاَّ بَعْدَمَا رَكِبَهَا.
فَقَالَ حُذيْفَةُ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: لَوْ رَمَيْتُ عَدُوَّ اللهِ فَكُنْتُ قَدْ صَنَعْتُ شَيْئاً، فَأَوْتَرْتُ قَوْسِي وَأنَا أُرِيْدُ أنْ أرْمِيَهُ، ثُمَّ ذَكَرْتُ قَوْلَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: وَلاَ تُحْدِثَنَّ شَيْئاً حَتَّى تَرْجِعَ. فَحَطَطْتُ الْقَوْسَ ثُمَّ رَجَعْتُ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُصَلِّي، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: مَا الْخَبَرُ؟ فَأَخْبَرْتُهُ بذلِكَ، فَضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ أنْيَابُهُ فِي سَوَادِ اللَّيْلِ. ثُمَّ أدْنَانِي مِنْهُ وَبي مِنَ الْبَرْدِ مَا أجِدُهُ، فَأَلْقَى عَلَيَّ طَرَفَ ثَوْبهِ، وَألْزَقَ صَدْري ببَطْنِ قَدَمَيْهِ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي)"
.