التفاسير

< >
عرض

ٱلرِّجَالُ قَوَّٰمُونَ عَلَى ٱلنِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَٰلِهِمْ فَٱلصَّٰلِحَٰتُ قَٰنِتَٰتٌ حَٰفِظَٰتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ ٱللَّهُ وَٱلَّٰتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَٱهْجُرُوهُنَّ فِي ٱلْمَضَاجِعِ وَٱضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً
٣٤
-النساء

التفسير الكبير

قَوْلُهُ تَعَالَى: { ٱلرِّجَالُ قَوَّٰمُونَ عَلَى ٱلنِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَٰلِهِمْ }؛ قال ابنُ عبَّاس ومقاتلُ: "نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي سَعْدِ بْنِ الرَّبيْعِ - وَكَانَ مِنَ النُّقَبَاءِ - وَفِي امْرَأَتِهِ ابْنَةُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ وَهُمَا مِنَ الأَنْصَار، نَشَزَتْ عَلَيْهِ فَلَطَمَهَا، فَاْنطَلَقَ أبُوهَا مَعَهَا إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ أفْرَشْتُهُ كَرِيْمَتِي فَلَطَمَهَا، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: اقْتَصِّي مِنْهُ وَكَانَ الْقِصَاصُ يَوْمَئِذٍ بَيْنَهُمْ فِي اللَّطْمَةِ وَالشَّجَّةِ وَالْجِرَاحِ، فَانْصَرَفَتْ مَعَ أبيْهَا لِيَقْتَصَّ مِنْهُ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: ارْجِعُواْ؛ هَذا جِبْرِيْلُ أتَانِي فَأنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: أرَدْنَا أمْراً؛ وَأرَادَ اللهُ أمْراً، وَالَّذِي أرادَ اللهُ خَيْرٌ وَرُفِعَ الْقِصَاصُ."
ومعناها: الرجالُ مُسَلَّطُونَ على أدب النِّساء بالحقِّ، والقوَّامُونَ الْمُبَالِغُونَ بالقيامِ عليهنَّ بتعليمهنَّ وتأديبهنّ وإصلاحِ أمورهن، وقولهُ تعالى: { بِمَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ } أي جَعَلَ اللهُ ذلك للرجالِ بفضلِهم على النساء في العقلِ والرَّأي، وَقِيْلَ: بزيادةِ الدِّين واليقينِ، وَقِيْلَ: بقوة العبادةِ والجهادِ، وَقِيْلَ: بالجمُعة والجماعةِ وبإنفاقِهم أموالِهم في الْمُهُور وأقْوَاتِ النساءِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَٱلصَّٰلِحَٰتُ قَٰنِتَٰتٌ حَٰفِظَٰتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ ٱللَّهُ }؛ أي فَالْمُحْصَنَاتُ المطيعاتُ لله في أمرِ أزواجِهن، وَقِِيْلَ: قائماتٌ بحقوقِ أزواجهن. وأصل الْقُنُوتِ: مُدَاوَمَةُ الطَّاعَةِ، وقولهُ تعالى: { حَٰفِظَٰتٌ لِّلْغَيْبِ } أي يَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وأموالَ أزواجهنَّ في حال غَيْبَةِ أزواجهنَّ. ويدخلُ في حفظِ المرأة لغيب الزوج أن تَكْتُمَ عليه ما لا يحسَنُ إظهارهُ مما يقفُ عليه أحدُ الزوجين على الآخرِ. وقولهُ تعالى: { بِمَا حَفِظَ ٱللَّهُ } أي يحفظُ الله إياهُنَّ من معاصيهِ وبتوفِيقه لَهُنَّ، ويقال: بما حفظهنَّ اللهَ تعالى في مهورهن وإلزام الزوج النفقةَ عليهن. قال صلى الله عليه وسلم:
"خَيْرُ النِّسَاءِ مَنْ إذا نَظَرْتَ إلَيْهَا سَرَّتْكَ؛ وَإذا أمَرْتَهَا أطَاعَتْكَ؛ وَإذا غِبْتَ عَنْهَا حَفِظَتْكَ فِي مَالِكَ وَنَفْسِهَا"
]. قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَٱلَّٰتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَٱهْجُرُوهُنَّ فِي ٱلْمَضَاجِعِ وَٱضْرِبُوهُنَّ }؛ أي النساءِ التي تعلمونَ عصيانَهنَّ لأزواجَهن فَعِظُوهُنَّ، والنُّشُوزُ: الرَّفْعُ عَنِ الصَّاحِب، مأخوذٌ من النَّشْزِ وهو المكانُ المرتفعُ، المرادُ من الْوَعْظِ وَالْهَجْرِ وَالضَّرْب في الآيةِ أن يكونَ ذلك على الترتيب المذكور فيها؛ لأن هذا من باب الأمْرِ بالمعروف والنَّهي عن المنكرِ، إذا أمكنَ الاستدراكُ بالأسهلِ والأخفِّ لا يُصَارُ إلى الأثقلِ، فالأَوْلى أن يبدأ الزوجُ فيقول لامرأتهِ الناشِزَةُ: إتَّقِِ اللهَ وارجعي إلى فراشِي، فأطاعَتْهُ وإلاّ سَبَّهَا، هكذا قال ابنُ عبَّاس رضي الله عنه.
وَالْهَجْرُ: الْكَلاَمُ الْفَاحِشُ، يقالُ: هَجَرَ الرَّجُلُ يَهْجُرُ، إذا هَدَأ، وأهْجَرَ الرجلُ في مَنْطِقِهِ بهجرٍ هجاراً إذا تكلَّمَ بقبيحٍ. وقال الحسنُ وقتادة: (قَوْلُهُ: { وَٱهْجُرُوهُنَّ فِي ٱلْمَضَاجِعِ } مِنَ الْهَجْرِ؛ وَهُوَ أنْ لاَ يَقْرَبَ فِرَاشَهَا وَلاَ يَنَامَ مَعَهَا؛ لأنَّ اللهَ تَعَالَى قَرَنَهُ بقَوْلِهِ تَعَالَى { فِي ٱلْمَضَاجِعِ }. إذا لم ينفَعْها الوعظُ هَجَرَهَا زوجُها في المضجَعِ، فإنْ كانت تُحِبُّ زوجَها شُقَّ عليها الهجرانُ، وإن كانت تَبْغَضُهُ وافقَها ذلك، فكان دليلاً على النُّشُوز من قِبَلِها؛ فيضربُها الزوجُ ضرباً غيرَ مبرِّح ولا شائنٍ، كما يؤدِّبُ الرجل وَلَدَهُ، ويكون ذلك مَوْكُولاً إلى رأيهِ واجتهاده على ما يرى من المصلحةِ، ولِهذا قيلَ: إن هذا الضربَ مُقَيَّدٌ بشرطِ السَّلامة، فالأَوْلى أن يضربَها بالنعلِ واللَّطْمِ ضربَتَين أو ثلاثاً على حسب ما يراهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ }؛ أي فيما تَلْتَمِسُونَ منهنَّ؛ { فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً }؛ أي لا تطلُبوا عليهنَّ عِلَلاً ولا تكلفوهنَّ الْحُبَّ لكم، فإنَّهن لا يَملكنَ ذلك، { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً }؛ أي عَلاَ فوقَ كلِّ شيء كبيراً فلا شيءَ أكبرُ منه، أراد بالعَلِيِّ: الْعُلُوَّ في القهرِ والقَدْر لا عُلُوَّ المكانِ، وأراد بالكَبيرِ الجلالَ وَالْعَظَمَةَ. والمعنى: أنِّي مع عُلُوِّي وَكِبْرِيَائِي، أرضَى من عبادِي بالطاعةِ ولا آخذُهم بالحب الذي لا غايةَ بعده، فإن أكبرَ عبادي من يُؤْثِرُ نفسَهُ عَلَيَّ، ولا يُخْلِصُ حُبَّهُ لِي كلَّ الإخلاصِ.
وقد روي:
"أنَّهُ لَمَّا شَكَا الرِّجَالُ نِسَاءَهُمْ إلى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَهُمْ بالضَّرْب؛ أصْبَحَ بَباب رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَبْعُونَ امْرَأةً يَشْكُونَ أزْوَاجَهُنَّ، فَأَقْبَلَ عَلَى أصْحَابهِ بَعْدَ الصَّلاَةِ وَقَالَ: إنَّ الْمَرْأةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلْعِ أعْوَجٍ، فَإنْ أرَدْتُمْ إقَامَتَهَا كَسَرْتُمُوهَا، وَإنْ رَفَقْتُمْ بهَا اسْتَمْتَعْتُمْ بهَا عَلَى عِوَجٍ ثُمَّ قَالَ: خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ" .