التفاسير

< >
عرض

فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هَـٰؤُلاۤءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُم مِّن قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ
١٠٩
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ ٱلْكِتَابَ فَٱخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ
١١٠
وَإِنَّ كُـلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
١١١
-هود

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هَـٰؤُلاۤءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُم مِّن قَبْلُ } تأويله - والله أعلم -: لا تكن يا محمد في شك بأن هؤلاء قد بلغوا في عبادتهم الأصنام والأوثان الحد الذي بلغ آباؤهم في عبادتهم الأصنام والأوثان فأهلكوا إذا بلغوا ذلك الحد، فهؤلاء - أيضاً - قد بلغوا ذلك المبلغ؛ أي: مبلغ الهلاك، لكن الله برحمته وفضله أخره عنهم إلى وقت.
أو يقال: إن هؤلاء قد بلغوا في العبادة لغير الله بعد نزول القرآن والحجة المبلغ الذي كان بلغ آباؤهم قبل نزول الحجة والبرهان في عبادتهم غير الله.
أو كان في قوم قد أظهروا الموافقة لهم، وكانوا يعبدون الأصنام في السر على ما كان يعبد آباؤهم، فقال: هؤلاء وإن أظهروا الموافقة لك فقد بلغوا بصنيعهم في السر مبلغ آبائهم، والله أعلم هذا يحتمل وجهين:
أحدهما: إخبار عن قوم خاص أنه لا يؤمن أحد منهم؛ ليجعل شغله بغيرهم.
والثاني: إخبار ألا يؤمن جميع قومك كما لم يؤمن قوم موسى بأجمعهم؛ بل قد آمن منهم فريق، ولم يؤمن فريق، فعلى ذلك يكون قومك.
وقوله - عز وجل -: { وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ } قال بعضهم: قوله: وإنا لموفوهم نصيبهم في الدنيا من الأرزاق، وما قدر لهم من النعم { غَيْرَ مَنقُوصٍ }، لا ينقص ما قدر لهم؛ أي: لا يهلكون حتى يوفى لهم الرزق.
وقال قائلون: (وإنا لموفوهم بأعمالهم غير منقوص) أي: لا ينقصون من أعمالهم شيئاً، ولا يزادون عليها، إن كان حسناً فحسن، وإن كان شرّاً فشر؛ فهو على الجزاء.
وقال بعضهم: [قوله]: { وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ } يقول: إنا نوفر لهم حظهم من العذاب في الآخرة، غير منقوص عنهم ذلك العذاب.
وقوله: { وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ } إن كان التأويل في قوله: { فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هَـٰؤُلاۤءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُم مِّن قَبْلُ } على الإياس من قوم علم الله منهم أنهم لا يؤمنون، فيكون تأويله ما ذكر في آية أخرى:
{ مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ... } الآية [هود: 15]، وإن كان الثاني فهو ما ذكر في آية أخرى قوله: { وَإِنَّ كُـلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ... } الآية [هود: 111].
وقوله - عز وجل -: { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ ٱلْكِتَابَ } أي: التوراة { فَٱخْتُلِفَ فِيهِ } أي: اختلف في الكتاب، والاختلاف فيه يحتمل وجوهاً ثلاثة:
أحدها: في الإيمان به والكفر منهم، من آمن به، ومنهم من كفر.
والثاني: اختلفوا فيه: في الزيادة والنقصان، والتبديل والتحويل والتحريف؛ كقوله:
{ وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِٱلْكِتَابِ... } الآية [آل عمران: 78]، وكقوله: { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ ٱلْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ... } الآية [البقرة: 79] وقوله: { يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ } [المائدة: 13] وأمثاله من الآيات.
والوجه الثالث: من الاختلاف: اختلفوا في تأويله وفي معناه بعد ما آمنوا به وقبلوه، فالاختلاف في التأويل مما احتمل كتابنا، وأمّا التبديل والتحويل والتحريف، والزيادة والنقصان فإنه لا يحتمل لما ضمن الله حفظ هذا الكتاب بقوله:
{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [الحجر: 9] وقال: { لاَّ يَأْتِيهِ ٱلْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ... } الآية [فصلت: 42]، وجعله ميسراً على ألسن الناس وقلوبهم، حتى من زاد، أو نقص، أو بدل، أو حرف شيئاً أو قدم، أو أخر عرف ذلك، فهو - والله أعلم - لما لا يحتمل إحكام هذا نسخها ولا شرائعه تبديلها، وأما الكتب السالفة فإنما جعل حفظها إليهم بقوله: { بِمَا ٱسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ ٱللَّهِ } [المائدة: 44] فهو - والله أعلم - لما احتمل شرائعها وأحكامها نسخها وتبديلها، لذلك كان الأمر ما ذكرناه.
وقوله: { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ ٱلْكِتَابَ فَٱخْتُلِفَ فِيهِ } ذكر هذا لرسول الله صلى الله عليه وسلم يصبره على ما اختلف فيه قومه في الكتاب الذي أنزل عليه؛ يقول: وقد اختلف فيما أنزل على من كان قبلك كما اختلف فيما أنزل عليك.
وقوله - عز وجل -: { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ } بالهلاك إهلاك استئصال واستيعاب.
وكلمته التي سبقت تحتمل ما كان من حكمه أن يختم الرسالة بمحمد وأن يجعله خاتم النبيين، وأمته آخر الأمم، بهم تقوم الساعة، يحتمل أن يكون كلمته التي ذكر هذا الذي ذكرناه.
وتحتمل وجهاً آخر: وهو أن كان من حكمه أنهم إذا اختلفوا في الكتاب والدين، وصاروا بحيث لا يهتدون إلى شيء، ولا يجدون سبيلا إلى الدين أن يبعث رسولا يبين لهم الدين، ويدعوهم إلى الهدى؛ لولا هذا الحكم الذي سبق وإلا لقضي بينهم بالهلاك.
والثالث: [لولا] ما سبق منه أن يؤخر العذاب عن هذه الأمة إلى وقت وإلا لقضي بينهم بالهلاك.
وقوله - عز وجل -: { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } يحتمل الكملة التي ذكر أنها سبقت في قوم موسى، وهو أنه لا يهلكهم بعد الغرق إهلاك استئصال، والتوراة إنما أنزلت من بعد، فقد آمن [من قومه قوم، وهو ما قال]:
{ وَمِن قَوْمِ مُوسَىٰ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِٱلْحَقِّ... } الآية [الأعراف: 159].
[وقوله - عز وجل -: { وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ } يحتمل قوله: { لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ } في الدين مريب].
وقال بعضهم: { لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ } يعني: من العذاب مريب وقد ذكرنا الفرق بين الشك والريب فيما تقدم.
وقوله - عز وجل -: { وَإِنَّ كُـلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ } قيل: { لَّمَّا } هاهنا صلة، يقول - والله أعلم -: وإن كلا ليفينهم ربك جزاء أعمالهم في الآخرة إن كان شرّاً فشرّ، وإن كان حسناً فحسن.
ومن قرأ { لَّمَّا } بالتشديد [فتأويله يحتمل] وجهين:
أحدهما: إلا.
والثاني: لما؛ أي: "لَمِمْمَا" اجتمع فيها ميمات طرحت الواحدة وأدغمت إحداهما في الأخرى.
وقوله - عز وجل -: { إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } وهو وعيد.