التفاسير

< >
عرض

فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يٰأَيُّهَا ٱلْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا ٱلضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا ٱلْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ ٱللَّهَ يَجْزِي ٱلْمُتَصَدِّقِينَ
٨٨
قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ
٨٩
قَالُوۤاْ أَءِنَّكَ لأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَـٰذَا أَخِي قَدْ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْنَآ إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ
٩٠
قَالُواْ تَٱللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ ٱللَّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ
٩١
قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ ٱلْيَوْمَ يَغْفِرُ ٱللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ ٱلرَّاحِمِينَ
٩٢
ٱذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَـٰذَا فَأَلْقُوهُ عَلَىٰ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ
٩٣
-يوسف

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ } أي على يوسف { قَالُواْ يٰأَيُّهَا ٱلْعَزِيزُ } سموه عزيزاً، لما لعلهم يسمّون كل ملك عزيزاً، أو سمعوه عزيزاً؛ لما كان عند ذلك عزيزاً؛ بقوله: { أَكْرِمِي مَثْوَاهُ } [يوسف: 21] أو لما كان بالناس إليه حاجة بالطعام الذي في يده؛ وهو كان غنيّاً عما في أيديهم والله أعلم.
قولهم: { مَسَّنَا وَأَهْلَنَا ٱلضُّرُّ }.
قال أهل التأويل: أصابنا الشدة والبلاء من الجوع.
{ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ }.
قيل: دراهم نُفَاية مبهرجة لا تنفق في الطعام؛ كاسدة؛ لأنه كان في عزّة؛ وتُنفَق في غيره.
وقال أبو عوسجة: { وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ } أي قليلة. وكذلك قال القتبي: أي قليلة. وقال ابن عباس: هي الورق الرّديئة التي لا تنفق حتى يوضع منها.
وقال أبو عبيد: الإزجاء في كلام العرب: الدفع والسَّوق؛ وهو كقوله:
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً } [النور: 43] أي يسوق ويدفع. وقال بعضهم: ناقصة. وقال بعضهم: جاءوا بسمن وصوف. وقيل: جاءوا بصنوبر وحبة الخضراء، وأمثال هذا.
قالوا: ويشبه أن يكون { مُّزْجَاةٍ } من التزجية: كما يقال: نزجي يوماً بيوم.
وقوله - عز وجل -: { فَأَوْفِ لَنَا ٱلْكَيْلَ }.
قال بعضهم: أوف لنا الكيل بسعر الجياد؛ وتأخذ النُّفَاية وتكيل لنا الطعام بسعر الجياد.
لكن قوله: { فَأَوْفِ لَنَا ٱلْكَيْلَ } أي سلم لنا الكيل تامّاً؛ لأن الإيفاء هو التسليم على الوفاء؛ كقوله:
{ وَأَوْفُواْ ٱلْكَيْلَ وَٱلْمِيزَانَ } [الأنعام: 152]، وتصدق علينا بفضل ما بين الثمنين في الوزن. وقيل: ما بين الكيلين.
وقال بعضهم: وتصدق علينا: أي زد لنا شيئاً يكون ذلك صدقة لنا منك.
لكن يشبه على ما قالوا: وطلبوا منه الصدقة؛ حط الثمن؛ لأن الصدقة لا تحل للأنبياء، ويجوز الحط لهم، ويجوز حطّ من لا يجوز صدقته؛ نحو العبد المأذون له في التجارة؛ يجوز حطه ولا يجوز صدقته، وكذلك نبي الله كان يجوز [له الشراء] بدون ثمنه؛ ولا تحل له الصدقة.
ويحتمل أن يكون قوله: { مَسَّنَا وَأَهْلَنَا ٱلضُّرُّ } بذهاب بصر أبيهم؛ مسهم بذلك وأهلهم الضر.
وقوله - عز وجل -: { وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ }.
أي رُدَّ علينا بنيامين؛ لعل الله يرد بصره عليه.
{ إِنَّ ٱللَّهَ يَجْزِي ٱلْمُتَصَدِّقِينَ }.
قال أهل التأويل: إن الله يجزي المتصدقين إن كانوا على دين الإسلام؛ كأنهم ظنوا أنه ليس على دين الإسلام؛ ولو أنهم ظنوا أنه مسلم؛ لقالوا: إن الله يجزيك بالصدقة.
وقوله - عز وجل -: { قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ }.
هو ظاهر لا يحتاج إلى ذكره وأما ما فعلوه بأخيه: قال أهل التأويل: هو ما قالوا إنه سرق؛ لكنهم لم يقولوا إلا قدر ما ظهر عندهم؛ فلم يلحقهم بذلك القول فضل تعيير؛ لكن يشبه أن يكونوا آذوه بأنواع الأذى، ولا شك أنهم كانوا يبغضون يوسف وأخاه؛ حيث قالوا:
{ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىٰ أَبِينَا مِنَّا } [يوسف: 8].
وقوله: { هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ }.
قد كانوا علموا هم ما فعلوا بيوسف لكنه [كأنه] قال: هل تذكرون ما فعلتم بيوسف؛ أو أنتم جاهلون ذلك؛ ناسون؟ يقول لهم: اذكروا ما فعلتم بيوسف، وتوبوا إلى الله عن ذلك، ولا تكونوا جاهلين عن ذلك. أو يقول لهم: هل رجعتم وتبتم عن ذلك؟، أو أنتم بعد فيه؟.
وقوله - عز وجل -: { إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ }.
قال بعض أهل التأويل: { إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ } أي: مذنبون؛ ولكن إذ أنتم جاهلون قدر يوسف ومنزلته، لأنهم لو علموا ما قدر يوسف عند الله؛ وما منزلته ما قالوا:
{ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىٰ أَبِينَا مِنَّا } [يوسف: 8] وما خطئوا أباهم في حبّه إياه حيث قالوا: { إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [يوسف: 8]، وما فعلوا به ما فعلوا. والله أعلم.
{ قَالُوۤاْ أَءِنَّكَ لأَنتَ يُوسُفُ }.
كأنهم عرفوا أنه يوسف؛ بقول يوسف لهم: { هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ } [أو عرفوا بقول أبيهم؛ حيث قال: { يٰبَنِيَّ ٱذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ }] لما ذكر أخاه ورأوه معه عرفوا أنه يوسف؛ لذلك قالوا. والله أعلم.
{ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَـٰذَا أَخِي قَدْ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْنَآ إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَِصْبِرْ }.
يحتمل: من يتّق معاصيه، ويصبر على بلاياه. أو اتقى مناهيه؛ وصبر على أداء ما أمر به. أو من اتقى وصبر؛ فقد أحسن. أو يقول: إنه من يتق الجَفاء؛ ويصبر على البلاء؛ فقد أحسن.
{ فَإِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ }.
ويشبه أن يكون قوله: { وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ }.
أي رُدَّ أخانا علينا، وهو ما ذكرنا. والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { قَالُواْ تَٱللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ ٱللَّهُ عَلَيْنَا }.
{ تَٱللَّهِ } قسم قد اعتادوه في فحوى كلامهم؛ على غير إرادة يمين بذلك؛ هكذا عادة العرب؛ وإلا كان يعلم يوسف أن الله قد آثره عليهم.
ويشبه أن يكون يخرج القسم هاهنا على تأكيد معرفتهم فضله ومنزلته؛ أي: لم تزل كنت مُؤْثَراً مفضّلا علينا.
{ وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ }.
أي: وقد كنا خاطئين؛ فيما كان منا إليك من الصنيع.
أو أن يكون قوله: { لَقَدْ آثَرَكَ ٱللَّهُ عَلَيْنَا }؛ فيما قالوا:
{ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىٰ أَبِينَا مِنَّا } [يوسف: 8] أي لما كان يؤثرهما عليهم؛ فقالوا: كنت مؤثَراً على ما كان أبونا يؤثرك علينا وقد كنا { لَخَاطِئِينَ }؛ فقال يوسف.
{ قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ ٱلْيَوْمَ }.
قال القتبي: قوله: { لاَ تَثْرِيبَ }: أي لا تعيير عليكم بعد هذا اليوم؛ بما صنعتم.
وقال بعضهم: { لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ } أي: لا تنغيث عليكم. وقيل: أصل التثريب: الإفساد؛ يقال: ثرب علينا الأمر: أي أفسده.
وقال أبو عوسجة: التثريب: الملامة؛ يقول: لا لوم عليكم في صنيعكم.
وقال ابن عباس - رضي لله عنه -: لا تثريب عليكم: أي لا أعيّركم بعد هذا اليوم أبداً؛ ولا أعيره عليكم.
وهو يحتمل هذين الوجهين:
أحدهما: لا تعيير عليكم ولا ملامة؛ أي ليس عليكم في العقل تعيير ولا ملامة؛ إذا تبتم وأقررتم بالخطأ، وهكذا كل من أذنب ذنباً أو ارتكب كبيرة؛ ثم انتزع عنها وتاب منها؛ لا يعيَّر - هو - عليه ولا يلام. وكذلك قيل في قوله:
{ وَلاَ تَنَابَزُواْ بِٱلأَلْقَابِ } [الحجرات: 11] ذكر أنهم كانوا يعيَّرون أهل الكفر في كفرهم؛ وينابزونهم؛ ثم أسلموا؛ فنهوا أن ينابزوهم؛ ويصنعوا بهم مثل صنيعهم بهم في حال كفرهم، ولو وجب التعيير والملامة بعد الانتزع عنه والتوبة؛ أو يجوز ذلك لكان أصحاب رسول الله معيَّرين ملامين؛ لأنهم كانوا أهل الكفر في الابتداء، فهذا مما لا يحل في العقل.
والثاني: قوله: { لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ }: لا أعيَّركم؛ على ما قال ابن عباس - رضي الله عنه - أي: لا أذكر ما كان منكم إلينا؛ أمنهم عن أن يذكر شيئاً مما كان منهم إليه؛ ولذلك قال:
{ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ ٱلشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِيۤ } [يوسف: 100].
ذكر أن الشيطان هو الذي فعل ما كان بينه وبين إخوته؛ وكذلك فعل؛ حيث قال:
{ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ ٱلشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِيۤ } [يوسف: 100] أضاف ذلك إلى الشيطان، ولم يضف إلى إخوته.
وقوله - عز جل -: { يَغْفِرُ ٱللَّهُ لَكُمْ }.
قطع فيه القول بالمغفرة لهم؛ حين أقروا بالخطايا وتابوا عما فعلوا، وهكذا كل من تاب عن ذنب ارتكبه ونزع عنه؛ أن يقطع القول فيه بالمغفرة والرحمة.
وقوله: { يَغْفِرُ ٱللَّهُ لَكُمْ } يخرج على الدعاء لهم بالمغفرة، أو على الإخبار بالوحي أنه يغفر لهم، أو قد غفر لهم، أو يقول: استغفروا الله؛ الذي كان بين الله وبينكم يغفر لكم.
{ وَهُوَ أَرْحَمُ ٱلرَّاحِمِينَ } لأن كل من يرحم من الخلائق؛ إنما يرحم برحمة منه إليه؛ فهو أرحم الراحمين؛ بما قلنا؛ على ما قلنا في قوله:
{ خَيْرُ ٱلْحَاكِمِينَ } [يوسف: 80] و { أَحْكَمُ ٱلْحَاكِمِينَ } [هود: 45] لأن من يحكم من الخلائق بحكم يجوز إنما يحكم بحكم ناله منه.
وقوله - عز وجل -: { ٱذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَـٰذَا فَأَلْقُوهُ عَلَىٰ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً }.
دل هذا من يوسف؛ حيث قطع القول فيه أنه يصير بصيراً؛ إنه عن وحي قال هذا لا عن رأي منه واجتهاد؛ إذ قطع القول فيه أنه إذا ألقى على وجهه يصير بصيراً.
وقوله: { يَأْتِ بَصِيراً } هذا يخرج على وجهين:
أحدهما: يصير بصيراً على ما ذكرنا.
والثاني: يأتيني بصيراً.
وقوله - عز وجل -: { وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ }.
أراد - والله أعلم - حيث أمرهم أن يأتوا بأهلهم أجمع - أن يبرّهم ويكرمهم؛ حين تابوا عما فعلوا به؛ وأقروا له بالخطأ في أمره.