قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ ٱلْكِتَٰبَ }؛ أي خَلَفَ مِن بعد هؤلاءِ الذين قطَّعناهم في الأرضِ ذرِّيةُ سُوءٍ، وهم الذين أدرَكَهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم، قال ابنُ الأعرابي: (الْخَلَفُ بفَتْحِ اللاَّمِ الصَّالِحُ، وبإسكانِ اللام الطَّالِحُ)، قال لَبيدٌ:
ذهَبَ الَّذِينَ يُعَاشُ فِي أكْنَافِهِمْ وَبَقِِيْتُ فِي خَلْفٍ كَجِلْدِ الأَجْرَب
ومنهُ قيلَ لرَدِّ الكلامِ خِلْفٌ، ومنه المثلُ السائر (سَكَتَ ألْفاً وَنَطَقَ خَلْفاً)، قال النَّضِرُ بنُ شُمَيلٍ: (الْخَلَفُ بِفَتْحِ اللاَّمِ وَإٍسْكَانِهَا فِي الْقَرْنِ السُّوءِ، وَأَمَّا الْقَرْنُ الصَّالِحُ فَتَحْرِيكُهَا لاَ غَيْرَ، قَالَ الشَّاعِرُ:
إنَّا وَجَدْنَا خَلْفَنَا بئسَ الْخَلْفِ عَبْداً إذا مَا نَاءَ بالْحِمْلِ خَضَفْ
وقال محمَّد بن جرير: (أكْثَرُ مَا جَاءَ فِي الْمَدْحِ بفتحِ اللاَّمِ، وَفِي الذمِ بِتَسْكِينِهَا، وقد تُحرَّكُ في الذمِّ ويُسَكَّنُ في المدحِ. قال حسَّانٌ في المدحِ:
لَنَا الْقَدَمُ الأُوْلَى إلَيْكَ وَخَلْفُنَا لأَوَّلِنَا فِي طَاعَةِ اللهِ تَابعُ
قال: (وَأحْسَبُهُ فِي الذمِّ مَأْخوذٌ مِنْ خَلْفِ اللَّبَنِ إذا حَمِضَ مِنْ طُولِ تَرْكِهِ فِي السِّقَاءِ حَتَّى يَفْسَدَ، وَِِِِمِنْهُ قَوْلُهُم: خَلْفُ فَمِ الصَّائِمِ؛ إذا تَغَيَّرَتْ ريحُهُ وَفَسَدَتْ، فَكَأَنَّ الرَّجُلَ الْفَاسِدَ مُشَبَّهٌ بهِ). والحاصلُ أنَّ كُلاً منهما يُستعملان في الشرِّ والخيرِ، إلاَّ أنَّ أكثرَ الاستعمالِ في الخيرِ بالفتح.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَرِثُواْ ٱلْكِتَٰبَ } أي التَّوراة، والميراثُ ما صارَ للباقي من جهةِ البَادِي كأنه قال فخَلَفَ من بعدِ الهالِكين منهم خَلْفٌ وَرُثوُا الكتابَ. وقولهُ تعَالى: { يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَـٰذَا ٱلأَدْنَىٰ }؛ يعني به أخْذُ الرَّشوةِ في الْحُكمِ؛ لتغيِّر الحقَّ إلى الباطلِ. وقال بعضُهم: كانوا يحكِمُون بالحقِّ لكن بالرَّشوة، وإنما سُمي متاعُ الدنيا عَرَضاً لقلَّة بقائهِ كأنه يعرضُ فيزول. قَالَ اللهُ تَعَالَى: { هَـٰذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا } [الأحقاف: 24] أرادَ بذلك السَّحابَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا }؛ أي يقولون مع أخذِهم الرَّشوة أنه سيُغفَرُ لنا ذلك، وما عمِلناهُ باللَّيل كُفِّرَ عنا بالنهار، وما عملناهُ بالنهار كُفِّرَ عنا بالليلِ، { وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ }؛ معناهُ: وإنْ عرضَ لهم ذنبٌ آخر عَمِلُوهُ، وفي هذا بيانُ أنَّهم كانوا يُصِرُّونَ على الذنب وأكلِ الحرام، وكانوا يستَغفِرُونَ مع الإصرار، فكيف يُغفَرُ لهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِّيثَٰقُ ٱلْكِتَٰبِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ }؛ معناهُ: ألَمْ يُؤخذ عليهم الميثاقُ في التَّوراةِ ألاَّ يقولوا على اللهِ إلا الصِّدقَ، وكان في التوراةِ أنَّ مَن ارتكبَ ذنباً عظيماً لَمْ يُغفر له بالتوبةِ، { وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ }؛ فكانوا يدرسون ما في التَّوراةِ، ويذكرون ما أُخذ عليهم من المواثيقِ، يقولون مع إصرارهم على الذُّنوب: سيُغفَرُ لنا.
وقال الحسنُ: (مَعْنَى الآيَةِ أنَّهُمْ كَانُواْ يَأْخُذُونَ الدُّنْيَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ حُرِّمَ عَلَيهِمْ وَيُمْنَعُونَ كُلَّ حَقٍّ، وَيُنْفِقُونَ فِي كُلِّ سَرَفٍ، وَيَتَمَنَّونَ مَعَ هَذِهِ الأَشْيَاءِ عَلَى اللهِ الأَمَانِيَّ، وَيَقُولُونَ: سَيُغْفَرُ لَنَا، وإنْ يأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ كَمَا أخَذُواْ، ألَمْ يَعْرِفُواْ فِي الْكِتَاب خِلاَفَ مَا هُمْ عَلَيْهِ). وقرأ السلميُّ: (وَادَّارَسُوا فِيْهِ مِثْلَ ادَّارَكُواْ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ }؛ أي يتَّقونَ المعاصي والشِّرك وأكلِ الحرامِ، { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }؛ ما يَدرُسون في كتابهم، وَقِيْلَ: أفلاَ يعقِلُونَ أن الإصرارَ على الذنب ليس من علامةِ المغفور لَهم.