التفاسير

< >
عرض

ٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ وَمَا تَغِيضُ ٱلأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ
٨
عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ ٱلْكَبِيرُ ٱلْمُتَعَالِ
٩
سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ ٱلْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِٱلَّيلِ وَسَارِبٌ بِٱلنَّهَارِ
١٠
لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ ٱللَّهُ بِقَوْمٍ سُوۤءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ
١١
-الرعد

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { ٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ }.
قيل: يعلم أنها حملت ذكراً أو أنثى مستوياً أو غير مستوٍ مؤفّاً؛ يخبر - عز وجل - عن علمه وقدرته أنه لا يخفى عليه شيء ولا يعجزه شيء، فإن قيل: هذا دعوى: ما الذي يعلمنا أنه يعلم ذلك؟ قيل: اتساق تدبيره ولطفه يدل على علم ذلك فيه؛ حيث رباه فيه وأنشأه مستوياً غير مؤفٍّ سليماً عن الآفات، ونماء الجوارح كلها على الاستواء؛ لا يكون بعضها [أكبر وأعظم وبعضها] أنقص وبعضها أتم؛ نحو العينين؛ تراهما مستويتين؛ لا زيادة في إحداهما دون الأخرى؛ بل تنموان على الاستواء، وكذلك اليدان والرجلان والأذنان؛ وأمثاله؛ فدلّ ذلك على العلم له به والتدبير.
وقوله - عز وجل -: { وَمَا تَغِيضُ ٱلأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ }.
أي: يعلم ما تغيض الأرحام وما تزداد.
قال عامة أهل التأويل: { وَمَا تَغِيضُ ٱلأَرْحَامُ }: ما تنقص عن التسعة الأشهر، { وَمَا تَزْدَادُ }: على التسعة الأشهر، فكان الحسن يقول: غيضوضة الرحم: أن تضع لستة أشهر أو لسبعة أشهر أو ثمانية، وأما الزيادة: فما زاد على تسعة أشهر.
وفي حرف أُبي: (اللهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَضَعُ) ولكن يحتمل قوله: { وَمَا تَغِيضُ ٱلأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ } وجهين:
أحدهما: { وَمَا تَغِيضُ ٱلأَرْحَامُ } أي: ما لا تحمل شيئاً؛ وهي التي تكون عقيماً لا تلد، والغيضوضة تكون ذهاب الشيء، قال الله - تعالى -:
{ وَغِيضَ ٱلْمَآءُ } [هود: 44] أي: ذهب.
{ وَمَا تَزْدَادُ } أي: ما تحمل وما تغيض الأرحام، فتلد بدون الوقت الذي تلد النساء، وما تزداد على الوقت الذي تلد النساء.
أو { وَمَا تَغِيضُ ٱلأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ } في زيادة عدد الأولاد ونقصانهم؛ ما تحمل واحداً أو أكثر من واحد، أو يكون في زيادة قدر نفس الولد ونقصانه؛ لأن من الولد ما يصيبه في البطن آفة؛ فلا يزال يزداد له نقصان في البطن، ومنه ما ينمو ويزداد؛ وأمثاله. والله أعلم.
{ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ } مقدّر بالتقدير؛ ليس على الجزاف؛ على ما يكون عند الخلق، ولكنه بتقدير وتدبير.
{ عَالِمُ ٱلْغَيْبِ } قال بعضهم: لا يغيب عنه شيء، ولكن هو عالم بالذي يغيب عن الخلق ويشهده الخلق؛ أي: ما يغيب عنهم وما يشهدونه عنده بمحل واحد في العلم به.
وقال بعضهم: { عَالِمُ ٱلْغَيْبِ }: ما غاب بنفسه، وما شهد بنفسه؛ فالغائب بنفسه: هو ما لم يوجد بعد؛ ولم يكن، والشهادة: ما قد وجد وكان، يعلم ما لم يوجد بعد أنه يوجد أو لا يوجد، وإذا وجد، كيف يوجد؛ ومتى يوجد؛ وفي أي: وقت يوجد؛ وما جد وشهد؛ يعلمه شاهداً موجوداً.
على هذين الوجهين يجوز أن تخرج الآية؛ والله أعلم؛ ويعلم ما غاب عنهم مما شهدوا من نحو قوة الطعام في الطعام، والقوة التي في الماء، وماهية البصر والسمع، والعقل والروح، وكيفيتها، وهذا كله مما غاب عن الخلق.
وقوله - عز وجل -: { ٱلْكَبِيرُ ٱلْمُتَعَالِ }.
[المتعال] عن جميع ما يحتمله الخلق؛ يقال: هذا عظيم القوم؛ وكبيرهم، وهذا واحد زمانه؛ لا يعنون عظيم النفس وكبيره أو توحده من حيث العدد؛ ولكن من حيث نفاذ الأمر له والمشيئة فيهم؛ والعزة والسلطان، وذلة الخلق له والخضوع؛ فعلى ذلك لا [يفهم مما] وصف هو به؛ ما يفهم من الخلق من عظم الجسم وكبر النفس، وعلى ذلك ما وصف هو بأسماء - لا يحتمل ذلك في الخلق، يقال: أوّل وآخر، وظاهر وباطن، وعظيم ولطيف؛ ليعلم أنه ليس يفهم مما أضيف إليه؛ ووصف هو به؛ ما يفهم مما يضاف إلى الخلق؛ إذ من قيل في الشاهد: إنه عظيم - لم يقل إنه لطيف، ومن قيل: إنه أوّل - لم يقل له: آخر، وكذلك الظاهر والباطن؛ إذا وصف بأحدهما انتفى عنه الآخر، وذلك مما وصف به الغائب وأضيف إليه، ليعلم أنه لا يفهم بما يوصف هو به؛ ويضاف إليه ما يفهم؛ مما وصف به الخلق وأضيف إليهم. والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ ٱلْقَوْلَ } في نفسه في حال انفراده { وَمَنْ جَهَرَ بِهِ } لغيره { وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِٱلَّيلِ } في ظلمة الليل { وَسَارِبٌ بِٱلنَّهَارِ }.
قيل: ظاهر بالنهار، وقال بعضهم: { وَسَارِبٌ بِٱلنَّهَارِ }: من يكون في السرب وهو الغار بالنهار، وقال بعضهم: من هو مستخف بالليل: أي: ساكن بالليل في مقره، وسارب بالنهار: أي: متصرف متقلب بالنهار في حوائجه.
ذكر هذا صلة ما تقدم؛ وهو قوله: { يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ وَمَا تَغِيضُ ٱلأَرْحَامُ } ويعلم - أيضاً - ما تزداد، وما ذكر أن عالم الغيب والشهادة، يقول - أيضاً -: يعلم من أسرّ القول، ومن جهر به، ومن كان مستخفياً بالليل أو سارباً بالنهار، أي: يعلم كل شيء؛ لا يخفى عليه شيء: من عمل سرّاً؛ من الخلق؛ أو عمل بظاهر منهم.
يذكر هذا - والله أعلم - ليكونوا على حذر من المعاصي؛ لأن من علم أن عليه رقيباً حفيظاً يكون أحذر وأخوف؛ ممن يعلم أن ليس عليه ذلك.
وقال مقاتل: سواء منكم؛ عند الله؛ من أسر القول ومن جهر به، وسواء منكم من هو مستخف بالليل وسارب بالنهار؛ أي: من هو مستخف بالمعصية في ظلمة الليل، أو هو منتشر بتلك المعصية بالنهار؛ معلن بها؛ فعلم ذلك كله عند الله؛ سواء.
في ذلك تذكير أمرين:
أحدهما: يذكرهم نعمه التي أنعمها عليهم؛ من أول حالهم إلى آخر ما ينتهون إليه يستأدي بذلك شكره؛ ليستديموا بذلك تلك النعم أبداً ما كانوا.
والثاني: يذكرهم علمه بجميع أحوالهم وأفعالهم؛ ليكونوا أبداً على حذر من معاصيه، والخلاف له.
أما علمه هو ما ذكر الله: { يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ... } إلى قوله: { سَوَآءٌ مِّنْكُمْ... } الآية.
وأما نعمه [فهو] ما ذكر.
{ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ }.
وقوله: { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ } قال بعضهم: هم الأمراء، والشرط الذي يحفظونه في ظواهر من أمره؛ يخبر أنه محفوظ عليه الخفيات من أمره؛ حيث قال: { سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ ٱلْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ... } الآية: حيث أخبر أنه يعلم ذلك ومحفوظ عليه الظواهر من أمره.
وقال بعضهم: { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ }: الملائكة الذين يحفظونه، وعلى ذلك روي في الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"يجتمعون فيكم عند صلاة العصر وصلاة الصبح يحفظونه من بين يديه ومن خلفه" ، مثل قوله: { عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ قَعِيدٌ } [ق: 17] قال: الحسنات من بين يديه والسيئات من خلفه؛ الذي عن يمينه.
وقوله - عز وجل -: { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ } يحتمل قوله: { لَهُ }، أي: لله معقبات يحفظونه، ويحتمل: { لَهُ } من كل ذكر وأنثى؛ يكون مثله قوله: { يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ }.
وقوله: { يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ } يحتمل قوله: { يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ }، أي: يحفظون نفسه من البلايا والنكبات التي تنزل على بني آدم؛ فإن كان في حفظ نفسه فقوله من أمر الله؛ أي: من عذاب الله وبلاياه؛ كقوله:
{ حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا } [هود: 40]، وهو عذابنا.
ويحتمل قوله: يحفظون أعماله؛ بأمر الله، ثم يحتمل قوله: { مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ } [وجوهاً: يحتمل: من بين يديه: الخيرات التي يعملها، ومن خلفه]: الشرور والسيئات، ويحتمل قوله: { مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ }: ما قدّم من الأعمال، { وَمِنْ خَلْفِهِ }: ما بقي وأخّر؛ كقوله:
{ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ } [الانفطار: 5] ويحتمل { مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ }: ما مضى من الوقت، { وَمِنْ خَلْفِهِ }: ما بقي. والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ }.
يشبه أن يكون هذه النعمة؛ نعمة الدين من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو القرآن، أو ما كان في أمر الدين؛ لا يغير ذلك عليهم إلا بتغيير يكون منهم؛ كقوله:
{ ثُمَّ ٱنصَرَفُواْ صَرَفَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُم } [التوبة: 127]؛ وكقوله: { فَلَمَّا زَاغُوۤاْ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ } [الصف: 5].
ويحتمل أن يكون ذلك في النعمة الدنياوية؛ من الصحة والسلامة والمال، لا يغير ذلك عليهم إلا بتغيير ذلك من أنفسهم.
فإن قيل: إن الأنبياء قد كانوا بلوا بشدائد وبلايا؛ ولا يحتمل أن يكون ذلك منهم البداية في التغيير.
قيل: أبدلت لهم مكان تلك النعمة خيراً منها فليس ذلك بتغيير؛ ولكن لما ذكرنا أنه أبدلت لهم مكان النعمة نعمة هي خير منها.
ثم ما كان من النعم؛ والأفضال من الطاعات لها حق التجدد والحدوث؛ يكون التغيير عليهم حالة اختيارهم؛ وتغييرهم على أنفسهم، وأما الأفعال التي لها حق البقاء؛ يكون التغيير من الله من بعد؛ وهو من نحو السلامة والصحة والسعة، والذي له حق التجدد والحدوث الطاعات والمعايى.
وقوله - عز وجل -: { وَإِذَا أَرَادَ ٱللَّهُ بِقَوْمٍ سُوۤءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ }.
الآية ترد على المعتزلة قولهم؛ لأنهم يقولون: إنه لا يريد إلا ما هو أصلح لهم في الدين، وقد أخبر أنه إذا أراد بهم سوءاً؛ { فَلاَ مَرَدَّ لَهُ... } [الآية].
دل هذا أنه قد يريد بهم السوء إذا غيروا هم ما أنعم الله عليهم، أراد أن يغير عليهم والمعتزلة يقولون يملك الخلق دفع سوء إرادة الله بهم، وإذا أراد الخير يملكون رد ذلك، والله يقول:
{ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ } [يونس: 107] ولا مردّ لسوئه.
وقوله - عز وجل -: { وَمَا لَهُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ }.
أي: ليس لهم في دفع العذاب الذي أراد بهم ولي يدفع عنهم أو نصير ينصرهم؛ كقوله:
{ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } [البقرة: 107].