التفاسير

< >
عرض

وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِي ٱلسَّمَآءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذٰلِكَ وَلاۤ أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ
٦١
أَلاۤ إِنَّ أَوْلِيَآءَ ٱللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
٦٢
ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ
٦٣
لَهُمُ ٱلْبُشْرَىٰ فِي ٱلْحَياةِ ٱلدُّنْيَا وَفِي ٱلآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ ٱللَّهِ ذٰلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ
٦٤
وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ ٱلْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ
٦٥
-يونس

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ } قال بعضهم من أهل التأويل: في شأن: في أمرك وحالاتك وما تتلو منه من قرآن تبلغهم به الرسالة وقال بعضهم: قوله: { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ } أي: في عبادة.
{ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْآنٍ }: تبلغهم به الرسالة.
{ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً }: يخاطب نبيه تنبيهاً منه وإيقاظاً والمراد منه هو وغيره، ألا ترى أنه قال: { وَلاَ تَعْمَلُونَ } من عمل عمهم جميعاً في ذلك، يخبر أنكم في كل أمر يكون بينكم وبين ربكم، وفي كل أمر بينكم وبين الناس - فلله لكم وعليكم شهود، أو كل عمل تعملون لكم وعليكم شهود ينبههم ويوقظهم ليكونوا على حذر أبداً منتبهين [متيقظين { إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ } قال بعضهم: { تُفِيضُونَ فِيهِ } تأخذون فيه وتخوضون فيه.
وقيل: تقولون فيه.] وقيل: يكثرون فيه؛ وكله واحد.
ثم يحتمل قوله: { فِيهِ } في الحق، ويحتمل في الدين، ويحتمل في القرآن، ويحتمل في رسول الله؛ يقول: أنا شاهد فيما تخوضون وفيما تقولون في رسول الله، أو في دينه، أو فيما يتلو عليكم.
{ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِي ٱلسَّمَآءِ }: لا يعزب، [أي: لا يغيب] عن ربك من مثقال ذرة في الأرض، ولا في السماء فيما لا أمر فيه ولا نهي ولا كلفة، فالذي فيه السؤال والأمر والنهي والكلفة أحرى وأولى ألا يغيب عنه شيء.
وقوله - عز وجل -: { وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ } هو تحذير وتخويف بتمثيل لا وعيد بتقرير وتصريح؛ لأن الوعيد على وجهين:
أحدهما: على التمثيل، والآخر على التقرير في عينه وتصريح.
وقوله - عز وجل - { إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } قيل: ما قل وما كثر إلا في كتاب، أي: إلا في اللوح المحفوظ [مبين]، ويحتمل إلا في كتاب مبين، أي: في الكتب المنزلة من السماء والله أعلم.
وقال أبو بكر الأصم في قوله: { إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ }: أي تنتشرون، وتأويله ولا تعملون من عمل تنتشرون فيه إلا كنا عليكم شهوداً.
وقوله - عز وجل -: { أَلاۤ إِنَّ أَوْلِيَآءَ ٱللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }: قالت المعتزلة: دلت الآية على أن أصحاب الكبائر ليسوا بمؤمنين؛ لأنهم لو كانوا مؤمنين لكانوا أولياء الله، وإذا كانوا أولياء الله لكان لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فإذا كان لا شك أن على أصحاب الكبائر خوف وحزن [دل أنهم ليسوا بمؤمنين ولا لهم ولاية الإيمان لكن التأويل عندنا - والله أعلم -:] { أَلاۤ إِنَّ أَوْلِيَآءَ ٱللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } على ما يكون لأهل الدنيا في الدنيا من الخوف والحزن، إنما خوفهم وحزنهم لعاقبتهم، ويشبه ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون في الجنة، وهكذا يكون إذا دخلوا الجنة يأمنون عن جميع ما ينقصهم.
وقال بعضهم: { أَوْلِيَآءَ ٱللَّهِ } هم أهل التوحيد، لكن تلك البشارة وذلك الوعد لأهل التوحيد في الاعتقاد والوفاء جميعاً، لا لأهل الاعتقاد خاصة.
وقوله - عز وجل -: { لَهُمُ ٱلْبُشْرَىٰ فِي ٱلْحَياةِ ٱلدُّنْيَا وَفِي ٱلآخِرَةِ } قال بعضهم: { لَهُمُ ٱلْبُشْرَىٰ فِي ٱلْحَياةِ ٱلدُّنْيَا } الرؤيا الصالحة؛ وعلى ذلك رويت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن هذه الآية ففسر بالرؤيا الصالحة، فإن ثبت فهو الحق.
وقال بعضهم: لا تحتمل الرؤيا الصالحة [؛ لأنه نسق البشرى في الآخرة على البشرى في الحياة الدنيا، ولا شك أنه لا يكون في الآخرة الرؤيا الصالحة،] ولكن إن ثبت ما ذكرنا من الخبر؛ فهو ذلك.
ويشبه أن يكون البشارة التي ذكر هاهنا؛ نحو قوله:
{ فَبَشِّرْ عِبَادِ * ٱلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقَوْلَ... } الآية [الزمر: 17-18]، وقوله: { وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ } [يونس: 2]، وقوله: { ذَلِكَ ٱلَّذِي يُبَشِّرُ ٱللَّهُ عِبَادَهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } [الشورى: 23]، وأمثال ذلك.
وقال بعض أهل التأويل: لهم البشرى في الحياة الدنيا تبشرهم الملائكة عند الموت وفي الآخرة الجنة. والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ ٱللَّهِ }: يحتمل لا تبديل لكلمات الله من وعده ووعيده، وذلك مما لا تبديل له ولا تحويل.
ويحتمل { لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ ٱللَّهِ } القرآن لا تبديل لما فيه من الوعد والوعيد وغيره.
ويحتمل لا تبديل لما مضى من سنته في الأولين والآخرين من الهلاك والاستئصال بتكذيبهم الرسل والآيات؛ كقوله:
{ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ ٱللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ ٱللَّهِ تَحْوِيلاً } [فاطر: 43] وقوله: { فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأَوَّلِينَ } [الأنفال: 38].
ويحتمل قوله: { لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ ٱللَّهِ } أي: لا تبديل للبشرى التي ذكر لهؤلاء الذين تقدم ذكرهم.
ويحتمل لا تبديل لحجج الله وبراهينه، أو لا تبديل لوعيد الله ووعده ونحوه، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { ذٰلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } أي: تلك البشرى هي الفوز العظيم، أو ذلك الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون هو الفوز العظيم؛ إذ لا خوف بعده.
وقال بعضهم من أهل التأويل: لا خوف عليهم من النار، ولا هم يحزنون أن يخرجوا من الجنة أبداً، والوجه فيه ما ذكرنا، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ } يحتمل قولهم: ما قالوا في الله بما لا يليق به من الولد والشريك؛ يقول: لا يحزنك ذلك { إِنَّ ٱلْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً }. ويحتمل قوله: { وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ } الذي قالوا في القرآن إنه سحر وإنه مفترى، أو قالوا في رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه ساحر وإنه يفتري على الله كذباً. ويشبه أن يكون قوله: { وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ } مكرهم الذي مكروا به، وكيدهم الذي كادوه، يؤيد ذلك قوله: { إِنَّ ٱلْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً } أي: إن العزة في المكر والكيد لله؛ وهو كقوله:
{ وَقَدْ مَكَرَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ ٱلْمَكْرُ جَمِيعاً } [الرعد: 42] أي: مكره ينقض مكرهم ويمنعه، وكيده يفسخ كيدهم؛ فعلى ذلك قوله: { إِنَّ ٱلْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً } أي: ينقض جميع ما يمكرون بك ويكيدونك،
و { ٱلْعِزَّةَ } القوة؛ يقول: إن القوة لله ينصرك على أعدائك ويدفع عنك كيدهم ومكرهم الذي هموا بك.
{ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ }: [لقولهم] الذي قالوه العليم بمصالحهم، أو السميع المجيب للدعاء العليم بما يكون منهم.