التفاسير

< >
عرض

يَابَنِيۤ ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُوۤاْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُسْرِفِينَ
٣١
قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِيۤ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ ٱلرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
٣٢
قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ ٱلْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَٱلإِثْمَ وَٱلْبَغْيَ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِٱللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
٣٣
-الأعراف

التفسير الكبير

قَوْلُهُ تَعَالَى: { يَابَنِيۤ ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ } ذلك أنَّ أهلَ الجاهليَّةِ كانوا يطُوفُونَ بالبيتِ عُرَاةً ويقولون: لاَ نطوفُ في الثياب التي أذْنَبْنَا فيها ودَنَّسْنَاهَا بالذنوب، فكانتِ المرأةُ منهم تَطُوفُ بالبيتِ عَرْيَانَةً باللَّيْلِ، إلا أنَّهَا كانت تَتَّخِذُ سُيُوراً مُقَطَّعَةً تُشَدُّ في حِقْوَيْهَا، فكانت السُّيُورُ لا تسترُها سِتْراً تامّاً.
قال المفسِّرون: كانت بنُو عامرٍ في الجاهليَّة يفعلونَ ذلك، كان رجالُهم يطوفون عراةً بالنَّهار، ونساؤُهم ليلاً. وحُكِيَ أنَّ امرأةً كانت تطوفُ عريانةً وهي تقولُ:

الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أوْ كُلُّهُ فَمَا بَدَا مِنْهُ فَلاَ أُحِلُّهُ

وكانوا إذا قَدِمُوا منهُ طََرَحَ أحدُهم ثيابَه في رجلهِ، فإن طافَ وهي عليه ضُرِبَ وانْتُزِعَتْ منهُ، فأنزلَ اللهُ هذه الآيةَ: { يَابَنِيۤ ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } يعني الثِّيَابَ. وقال مجاهدُ: (يَعْنِي: مَا يُوَارِي عَوْرَتُكُمْ وَلَوْ عَبَاءَةً).
وقال الكلبيُّ: (كَانَتْ بَنُو عَامِرٍ لاَ يَأْكُلُونَ مِنَ الطَّعَامِ إلاَّ قُوْتاً، وَلاَ يَأْكُلُونَ دَسِماً فِي أيَّامِ حَجِّهِمْ، يُعَظِّمُونَ بذلِكَ حَجَّهُمْ. وَكَانَتْ قُرَيْشُ وَكِنَانَةُ يَفْعَلُونَ. فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: يَا رَسُولَ اللهِ، نَحْنُ أحَقُّ أنْ نَفْعَلَ ذلِكَ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: { يَابَنِيۤ ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ }. { وَلاَ تُسْرِفُوۤاْ }؛ أي الْبَسُوا ثيابَكم عندَ كلِّ مسجدٍ، وكُلُوا اللَّحْمَ والدَّسِمَ، واشربُوا من ألبانِ السَّوائبِ والبَحَائِرِ، { وَلاَ تُسْرِفُوۤاْ } أي لا تُجَاوِزُوا تحريْمَ ما أحلَّ اللهُ لكم.
والإِسْرَافُ: مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ؛ فتارةً تكون مجاوزةُ الحلالِ إلى الحرامِ؛ وتارةً تكونُ مجاوزةُ الحدِّ في الإنفاقِ؛ وتارةً تكونُ بأنْ يأكلَ الإنسانُ فوقَ الشَّبَعِ فيؤدِّي به ذلكَ إلى الضَّرر.
ويروى: أنَّ هَارُونَ الرَّشِيْدَ كان له طبيبٌ نصرانِيٌّ حاذقٌ، فقال لعليِّ بن الحسين ابن واقدٍ: ألَيْسَ في كتابكم من علمِ الطب شيءٌ؟ والعلمُ عِلمان: علمُ الأديانِ وعلمُ الأبدانِ، فقالَ لهُ: إنَّ اللهَ تعالى قد جَمَعَ الطبَّ كلُّه بنصفِ آيةٍ من كتابنا. وقال: ومَا هِي؟ قال: قَوْلُهُ تَعَالَى: { وكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُوۤاْ }. فقال النصرانِيُّ: هل يُؤْثَرُ عن رسولِكم شيءٌ من الطب؟ قال: نَعَمْ؛ جمعَ رسولُنا صلى الله عليه وسلم الطبَّ في ألفاظٍ يسيرة. قال: وما هيَ؟ قال: قَوْلُهُ:
"الْمَعِدَةُ بَيْتُ الدَّاءِ، وَالْحِمْيَةُ رَأسُ كُلِّ دَوَاءٍ، وَعَوِّدُواْ كُلَّ جِسْمٍ مَا اعْتَادَ" . فقال النصرانِي: ما تركَ كتابُكم ولا نبيُّكم لجالينوسَ طِبّاً.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُسْرِفِينَ }؛ أي لا يرضَى عملَهم، ولا يُثْنِي عليهم: فلما نَزَلَتْ هذه الآيةُ طََافَ المسلمونَ في ثيابهم، وأكلُوا اللَّحمَ والدسمَ، فعيَّرهُم المشركون بذلكَ، فأنزلَ اللهُ:
قَوْلُهُ تَعَالَى: { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِيۤ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ ٱلرِّزْقِ } أي قُلْ لَهم يَا مُحَمَّدُ: مَن حَرَّمَ الثيابَ التي يَتَزَيَّنُ بها الناسُ، ومَنْ حَرَمَّ المستلذاتِ من الرِّزْق؟ ويقالُ: أرادَ بالطيِّباتِ: الحلالَ من الرَِّزْقِ، وفي قَوْلِهِ تَعَالَى: { خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } أمرٌ للإنسانِ أن يَلْبَسَ أحسنَ ثيابهِ في الأعيادِ والْجُمَعِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ }؛ قال ابنُ عبَّاس: (مَعْنَاهُ: أنَّ الْمُسْلِمِيْنَ يُشَاركُونَ الْمُشْرِكِيْنَ فِي الطَّيِّبَاتِ فِي الدُّنْيَا، فَأَكَلُواْ مِنْ طَيِّبَاتِ طَعَامِهِمْ؛ وَلَبسُوا مِنْ خِيَار ثِيَابهِمْ؛ وَنَكَحُوا مِنْ صَالِحِ نِسَائِهِمْ، ثُمَّ يُخْلِصُ اللهُ تَعَالَى الطَّيِّبَاتِ فِي الآخِرَةِ لِلَّذِيْنَ آمَنُواْ وَلَيْسَ لِلْمُشْرِكِيْنَ فِيْهَا شَيْءٌ).
وتقديرُ الآيةِ: قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا مشتركةٌ فِي الدُّنيَا، خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقِيْلَ: معناهُ: هي للمؤمنينَ في الدُّنيا غيرُ خالصةٍ من الهُمُومِ والأحزانِ والمشقَّة.
وقرأ ابنُ عبَّاس وقتادةُ ونافع: (خَالِصَةٌ) بالرفع؛ أي قِيْلَ: خَالِصَةٌ. وقرأ الباقونَ بالنصب على الحالِ والقطع، لأنَّ الكلامَ قد تَمَّ دونَه. قَوْلُهُ تَعَالَى: { كَذَلِكَ نُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ }؛ أي كما فَصَّلْنَا لكم الدلائلَ والأوامرَ والنواهي، هكذا تفصيلُها { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }؛ أي يَفْقَهُونَ أوامرَ اللهِ تعالى.
ثم بَيَّنَ اللهُ تعالى ما حَرَّمَ عليهم فَقَالَ عَزَّ وَجلَّ: { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ ٱلْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَٱلإِثْمَ وَٱلْبَغْيَ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ }؛ معناهُ: أنَّ الله تعالى لَمْ يُحَرِّمِ الثيابَ ولا الطيباتِ من الرِّزْقِ، وإنَّما حَرَّمَ الذُّنُوبَ.
والْفَوَاحِشُ: هي الكَبَائِرُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: { مَا ظَهَرَ مِنْهَا } أي ما عُمِلَ علانيةً، { وَمَا بَطَنَ } يعني سِرّاً. { وَٱلإِثْمَ } يتناولُ كلَّ ذنبٍ وأنْ يكون فيه حَدٌّ. وفائدةُ ذكر الإثمِ: بيانُ أنَّ التحريمَ غيرُ مقصورٍ على الكبائرِ. { وَٱلْبَغْيَ } يتناولُ الإقدامَ على الغيرِ { بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ }.
وقَوْلُهُ تَعَالَى: { وَأَن تُشْرِكُواْ بِٱللَّهِ }؛ معناهُ: وحَرَِّمَ عليكم أنْ تُشْرِكُوا باللهِ، { مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً }؛ أي عُذْراً ولا حُجَّةً. ثم بَيَّنَ اللهُ تعالى ما يصيرُ جامعاً للمحرَّمات كلِّها؛ وهو تحريمُ القولِ الذي لا عِلْمَ لقائلهِ به فقالَ: { وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }.
وَقِيْلَ: يعني بالفواحشِ: الطوافَ عُرَاةً، ويعني بقولهِ: { مَا ظَهَرَ مِنْهَا } طوافُ الرِّجالِ عُرَاةً بالنَّهار، { وَمَا بَطَنَ } طوافُ النِّساءِ بالليل عُرَاةً. وَقِيْلَ: أرادَ بقولهِ: { مَا ظَهَرَ مِنْهَا } التعرِّي عن الثياب في الطَّوافِ، { وَمَا بَطَنَ } يعني الزِّنا، ويعني بـ { ٱلإِثْمَ } كلَّ المعاصِي. وقَوْلُهُ تَعَالَى: { وَٱلْبَغْيَ } طلبُ التَّرَأُسِ على الناسِ بالقَهْرِ والاستطالَةِ عليهم بغير حقٍّ.
وقال الحسنُ: (يَعْنِي بـ { ٱلإِثْمَ } الْخَمْرَ). قال بعضُهمْ:

شَرِبْتُ الإثْمَ حَتَّى ضَلَّ عَقْلِي كَذاكَ الإثْمُ يَذْهَبُ بالْعُقُولِ