التفاسير

< >
عرض

وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ إِنِّيۤ أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ
٨٤
وَيٰقَوْمِ أَوْفُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ بِٱلْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي ٱلأَرْضِ مُفْسِدِينَ
٨٥
بَقِيَّتُ ٱللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ
٨٦
قَالُواْ يٰشُعَيْبُ أَصَلَٰوتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِيۤ أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنتَ ٱلْحَلِيمُ ٱلرَّشِيدُ
٨٧
قَالَ يٰقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ ٱلإِصْلاَحَ مَا ٱسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِيۤ إِلاَّ بِٱللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ
٨٨
وَيٰقَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِيۤ أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَآ أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ
٨٩
وَٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ
٩٠
قَالُواْ يٰشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَآ أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ
٩١
قَالَ يٰقَوْمِ أَرَهْطِيۤ أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ ٱللَّهِ وَٱتَّخَذْتُمُوهُ وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ
٩٢
وَيٰقَوْمِ ٱعْمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَٰمِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَٰذِبٌ وَٱرْتَقِبُوۤاْ إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ
٩٣
وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَأَخَذَتِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ
٩٤
كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ أَلاَ بُعْداً لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ
٩٥
-هود

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { وَإِلَىٰ مَدْيَنَ } [أي: إلى مدين أرسلنا] { أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ } هذا قد ذكرنا فيما تقدم: أن كل نبي أول ما دعا قومه إنما دعا إلى توحيد الله، وجعل العبادة له.
وفي قوله: { أَخَاهُمْ شُعَيْباً } وما ذكر في غيره من الأخوة دلالة على أن الرسل من قبل كانوا يبعثون من جنس قومهم لا من الملائكة حيث قال: { أَخَاهُمْ شُعَيْباً }، ومعلوم أنهم لم يكونوا إخوة لهم في الدين، وفيه أن المؤاخاة لا توجب فضيلة المؤاخى له؛ [لأنه ذكر أن الرسل] إخوة أولئك الأقوام، ومنهم كفرة، وذلك يرد قول الروافض في تفضيل عليّ على أبي بكر بالمؤاخاة التي كانت بين رسول الله وبين علي؛ والخلة توجب الفضيلة، وقد جاء عنه عليه السلام [أنه قال]:
"لو اتخذت سوى ربي خليلاً، لاتخذت أبا بكر خليلاً" .
وقوله - عز وجل -: { وَلاَ تَنقُصُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ }، ذكر أنهم [كانوا] ينقصون المكيال والميزان، ولا يوفون الناس حقوقهم، فنهاهم عن ذلك، فهو - والله أعلم - لوجهين:
أحدهما: أنهم إنما نهوا عن ذلك؛ لحق الربا؛ لأن النقصان إذا كان برضا من صاحبه يجوز؛ فدل أنه إنما نهاهم بحق الربا، وفيهما يجري الربا.
والثاني: فيه أن [هبة] المشتري للبائع، وتقلبه [فيه] قبل قبضه على قيام البيع فيما بينهما غير جائز؛ والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { إِنِّيۤ أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ } قيل: [في سعة] من المال.
وقيل: في رخص من السعر، وإنما يحمل المرء على النقصان والظلم على آخر - عز الشيء وضيق [الحال]، فكيف تنقصون أنتم في حال السعة ورخص السعر.
أو يقول: { إِنِّيۤ أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ } في غير هذا، فلا تظلموا الناس في هذا، و [لا] تمنعوا حقوقهم، { وَإِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ }، أي: يوم يحيط بهم العذاب إن كانت الإحاطة مضافة إلى اليوم فهو محيط بالكل، وإن كانت الإحاطة مضافة إلى العذاب، فهو محيط بالكفرة خاصة، وهو - والله أعلم - أنه ما من جارحة من ظاهرة وباطنة إلا وقد يصيبها العذاب، ويحيط بها، ليس كعذاب الدنيا يأخذ جزءاً دون جزء، بل يحيط به، والنهي بتخصيص نقصان الكيل والميزان لا يدل على أن لم يكن فيهم من المآثم والإجرام سوى ذلك، لكنه خص هذا؛ لما كان الظاهر فيهم نقصان الكيل والوزن، فذكر ذلك، وهو ما خص قوم لوط بقوله:
{ أَتَأْتُونَ ٱلذُّكْرَانَ مِنَ ٱلْعَالَمِينَ } [الشعراء: 165] و { إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ ٱلْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ... } الآية [العنكبوت: 28]، ذكر هذا وخصهم، ليس على أنهم لم يكونوا يأتون من الفواحش غيرها، لكن خص هذا؛ لأن الظاهر فيهم هذا؛ فعلى ذلك نقصان الكيل والميزان في قوم شعيب، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَيٰقَوْمِ أَوْفُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ بِٱلْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ } خص المكيال والميزان [والله أعلم] - لما كانوا يطففون المكيال وينقصون الميزان؛ رغبة فيهما، وفيهما يجري الربا، كما ذكرنا.
وقوله - عز وجل: { وَلاَ تَبْخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ }، فيه دلالة أن المشتري يملك المبيع قبل أن يقبضه؛ لأنه قال: { وَلاَ تَبْخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ } أضاف إلى الناس أشياءهم، فلو كان لا يملك، لم يكن أشياء الناس، إنما كان [أشياء البائع]، فإنما نقص ماله.
[وقوله]: { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي ٱلأَرْضِ مُفْسِدِينَ }، وهو ما ذكر في موضع آخر:
{ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا } [الأعراف: 85].
وقوله - عز وجل -: { بَقِيَّتُ ٱللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } قال بعضهم: ما أبقى الله لكم من ثوابه في الآخرة خير لكم إن آمنتم به، وأطعتموه مما تجمعون من الأموال.
[و] قال بعضهم: { بَقِيَّتُ ٱللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ } أي: ما جعل الله لكم مما يحل خير لكم مما يحرم عليكم من نقصان الكيل والوزن، { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } بالحلال أو بالآخرة.
وقال بعضهم: طاعة الله - وهو ما يأمركم به، ويدعوكم إليه - خير لكم مما تفعلون.
وقال الحسن: رزق الله خير لكم من بخسكم الناس حقوقهم، لكن هذا يرجع إلى ما ذكرنا، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } يحتمل: ما أنا عليكم بحفيظ، أي: لست أشهد بياعاتكم وأشريتكم حتى أعلم ببخسكم الناس المكيال والميزان، لكن إنما أعرف ذلك بالله، وفيه دلالة إثبات [رسالة محمد صلى الله عليه وسلم].
والثاني: { وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } أي: بمسلط عليكم، إنما أبلغ إليكم، كقوله:
{ مَّا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ } [المائدة: 99].
وقوله - عز وجل -: { قَالُواْ يٰشُعَيْبُ أَصَلَٰوتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِيۤ أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ } قال بعض أهل التأويل: صلاتك، [أي]: قراءتك تأمرك هذا.
وقال ابن عباس: قالوا ذلك له؛ لأن شعيباً كان يكثر الصلاة، كأنه [يخرج] على الإضمار يقولون: أصلواتك تأمرك بأن تأمرنا بترك عبادة ما عبد آباؤنا.
وقوله: و { أَصَلَٰوتُكَ } يحتمل [أنها كانت صلوات] معروفة يفعلها، فيقولون: أصلواتك التي تفعلها تأمرك أن نترك كذا، أم صلاة واحدة تكثرها، فقالوا: { أَصَلَٰوتُكَ }، وخصوا الصلاة من [بين] غيرها من الطاعات؛ لما لعلها كانت من أظهر طاعاته عندهم، فقالوا له هذا.
ثم يحتمل وجهين:
[أحدهما: كأنهم] قالوا: { أَصَلَٰوتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ أَوْ أَن نَّفْعَلَ... } كذا على التسفيه له [والتجهيل] كمن يوبخ آخر [ويسفهه]، [فيقول له]: أعلمك يأمرك [بذلك]، أو إيمانك يأمرك بهذا، كقوله:
{ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ } [البقرة: 93]، ونحوه من الكلام يخرج على [التسفيه له أو التجهيل].
والثاني: يقال ذلك على الإنكار، يقول الرجل لآخر: إيمانك يأمرك بذلك، أو علمك يأمرك بهذا، [أي: لا يأمرك بذلك]، فعلى ذلك يحتمل قول هؤلاء: { أَصَلَٰوتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِيۤ أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ } [أي: لا تأمرك بذلك] هذا إذا كانت الصلاة التي ذكروها مرضية عندهم، فإن لم تكن مرضية، فالتأويل هو الأول.
وقوله - عز وجل -: [{ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ }] الآية، حبب إليهم تقليد آبائهم في عبادة الأصنام واتباعهم إياهم والأموال التي كانت لهم، [فمنعهم هذا] عن النظر في الحجج والآيات؛ [لما] حبب إليهم ذلك، وهكذا جميع الكفرة إنما منعهم عن النظر في آيات الله و [التأمل في] حججه أحد هذه الوجوه التي ذكرنا: حب اللذات، ودوام الرياسات، والميل إلى الشهوات، ظنوا أنهم لو اتبعوا رسل الله وأجابوهم إلى ما دعوهم إليه - لذهب عنهم ذلك.
ثم قوله: { أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِيۤ أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ } يحتمل: قضاء جميع الشهوات.
ويحتمل: ما ذكر من نقصان المكيال والميزان، يقولون: أموالنا لنا ليس لأحد فيها حق، نفعل فيها ما نشاء.
وقال بعضهم: قوله: { أَوْ أَن نَّفْعَلَ }: الألف صلة "وأن نفعل في أموالنا ما نشاء".
وقوله - عز وجل -: { إِنَّكَ لأَنتَ ٱلْحَلِيمُ ٱلرَّشِيدُ } قال [بعضهم من] أهل التأويل: قالوا ذلك له؛ استهزاء به وسخرية، كنوا بالحليم عن السفيه، وبالرشيد [عن] الضال، أي: أنت السفيه [الضال]؛ حيث سفهت آباءنا في عبادتهم الأصنام، [الضال] حيث تركت ملتهم ومذهبهم.
وقال بعضهم: على النفي والإنكار، أي: ما أنت الحليم الرشيد.
ويشبه أن يكون على حقيقة الوصف له بالحلم والرشد؛ لأنهم لم يأخذوا عليه كذبا قط، ولا رأوه على خلاف و [لا على] سفاهة قط؛ فقالوا: { إِنَّكَ لأَنتَ ٱلْحَلِيمُ ٱلرَّشِيدُ }، أي: كنت هكذا؛ فكيف تركت ذلك، وهو ما قال قوم صالح لصالح حيث قالوا: { قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً }، وقوله - عز وجل -:{ قَالَ يٰقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي } أي: على [علم و] بيان وحجج وبرهان من ربي، على ما ذكرنا فيما تقدم، أي: تعلمون أني كنت على بيان من ربي وحجج، { وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً }: [يحتمل هذا منه مكان ما قال أولئك الأنبياء: { وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ } أي: قال شعيب: { وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً }] الدين والهدى، [و] النبوة على ما ذكر وأمكن أن يكون الرزق الحسن هو الأموال الحلال الطيبة التي لا تبعة عليه فيها فقال ذلك؛ وما رزق أولئك عليهم تبعة في ذلك؛ لأنهم اكتسبوها من وجه لا يحل.
وقوله - عز وجل -: { وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ } من الناس من يقول: قال لهم ذلك بإزاء ما قالوا فيما ذكر في الأعراف:
{ لَنُخْرِجَنَّكَ يٰشُعَيْبُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا } [الأعراف: 88] يقول: أأدعوكم إلى الإيمان بالله والتوحيد له، وأنهاكم عن الكفر به، ثم أرتكب ما أنهاكم عنه، وأترك ما أدعوكم إليه؟!
وقال قتادة: لم أكن لأنهاكم عن أمر [وأرتكبه]، وهو واحد { إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ ٱلإِصْلاَحَ مَا ٱسْتَطَعْتُ } [أي: ما أريد إلا الإصلاح لكم ما استطعت]، وفيه دلالة [على] أن الاستطاعة تكون مع الفعل [لا غير]، أما أن يكون أراد: استطاعة الإرادة أو استطاعة الفعل، فكيفما كان، فقد أخبر أنه يريد لهم من الصلاح ما استطاع، فيه ما ذكرنا، وهو ينقض على المعتزلة مذهبهم؛ لأنهم يقولون: الاستطاعة تتقدم [على] الفعل، وهي لا تبقى وقتين؛ فيصير على قولهم إرادة الصلاح لهم [في غير زمن] الاستطاعة.
وقوله - عز وجل -: { وَمَا تَوْفِيقِيۤ إِلاَّ بِٱللَّهِ }، قال بعضهم: التوفيق: هو صفة كل مطيع، والخذلان: هو صفة كل عاص.
وقال بعضهم: التوفيق: هو ما [يوفق بين فعله وقوله] في الطاعة، والخذلان ما يفرق بين قوله وفعله في المعصية.
وقال الحسين النجار: التوفيق: هو قدرة كل خير وطاعة، والخذلان: هو قدرة كل شر ومعصية.
وعندنا: التوفيق: هو أن يوفق بين عمل الخير والاستطاعة، والخذلان: هو أن يفرق بين عمل الخير والاستطاعة.
أو أن نقول: هو أن يوفق بين عمل الشر والاستطاعة، وهما واحد.
وقوله - عز وجل -: { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } أي: عليه اعتمدت في جميع أمري، وإليه توكلت، { وَإِلَيْهِ أُنِيبُ }، أي: أرجع.
أو يقول: إليه أقبل بالطاعة.
وقوله - عز وجل -: { وَيٰقَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِيۤ أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَآ أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ } [بالغرق] { أَوْ قَوْمَ هُودٍ } [بالريح الصرصر] { أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ } بالصيحة على ما ذكر.
قال بعضهم: { لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ } أي: لا يحملنكم { شِقَاقِيۤ } قيل: خلافي أن يصيبكم مثل ما أصاب أولئك.
وقال بعضهم قوله: [{ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ } أي: لا يؤثمنكم { شِقَاقِيۤ } أي: عداوتي أن يصيبكم مثل ما أصاب أولئك.
وقيل:] { لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ } [أي:] لا يكسبنكم عداوتي.
وقال الحسن: { شِقَاقِيۤ }: ضراري.
لكن كله يرجع إلى معنى واحد؛ لأنه إذا ثبت العداوة، ثبت المخالفة والبغض والضرر، فكل ما ذكروا فهو واحد.
واصل الجرم: الإثم والذنب.
ثم يخرج إنذاره إياهم بمن هلك من الأمم على وجهين:
أحدهما: أن قوم شعيب قوم لا يؤمنون بالبعث وبالقيامة، فأنذرهم بمن هلك من الأمم السالفة؛ لأنه لو كان ينذرهم بالبعث، لكان لا ينجح فيهم؛ لأنهم لا يؤمنون به.
والثاني: أنذرهم بأولئك؛ لأنهم كانوا يقلدون آباءهم في عبادة الأوثان، ويتبعونهم، فيقول: إنكم تقلدون آباءكم وتتبعونهم في عبادة الأوثان فاتبعوهم - أيضاً - فيما بلغوا إليكم من هلاك أولئك بعبادتهم الأوثان، وتكذيبهم الرسل، فإذا قلدتموهم في العبادة [فهلا] تقلدونهم وتتبعونهم فيما أصابهم بم أصابهم؟
أو يقول: [لهم]: إنكم تقلدون آباءكم الذين عبدوا الأوثان وقد هلكوا، فهلا تقلدون من لم يعبد منهم ونجا وقد [عرفتم أن] من هلك منهم [بم] هلك؟ ومن نجا منهم [بم] نجا، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ } أي: إن نسيتم من مضى منهم، فلا تنسوا ما نزل بقوم لوط، وليسوا هم ببعيد منكم.
وقوله - عز وجل -: { وَٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ } أي: اطلبوا من ربكم المغفرة؛ أي: اطلبوا السبب الذي يقع لكم المغفرة من ربكم، وهو التوحيد { ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ } أي: ارجعوا إليه، ولا تعودوا إلى ما كنتم [من] قبل.
وقوله - عز وجل -: { ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ } أي: ارجعوا إليه رجوعاً حتى لا تعودوا إلى مثل صنيكعم أبداً { إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ } يرحم من تاب إليه، والله يرحمه { وَدُودٌ } يحتمل وجهين:
أحدهما: ودود: أي: حق أن يؤدّ؛ إذ منه كل شيء وكل إحسان، والناس جبلوا على حب من أحسن إليهم.
والثاني: ودود لمن توسل إليه وتقرب.
وقوله - عز وجل -: { يٰشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ } قوله: { مَا نَفْقَهُ } يحتمل: ما نفهم وما نعقل كثيراً مما تقول؛ كأنهم يقولون ذلك على الاستهزاء والهزء به؛ كأنهم نسبوه إلى الجنون؛ يقولون: لا نفهم ما تقول؛ لأن كلامك كلام مجانين. وهذه هي عادة القوم؛ كانوا ينسبون الرسل إلى الجنون.
ويحتمل: ما نفقه: ما نقبل كثيراً مما تقول، فإن كان على الفهم فهو كقوله:
{ وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِيۤ أَصْحَابِ ٱلسَّعِيرِ } [الملك: 10] وهم كانوا فريقين: فريق كانوا يقولون: قلوبنا أوعية للعلم؛ كقولهم: { قُلُوبُنَا غُلْفٌ } [البقرة: 88] فإن كان ما تقول حقّاً نفهم ونعقل كما نعقل غيره، وفريق قالوا: { قُلُوبُنَا فِيۤ أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ } [فصلت: 5] كانوا يعقلون أنهم لا يفهمون ولا يفقهون؛ لأن قلوبهم في أكنة وفي آذانهم وقر، والفريق الأول يقولون: إن قلوبنا أوعية للعلم، فلو كان حقّاً لعقلناه كما عقلنا غيره، فهؤلاء كانوا يصرفون العيب إلى الرسول، وأولئك إلى أنفسهم، فعلى ذلك قوم شعيب يحتمل أن يكون قولهم كذلك، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً } يحتمل هذا وجهين:
أحدهما: أي: إنك لست من كبرائنا وأجلتنا، إنما أنت من أوساطنا، وعلى ذلك الأنبياء إنما بعثوا من أوساط الناس، لا من كبرائهم في أمر الدنيا، فالقوي والعزيز عند أولئك القوم من عنده الدنيا والمال، وأما من لم يكن عنده المال فهو عندهم ضعيف ذليل؛ لأنهم لا يعرفون الدين، ولا يؤمنون بالآخرة، لذلك قالوا ما قالوا.
والثاني: لست أنت بذي قوة وبطش في نفسك، وقد ذكر أنه كان ضعيفاً في بصره ونفسه.
ويحتمل وصفهم بالضعف لهذين الوجهين، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَلَوْلاَ رَهْطُكَ } أي: قبيلتك.
وقيل: عشيرتك { لَرَجَمْنَاكَ } الرجم: يحتمل: القتل، ويحتمل: اللعن والشتم.
ثم يحتمل قوله: { وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ } وجهين:
أحدهما: { وَلَوْلاَ رَهْطُكَ } أي: لولا حرمة رهطك وإلا لرجمناك؛ كأنهم كانوا يحترمونه لموافقة رهطه إياهم في العبادة أعني عبادة الأوثان، وعلى ما هم عليه.
والثاني: لولا رهطك لرجمناك خوفاً منهم لما ذكر أنه كان كثير العشيرة، والقبيلة؛ كانوا يخافون عشيرته فلم يؤذوه، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَمَآ أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ } أي: ما أنت من أجلتنا وكبرائنا، إنما أنت من أوساطنا أو { وَمَآ أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ } أي: ما أنت من أجلتنا؛ لأن العزيز عندهم من كان عنده المال والدنيا، لا يعرفون [العز في غير] ذلك، ولم يكن عند شعيب الدنيا لذلك نسبوه إلى ما ذكر:
أو أنت ذليل عندنا، لست بعزيز، فيكون صلة قوله: { وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً } والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { قَالَ يٰقَوْمِ أَرَهْطِيۤ أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ ٱللَّهِ } هذا يخرج على وجهين: يحتمل يا قوم، أرهطي أعظم حقّاً عليكم من الله وأكثر حرمة حتى تركتم ما أوعدتموني من النقمة لحقهم وحرمتهم؟!
والثاني: قوله: { يٰقَوْمِ أَرَهْطِيۤ أَعَزُّ عَلَيْكُم } أي: رهطي أشد خوفاً عليكم وأكثر نكاية من الله؛ لأنا قلنا في قوله: { وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ } أنه يخرج على وجهين:
أحدهما: الاحترام لرهطه لموافقتهم إياهم في جميع ما هم عليه، والمساعدة لهم.
والثاني: على الخوف والنكاية لقوتهم، وكثرتهم، وفضل بطشهم تركوا ما وعدوا له خوفاً من رهطه، فقال: خوفكم من رهطي أشد وأكثر عليكم من الخوف من الله، وقد بلغكم من نكاية الله ونقمته فيما حل بالأمم الماضية.
أو حرمة رهطي عندكم وحقهم أعظم من حق الله وحرمته، وقد تعلمون إحسانه إليكم وإنعامه عليكم.
وقوله - عز وجل -: { وَٱتَّخَذْتُمُوهُ وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً } قال بعضهم: [قوله]: { وَٱتَّخَذْتُمُوهُ وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً } أي: حملتموه على ظهركم وحملهم إياه على ظهرهم إسخاطهم إياه، قال: تقول: العرب: فلان حمل الناس على ظهره: أي: أسخطهم على نفسه. ولكن لا ندري أيقال هذا أم لا.
فإن قيل هذا فهو يحتمل ما قال، وهو قول أبي بكر الأصم.
وقال غيره من أهل التأويل: قوله: { وَٱتَّخَذْتُمُوهُ وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً } أي: نبذتم الله وراء ظهركم، أي: نبذتم حق الله وأمره وكتابه الذي أنزله إليكم وراء ظهركم، لا تعملون به، ولا تكترثون إليه، هو كالمنبوذ وراء ظهركم؛ هذا على التمثيل أي: جعلوا أمر الله ودينه الذي دعوا إليه كالمنبوذ وراء ظهرهم، لا يعملون به ولا ينظرون إليه، ولا يكترثون وهو ما ذكر في قوله:
{ نَكَصَ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ } [الأنفال: 48] وقوله: { ٱنْقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ } [آل عمران: 144] على التمثيل، أي: الذي أنتم عليه في القبح كالانقلاب على الأعقاب { إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } هذا يخرج على وجهين - أيضاً -:
أي: إن ربي بما تعملون من الأعمال الخبيثة محيط فيجزيكم بها، أو يقول: إن ربي بما تعملون من الكيد برسول الله والمكر به محيط فينصره عليكم.
وقوله - عز وجل -: { وَيٰقَوْمِ ٱعْمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَٰمِلٌ } هذا يخرج على وجهين:
أحدهما: أن كونوا على دينكم الذي أنتم عليه، وأنا أكون على ديني؛ كقوله:
{ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } [الكافرون: 6] لأن قوم شعيب قالوا لشعيب: { لَنُخْرِجَنَّكَ يٰشُعَيْبُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا } [الأعراف: 88] فقال لهم [هذا] عند ذلك، وهذا إنما يقال عند الإياس عن إيمانهم، كقوله: { لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ } [الشورى: 15] وأمثاله.
والثاني: قوله: { ٱعْمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَٰمِلٌ } أي اعملوا في كيدي، والمكر في هلاكي، إني عامل ذلك بكم، وهو كما قال غيره من الرسل:
{ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ } [هود: 55] وقوله: { فَٱنْتَظِرُوۤاْ إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ ٱلْمُنْتَظِرِينَ } [الأعراف: 71] ونحوه.
وقوله - عز وجل -: { سَوْفَ تَعْلَمُونَ } في العاقبة وعيد من يأتيه عذاب يخزيه، أو سوف تعلمون في العاقبة من يأتيه منا عذاب يخزيه نحن أو أنتم ومن هو كاذب، وتعلمون - [أيضاً - في العاقبة] من الكاذب منا نحن أو أنتم؛ لأن كل واحد من الفريقين يدعي على الفريق الآخر الكذب والافتراء على الله، فيقول: سوف تعلمون في العاقبة [من] الكاذب منَّا والمفتري على الله، والصادق عليه { وَٱرْتَقِبُوۤاْ إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ } أي: ارتقبوا هلاكي، وأنا أرتقب هلاككم، أو ارتقبوا لمن العاقبة منا لنا أو لكم إني معكم رقيب، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا } هذا قد ذكرناه فيما تقدم.
وقوله - عز وجل -: { وَأَخَذَتِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ } قيل: الصيحة صيحة جبريل؛ أي: هلكوا بصيحته.
وقال بعضهم: الصيحة: اسم كل عذاب، وكذلك الرجفة؛ سمي العذاب بأسماء مختلفة: مرة صاعقة ، ومرة صيحة، ومرة رجفة.
وقوله - عز وجل -: { فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ أَلاَ بُعْداً لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ } هذا - أيضاً - قد ذكرناه فيما تقدم.
قال بعض أهل التأويل: قوله: { أَلاَ بُعْداً لِّمَدْيَنَ } في الهلاك { كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ }: كما أهلكت ثمود؛ لأن كل واحد منهما هلك بالصيحة فمن ثم اختص ذكر ثمود من بين الأمم.
وعن ابن عباس - رضي الله عنه -: لم يعذب بعذاب واحد إلا قوم شعيب وصالح؛ فأمّا قوم صالح فأخذتهم الصيحة من تحتهم، وقوم شعيب من فوقهم.
قال: فنشأت لهم سحابة فيها عذابهم، فلم يعلموا كهيئة الظلة فيها ريح، فلما رأوها أتوها يستظلون تحتها من حر الشمس، فسال عليهم العذاب من فوقهم، فذلك قوله:
{ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ ٱلظُّلَّةِ } [الشعراء: 189].
وقوله: { أَلاَ بُعْداً لِّمَدْيَنَ } من رحمة الله { كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ } من رحمته.
ويحتمل الهلاك الذي ذكرناه، والله أعلم.