التفاسير

< >
عرض

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ ٱللَّهُ وَلَوْ تَرَىۤ إِذِ ٱلظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ ٱلْمَوْتِ وَٱلْمَلاۤئِكَةُ بَاسِطُوۤاْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوۤاْ أَنْفُسَكُمُ ٱلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ ٱلْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ غَيْرَ ٱلْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ
٩٣
-الأنعام

التفسير الكبير

قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ ٱللَّهُ }؛ قال ابن عبَّاس: (نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي مَالِكِ بْنِ الصَّيْفِ وَمُسَيْلَمَةَ الْكَذاب الَّذِي كَانَ يَدَّعِي النُّبُوَّةَ، وَفِي عَبْدِاللهِ بْنِ سَعْدِ بْن سَرْحٍ الْقُرَشِيِّ، "كَانَ عَبْدُاللهِ بْنُ سَعْدٍ يَتَكَلَّمُ بالإسْلاَمِ، وَكَانَ يَكْتُبُ لِلنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم الْقُرْآنَ الَّذِي يَنْزِلُ عَلَيْهِ فِي بَعْضِ الأَحْيَانِ، وَكَانَ إذا أمْلَى عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ اللهَ عَزِيْزٌ حَكِيْمٌ، كَتَبَ مِنْ قَلْبهِ: أنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيْمٌ، وَقَالَ: هَذا وَذاكَ سَوَاءٌ.
فَلَمَّا نَزَلَتِ الآيَةُ الَّتِي فِي سُورَةِ قَدْ أَفْلَحَ: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ } إلى قَوْلِهِ تَعَالَى { فَكَسَوْنَا ٱلْعِظَامَ لَحْماً }، ثُمَّ أمْلاَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا أمْلَى عَلَيْهِ قَوْلَهُ: { ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ } عَجِبَ عَبْدُاللهِ بْنُ سَعْدٍ مِنْ تَفْصِيْلِ خَلْقِ الإِنْسَانِ، فَجَرَى عَلَى لِسَانِهِ: فَتَبَارَكَ اللهُ أحْسَنُ الْخَالِقِينَ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: أكْتُبْ، هَكَذا أُنْزِلَ عَلَيَّ. فَشَكَّ عَبْدُاللهِ حِيْنَئِذٍ، وَقَالَ: لَئِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ صَادِقاً فَقَدْ أُوْحِيَ إلَيَّ كَمَا أُوْحِيَ إِلَيْهِ، وَلإنْ كَانَ كَاذِباً فَلَقَدْ قُلْتُ كَمَا قَالَ."
فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ)
ومعناها: أيُّ أحدٍ أكفرُ وأشدُّ غبناً في كفره ممن اختلق على الله كذباً، بأن جعل له شريكاً وولداً كما قال المشركون ومالكُ بن الصيف: (وَمَنْ قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أنزَلَ اللهُ)، والمرادُ بالذي { قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ } مسيلمةَ الكذاب وكان يَسْجَعُ ويَتَكَهَّنُ ويدَّعي النبوَّة ويزعمُ أنَّ الله أوحَى إليه. وأما عبدُالله بن سرح فارتدَّ ولَحِقَ بالمشركين وقال: أنا أعلمُكم بمُحَمَّدٍ، فلقد كان يُملي عليَّ فأغيرَه واكتبُ كما شئت.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَلَوْ تَرَىۤ إِذِ ٱلظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ ٱلْمَوْتِ وَٱلْمَلاۤئِكَةُ بَاسِطُوۤاْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوۤاْ أَنْفُسَكُمُ }؛ أي لو رأيتَ الظالمين { فِي غَمَرَاتِ ٱلْمَوْتِ } لرأيتَ لَهم عذاباً عظيماً. والظالمون هُم الكافرون، وقيلَ: المنافقون رَآهُمْ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يومَ بدرِ في صفوفِ المشركين، وقد نَرَى مسلمين بمكَّة فأخرجَهم أهلُ مكة معهم كَرْهاً، فلما رأوا قِلَّةَ المؤمنين رَجَعُوا إلى الشِّرك، فقالوا: غَرَّ هؤلاء دينُهم، عَنَوا به المؤمنينَ، وقاتلُوا مع المشركين فَقُتِلُوا جميعاً عامَّتهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { فِي غَمَرَاتِ ٱلْمَوْتِ } أي في سَكَرَاتِهِ ونزعاتِه وشدائده، وقوله تعالى: { وَٱلْمَلاۤئِكَةُ بَاسِطُوۤاْ أَيْدِيهِمْ } معناه: أنَّ مَلَكَ الموتِ وأعوانَه من ملائكةِ العذاب يَبْسُطُونَ أيدَيهم عليهم بالعذاب ويقولون لَهم: { أَخْرِجُوۤاْ أَنْفُسَكُمُ } أي خلَّصوا أنفسَكم، ولستُم تقدرون على خلاصٍ. وقيل: معناه فَارَقُوا أرواحكم الخبيثةَ، كما يقولُ: لأُحْرِقَنَّكَ بالْعَذاب، لأُخْرِجَنَّ نَفْسَكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { ٱلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ ٱلْهُونِ }؛ أي يقال لَهم يومَ قبضِ الرُّوح، وقيل: يومَ القيامةِ حين معاينَة العذاب: اليوم تُجْزَوْنَ العذابَ الشَّديد الذي تُهَانُونَ فيه، { بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ }، بكَذِبكُمْ، { عَلَى ٱللَّهِ غَيْرَ ٱلْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ }، وبما كنتم تَتَعَظَّمُونَ عن الإيْمَان بمُحَمَّد صلى الله عليه وسلم والقُرْآنِ.