التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلأَحْبَارِ وَٱلرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلنَّاسِ بِٱلْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
٣٤
-التوبة

التفسير الكبير

قَوْلُهُ تَعَالَى: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلأَحْبَارِ وَٱلرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلنَّاسِ بِٱلْبَاطِلِ }؛ معناهُ: يا أيُّها الذين آمَنُوا بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم والقرآن إنَّ كَثيراً من الأحبار وهم من ولدِ هارُون، قوله: { وَٱلرُّهْبَانِ } وهم أصحابُ الصَّوامعِ وهم دونَ الأحبارِ في العلم، قَوْلُهُ تَعَالَى: { لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلنَّاسِ بِٱلْبَاطِلِ } أرادُوا به أخذَ الرِّشَا على الحُكمِ، وما كان لَهم مِنَ الهدايا من سَفَلَتِهِم على كِتْمَانِ بَعْثِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وصفتهِ، هكذا رُوي عن ابنِ عبَّاس، وقال السديُّ: (الأَحْبَارُ عُلَمَاءُ الْيَهُودِ، وَالرُّهْبَانُ أصْحَابُ الصَّوَامِعِ مِنَ النَّصَارَى).
وأما تخصيصُ الأكلِ في الآية، فلأنَّ مُعظَمَ المقصودِ من التَّمليكِ الأكلُ، فوُضِعَ الأكلُ موضعَ الْمِلْكِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ }؛ أي يَصرِفُونَ الناسَ عن دينِ اللهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ }؛ أي يجمَعونَها ويضَعون بعضها فوقَ بعضٍ؛ ولا يُنفِقُونَ الكُنُوزَ في طاعةِ الله. وَقِيْلَ: معناهُ: ولا يُنفِقُونَ الفضَّة، وحذفَ الذهبَ؛ لأن فِي بيانِ أحدِهما حكمُ الآخر، كما قالَ تعالى:
{ وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً ٱنفَضُّوۤاْ إِلَيْهَا } [الجمعة: 11]، والدليلُ على أنَّ هذه الكنايةَ راجعةٌ إلى الذهب والفضَّة جميعاً أنَّها لو رَجعت إلى أحدِهما لبَقِِيَ الآخرُ عَارِياً عن الجواب، فيصيرُ كلاماً مُنقطعاً لا معنى له، وتقديرُ الآيةِ: لاَ يُنفقون منها؛ أي لا يُؤَدُّونَ زَكاتَهما ولا يُخرِجُونَ حقَّ الله منهما، إلاَّ أنه حذفَ (مِنْ) وأرادَ إثباتَها، بدليلِ أنه تعالى قال في آيةٍ أخرى { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } [التوبة: 103] قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "فِي مِائَتَي دِرْهَمٍ خَمْسُ دَرَاهِمَ، وَفِي عِشْرِينَ مِثْقَالاً مِنَ الذَّهَب نِصْفُ مِثْقَالٍ" ولو كان الواجبُ إنفاق جميعِ المال لم يكن لِهذا التقديرِ وجهٌ.
وسُمِّي الذهبُ ذَهباً؛ لأنه يذهبُ ولا يبقَى، وسميت فضةُ لأنَّها تَنْفَضُّ؛ أي تُفرَّقُ ولا تبقَى، وحسبُكَ باسمِهنَّ دلالةً على فَنَائِهما وأنه لا بقاءَ لهما.
وقولهُ تعالى: { فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } أي ضَعِ الوعيدَ لهم بالعذاب موضعَ بشارةِ بالنِّعم لغيرِهم؛ وعن ابنِ عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أنه قالَ: (كُلُّ مَالٍ أدَّيْتَ زَكَاتَهُ فَلَيْسَ بكَنْزٍ وَإنْ كَانَتْ تَحْتَ سَبْعِ أرْضِينَ، وَكُلُّ مَالٍ لَمْ تُؤَدِّ زَكَاتَهُ فَهُوَ كَنْزٌ وَإنْ كَانَ ظَاهِراً).