التفاسير

< >
عرض

وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ ٱلصَّلَٰوةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوۤاْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَىٰ لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَّرْضَىۤ أَن تَضَعُوۤاْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً
١٠٢
-النساء

التفسير الكبير

قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ ٱلصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوۤاْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ }؛ الآيةُ، قال ابنُ عبَّاس: (لَمَّا رَأى الْمُشْرِكُونَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأصْحَابَهُ قَامُواْ إلَى صَلاَةِ الظُّهْرِ وَهُوَ يَؤُمُّهُمْ؛ نَدِمُواْ عَلَى تَرْكِهِمْ الإقْدَامَ عَلَى قِتَالِهِمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: دَعُوهُمْ؛ فإنَّ بَعْدَهَا صَلاَةٌ هِيَ أحَبُّ إلَيْهِمْ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَوْلاَدِهِمْ - يُرِيْدُونَ الْعَصْرَ - فَإذا رَأَيْتُمُوهُمْ قَامُواْ إلَيْهَا فَشُدُّوا عَلَيْهِمْ، فَنَزَلَ جِبْرِيْلُ عليه السلام بهَذِهِ الآيَةِ وَأطْلَعَ اللهُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَى قَصْدِهِمْ وَمَكْرِهِمْ، وَعَنْ هَذا كَانَ إسْلاَمُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيْدِ حِيْنَ عَرَفَ أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم اطَّلَعَ عَلَى مَا كَانَ مِنْ قَصْدِ الْمُشْرِكِيْنَ فِي السِّرِّ فِيْمَا بَيْنَهُمْ).
ومعنى الآيةِ: وإذا كُنْتَ يَا مُحَمَّدُ معَ المؤمنينَ في الغَزْو فابتدأتَ في صلاةِ الخوفِ؛ فَلْيَقُمْ جَمَاعَةٌ منهُم معكَ في الصلاةِ؛ وَلْتَكُنْ أسلحتُهم معَهم في صلاتِهم؛ لأنَّ ذلك أهْيَبُ للعدوِّ، فإذا سَجَدَتِ الطائفةُ التي معكَ وصَلَّتْ ركعةً، فلينصرِفُوا إلى المصاف وليقفُوا بإزَاءِ العَدُوِّ؛ { وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَىٰ لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ }؛ وهمُ الذينَ كانوا بإزاءِ العدوِّ، ولم يصلُّوا معكَ في الركعةِ الأُولى؛ فليصلُّوا معكَ الركعةَ الأُخرى، ولْتَكُنْ أسلحتُهم معَهم في الصَّلاةِ، ولم يذكرْ في الآية لكلِّ طائفةٍ إلاّ ركعةً واحدةً.
وفي صلاةِ الخوفِ خلافٌ بين العلماء؛ قال بعضُهم: إنَّها غير مشروعةٍ بعدَ رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم؛ وهو روايةٌ عن أبي يوسف وهو قولُ الحسنِ بن زياد؛ لأنَّ في هذه الآيةِ ما يدلُّ على كون النبيِّ صلى الله عليه وسلم شَرَطٌ في إقامةِ صلاة الخوف؛ ولأنَّها إنَّما جازَتْ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم لِيَسْتَدْركَ الناسُ فضيلةَ الصلاةِ خَلْفَهُ؛ لأنَّ إمامةَ غيرهِ لَمْ تكن لتقومَ مقامَ إمامتهِ.
وذهبَ أكثرُ العلماء إلى أنَّ صلاةَ الخوف مشروعةٌ بعد النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأنَّ الخطابَ في هذه الآيةِ وإنْ كان للنبيِّ صلى الله عليه وسلم فالأئمَّةُ بعدَه يقومون مقامَه كما في قولهِ تعالى:
{ { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } [التوبة: 103] ونحوِ ذلك من الآياتِ.
واختلفوا في كيفيَّة صلاةِ الخوف، فقال أبُو حَنِيْفَةَ ومحمدٌ: (يَجْعَلُ الإمَامُ النَّاسَ طَائِفَتَيْنِ؛ طَائِفَةٌ بإزَاءِ الْعَدُوِّ، وَطَائِفَةٌ مَعَهُ؛ فَيُصَلِّي بهِمَا رَكْعَةً رَكْعَةً، ثُمَّ تَنْصَرِفُ هَذِهِ الطَّائِفَةُ إلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ؛ وَتَجِيْءُ الأُخْرَى فَيُصَلِّي بهِمْ رَكْعَةً، وَيَتَشَهَّدُ وَيُسَلِّمُ. ثُمَّ تَرْجِعُ هَذِهِ الطَّائِفَةُ إلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ بغَيْرِ سِلاَمٍ، وَتَأْتِي الأُوْلَى فَتَقْضِي الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ وحْدَاناً بغَيْرِ قِرَاءَةٍ، فَإذا سَلَّمَتْ وَقَفَتْ بإزَاءِ الْعَدُوِّ، وَجَاءَتْ تِلْكَ الطَّائِفَةُ فَتَقْضِي الرَّكْعَةَ الأُوْلَى وحْدَاناً بقِرَاءَةٍ).
وعن أبي يوسُف: (إذا كَانَ الْعَدُوُّ فِي وَجْهِ الْقِبْلَةِ؛ وَقَفَ الإمَامُ وَجَعَلَ النَّاسَ خَلْفَهُ صَفَّيْنِ؛ فَافْتَتَحَ بهِمُ الصَّلاَةَ مَعاً، فَصَلَّى بهِمْ رَكْعَةً؛ فإذا سَجَدَ الإمَامُ سَجَدَ مَعَهُ الصَّفُّ الأَوَّلُ، وَوَقَفَ الثَّانِي يَحْرِسُونَهُمْ، فَإذا رَفَعُوا رُؤُوسَهُمْ مِنَ السُّجُودِ سَجَدَ الصَّفُّ الثَّانِي؛ وَتَأَخَّرَ الأَوَّلُ، وَيَقُومُ الصَّفُّ الثَّانِي فَيَرْكَعُ بهِمْ جَمِيْعاً، ثُمَّ يَرْفَعُونَ رُؤُوسَهُمْ وَيَسْجُدُ الصَّفُّ الْمُتَقَدِّمُ سَجْدَتَيْنِ، وَالصَّفُّ الآخَرُ يَحْرِسُونَهُمْ، ثُمَّ يَسْجُدُ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ سَجْدَتَيْنِ لأنْفُسِهِمْ؛ ثُمَّ يَتَشَهَّدُ الإمَامُ وَيُسَلِّمُ بهِمْ جَمِيْعاً). وهكذا قالَ ابنُ أبي ليلَى.
وقال مَالِكُ: (يَجْعَلُ الإمَامُ النَّاسَ طَائِفَتَيْنِ، فَيُصَلِّي بطَائِفَةٍ رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ يَنْتَظِرُ الإمَامُ حَتَّى يُصَلُّواْ بَقِيَّةَ صَلاَتِهِمْ وَيُسَلِّمُواْ وَيَنْصَرِفُوا إلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ، وَتَأْتِي الطَّائِفَةُ الأُخْرَى فَيُصَلِّي بهِمْ رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ، وَيُسَلِّمُ الإمَامُ، وَيَقُومُونَ فَيُتِمُّونَ صَلاَتَهُمْ). وقال الشَّافِعِيُّ مِثْلَ ذلكَ إلاّ أنه قالَ في الطائفةِ الأُخرى: (لاَ يُسَلِّمُ بهِمُ الإمَامُ؛ وَلَكِنْ يَنْتَظِرُ حَتَّى يَقُومُوا فَيُتِمُّوا صَلاَتَهُمْ، ثُمَّ يُسَلِّمُ بهِمْ).
وإنَّما وقعَ بهم هذا الاختلافُ لاختلافِ الأخبار الواردة في هذا الباب. روى عَلِيٌّ وابنُ مسعُودٍ وجماعةٌ من الصحابةِ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم صَلاَّهَا كَمَا قَالَ أبُو يُوسُفَ، ذكرنَا عن أبي حَنِيْفَةَ ومحمدٍ وعن ابن عبَّاس: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم صَلاَّهَا كما قال أبو يوسُف، وعن سهلِ بن أبي حثمة أنهُ صلى الله عليه وسلم صَلاَّهَا كما قالَ الشَّافِعِيُّ.
فدلَّت هذه الأخبارُ على جواز الجميع، وإنَّّما يقعُ الكلامُ في الأوَّل، والأقربُ إلى ظاهرِ القُرْآنِ وظاهرهُ يشهدُ للروايةِ التي رواهَا عَلِيٌّ وابنُ مسعودٍ؛ لأنَّ في قولهِ تعالى: { فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ مَّعَكَ } دليلٌ على أن الإمامَ لا يُصَلِّي بالطائفتين معاً، وفي قولهِ تعالى: { فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ } دليلٌ على أنَّ الطائفةَ الأُولى تنصرفُ عَقِبَ السجودِ. وعندَ مالكٍ والشافعيِّ: لا تنصرفُ الطائفة الأُولى إلاَّ بعد تَمام الصلاةِ.
وفي قولهِ: { وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَىٰ لَمْ يُصَلُّواْ } دليلٌ أنَّ الطائفةَ الثانية تأتِي وهي غيرُ مُصَلِّيَةٍ، وهذا خلافُ ما قالَ أبو يُوسف. وهذا كُلُّهُ إذا أمْكَنَهُمْ إقامةُ الصلاة بالجماعةِ، أمَّا إذا لم يُمكنهم الجماعةُ لقيامِ القتالِ وكثرةِ العدوِّ، وصلَّى كلُّ واحدٍ لنفسه على حسب ما أمكنَه، إمَّا إلى القِبلة وإما إلى غيرِها إذا لم يمكنْهُ التوجُّه إليها أو راكباً يُؤمِئُ إيْماءً، كما قال تعالى:
{ { فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً } [البقرة: 239].
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَدَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَّرْضَىۤ أَن تَضَعُوۤاْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ }؛ قال ابنُ عبَّاس:
"غَزَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُحَارباً بَنِي أنْمَارَ فَهَزَمَهُمُ اللهُ تَعَالَى؛ فَنَزَلَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وَالْمُسْلِمُونَ وَلاَ يَرَوْنَ مِنَ الْعَدُوِّ أحَداً، فَوَضَعُوا أسْلِحَتَهُمْ وَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَمْشِي لِحَاجَةٍ لَهُ قَدْ وَضَعَ سِلاَحَهُ، حَتَّى قَطَعَ الْوَادِي وَالسَّمَاءُ تَرُشُّ، فَحَالَ الْوَادِي بَيْنَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأَصْحَابهِ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ، فَبَصَرَ بهِ غَوْرَثُ بْنُ الْحَارِثِ الْمُحَاربيُّ، فَانْحَدَرَ مِنَ الْجَبَلِ وَمَعَهُ السَّيْفُ، وَقَالَ لأَصْحَابهِ: قَتَلَنِي اللهُ إنْ لَمْ أقْتُلْ مُحَمَّداً، فَلَمْ يَشْعُرْ بهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلاَّ وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى رَأسِهِ وَفِي يَدِهِ السَّيْفُ مَسْلُولاً.
فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ؛ مَنْ يَعْصِمُكَ مِنَّي الآنَ؟ فَقَالَ: اللهُ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ قَالَ صلى الله عليه وسلم: اللَّهُمَّ اكْفِنِي غَوْرَثَ بْنَ الْحَرْثِ بمَا شِئتَ فَأَهْوَى بالسَّيْفِ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِيَضْرِبَهُ، فَانْكَبَّ لِوَجْهِهِ وَبَدَرَ سَيْفَهُ، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخَذ السَّيْفَ وَقَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ وَيَعْصِمُكَ مِنَّي يََا غَوْرَثُ؟ قَالَ: لاَ أحَد. قَالَ: إشْهَدْ أنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ وَأنِّي رَسُولُ اللهِ وَأعْطِيْكَ سَيْفَكَ قَالَ: لاَ، وَلَكِنْ لاَ أقَاتِلُكَ أبَداً، وَلاَ أعِيْنُ عَلَيْكَ عَدُوّاً، فَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَيْفَهُ، فَقَالَ غَوْرَثُ لِلَّنبيِّ صلى الله عليه وسلم: أجَلْ؛ لأنْتَ خَيْرٌ مِنِّي، فَقَالَ: أجَلْ؛ أنَا أحَقُّ بذَلِكَ مِنْكَ.
فَرَجَعَ إلَى أصْحَابهِ؛ قَالُوا لَهُ: وَيْلَكَ! رَأيْنَاكَ قَدْ أهْوَيْتَ بالسَّيْفِ قَائِماً عَلَى رَأسِهِ، مَا مَنَعَكَ مِنْهُ؟ فَقَالَ: لَقَدْ أهْوَيْتُ لَكِنْ وَاللهِ لاَ أدْري مَنْ زَلَخَنِي بَيْنَ كَتِفَيَّ، فَخَرَرَتُ لِوَجْهِي، وَخَرَّ سَيْفِي مِنْ يَدِي، فَسَبَقَنِي إلَى سَيْفِي فَأَخَذهُ. ثُمَّ رَجَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَطَعَ الْوَادِي وَأتَى أصْحَابَهُ فَأَخْبَرَهُمْ بالْقِصَّةِ"
، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَّرْضَىۤ أَن تَضَعُوۤاْ أَسْلِحَتَكُمْ }. أي لا مَأْثَمَ عليكُم في ذلكَ، وخُذُوا حِذْرَكُمْ من عدوِّكم؛ { إِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً }؛ يُهَانُونَ فيه وهو الْقَتْلُ في الدُّنيا والنارُ في الآخرةِ.