التفاسير

< >
عرض

أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَآءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي ٱلأَرْضِ أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ ٱلْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ وَصُدُّواْ عَنِ ٱلسَّبِيلِ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ
٣٣
لَّهُمْ عَذَابٌ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَلَعَذَابُ ٱلآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُم مِّنَ ٱللَّهِ مِن وَاقٍ
٣٤
مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَىٰ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّعُقْبَى ٱلْكَافِرِينَ ٱلنَّارُ
٣٥
-الرعد

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ }.
قال أبو بكر الأصم: يقول: من الذي هو قائم على كل نفس بما كسبت الله أم شركاؤكم فالقائم هو المدبر الحافظ بكل ما فيه الخلق ويشبه أن يكون تأويله: { أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ } أي: حافظ وعالم على كل نفس بما كسبت؛ أو بالرزق لهم والدفع عنهم، كمن هو أعمى عن ذلك، ليسا بسواء كقوله:
{ أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ ٱلْحَقُّ... } الآية [الرعد: 19].
أو يقول: أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت؛ كمن هو غير قائم عليه؟ ليسا بسواء.
وقال مقاتل: أفمن هو قائم على رزقهم وطعامهم.
ثم قال: { وَجَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَآءَ }.
أي: وصفوا لله شركاء وعبدوها؛ والله أحق أن يعبد من غيره.
يقول الله: أنا القائم على كل نفس؛ أرزقهم وأطعمهم؛ أفأكون أنا وشركائي الذين لا يفعلون ذلك سواء؟
والوجه فيه ما وصفنا: أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت؛ أي: يرزق ويبصر و [يعلم ما تعمل وتكسب ويحفظ] عن أنواع البلايا؛ كمن هو أعمى جاهل عاجز عن ذلك كله؟ أي: ليس هذا كذلك. ويسفههم في إشراكهم الأصنام التي عبدوها في الألوهية والعبادة، وهي بالوصف الذي ذكر؛ كمن هو أعمى عاجز عن ذلك؟ أي: ليسا بسواء.
وقوله: { أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } يحتمل قائم على كل نفس بما كسبت؛ فيما قدر لها وقواها أو في الجزاء يجزي على ما تكسب.
{ وَجَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَآءَ } في العبادة؛ أو في تسميتهم آلهة، لا يعلمون ما كسب لها، ولا يملكون جزاء ما كسبوا لها أيضاً.
يبين سفههم في جعلهم هذه الأصنام والأوثان شركاء لله في العبادة؛ وتسميتهم آلهة؛ مع علمهم أنهم لا يقدرون ولا يملكون شيئاً من ذلك.
وقوله - عز وجل -: { قُلْ سَمُّوهُمْ }.
قال بعض أهل التأويل: قوله: { قُلْ سَمُّوهُمْ } بذلك الاسم؛ ولو سموهم، [سموهم] بكذب وباطل وزور.
وعندنا قوله: { قُلْ سَمُّوهُمْ } أي: لو سميتموها آلهة واتخذتموها معبوداً؛ فسموهم أيضاً بأسماء سميتم الله؛ من نحو: الخالق والرازق والرحمن والرحيم؛ ونحوه.
يقول - والله أعلم - إذ سميتم هذه الأصنام آلهة ومعبوداً، سموهم أيضاً: خالقاً ورازقاً ورحماناً ورحيماً، وهم يعلمون أنها ليست كذلك. والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي ٱلأَرْضِ }.
أي: أم تنبئون الله؛ وهو عالم بما في السماوات وما في الأرض؛ وعالم بكل شيء، وهو لا يعلم في الأرض ما تقولون من الآلهة وما تصفونه بالشركاء؟! وكذلك يخرج قوله:
{ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ ٱللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَلاَ فِي ٱلأَرْضِ } [يونس: 18] أم تنبئونه بما ليس في الأرض شيء مما تقولون وتصفون شيء؛ أي: يقول: أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات والأرض، وهم عالم بكل شيء؟ أي: تقرون بأنه عالم بكل شيء؛ وهو لا يعلم ما تقولون وتسمونه من الشركاء وغيره.
والثاني: أم تنبئونه بما لا يعلم؛ أي: ليس في الأرض.
وقوله - عز وجل -: { أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ ٱلْقَوْلِ }.
قال أهل التأويل: { بِظَاهِرٍ مِّنَ ٱلْقَوْلِ } أي: بل بباطل من القول وزور.
ويشبه أن يكون بظاهر من القول؛ أي: بضعيف من القول وخفيف، يسمون الشيء الذي لا حقيقة له ولا ثبات ظاهراً بادياً؛ كقوله:
{ إِلاَّ ٱلَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ ٱلرَّأْيِ } [هود: 27] أي: ضعيف الرأي: وخفيفه؛ لا حقيقة له ولا قرار.
ويحتمل قوله: { أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ ٱلْقَوْلِ } في الخلق والأسلاف؛ أي: لم يظهر ما يقولون؛ ويصفون؛ إشراك هذه الأصنام؛ وتسميتها آلهة ومعبوداً؛ فيكون (أم) في موضع حقيقة ويقين؛ على هذا التأويل والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ }.
قال بعض أهل التأويل: { مَكْرُهُمْ }: قولهم الذي قالوه من الكذب والزور؛ أنها آلهة وأنها شركاء الله.
لكن يشبه أن يكون قوله: { مَكْرُهُمْ } أي: مكرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم حيث احتالوا حيلا؛ ليقتلوه لئلا يظهر هذا الدين في الأرض، ويطفئون هذا النور؛ ليدوم عزهم وشرفهم في هذه الدنيا؛ وهو كقوله:
{ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } [الأنفال: 30] والمكر: هو الاحتيال؛ والأخذ من حيث الأمن. والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَصُدُّواْ عَنِ ٱلسَّبِيلِ }.
صدوا؛ لما علموا من مكرهم واختيارهم ما اختاروا والسبيل، المطلق هو سبيل الله؛ وإلا كان جميع الأديان والمذاهب يسمى سبيلا؛ كقوله:
{ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ } [الأنعام: 153] لكن ما ذكرنا أن السبيل المطلق [هو] سبيل الله، والكتاب المطلق كتاب الله، والدين المطلق دين الله.
وقوله - عز وجل -: { وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ }.
من أضله الله فلا يملك أحدٌ هدايته، ومن هداه فلا يملك أحد إضلاله.
وقوله - عز وجل -: { لَّهُمْ عَذَابٌ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا }.
العذاب لهم في الحياة الدنيا يحتمل: القتل والقتال؛ والخوف والجواع؛ وأنواع البلايا؛ كقوله:
{ وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ... } الآية [النحل: 112].
وقوله - عز وجل -: { وَلَعَذَابُ ٱلآخِرَةِ أَشَقُّ } أي: أشد.
{ وَمَا لَهُم مِّنَ ٱللَّهِ مِن وَاقٍ } أي: مالهم من عذاب الله من واقٍ يقيهم من عذابه.
وقوله - عز وجل -: { مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ }.
يحتمل: وصف الجنة التي وعد المتقون؛ أو صفة الجنة التي وعد المتقون. ويحتمل: [أي: شبه] الجنة التي وعد المتقون.
كشبه النار التي وعد الكافرون؛ أي: ليسا بشبيهين ولا مثلين، لا تكون هذه مثل هذه ولا تشبهها؛ كقوله:
{ مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ ءَاسِنٍ... } الآية [محمد: 15]، يقول - والله أعلم - يقول: الذي وصفه كذا من النعم الدائمة - كالذي يكون عذابه ووصفه كذا؛ أي: لا يكون؛ فعلى ذلك الأوّل.
وقوله - عز وجل -: { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ }.
أي: ثمار الجنة دائمة لا تزول ولا تنقطع؛ ليس كثمار الدنيا، ونعيمها ليس من ثمرة من ثمار الدنيا إلا وهي تزول وتنقطع في وقت؛ فأخبر أن ثمار الآخرة - وما فيها من النعيم - غير زائلة ولا منقطعة، وكذلك عذابها [دائم] لا يزول.
{ وِظِلُّهَا } أيضاً.
أخبر أن ظل الجنة لا يزول ولا ينقطع، لا يكون فيها شمس يزول ظلها بزوالها.
وصف جميع ما فيها بالدوام والمنفعة: الظل شيء لا أذى فيه؛ وفيه منافع، والشمس فيها أذى ومنافع، وكذلك جميع ما يكون من الأشياء في الدنيا؛ يكون فيها منافع ومضار؛ وأنها تزول وتنقطع؛ فأخبر أن ظل الآخرة وما فيها من النعم دائمة باقية؛ غير زائلة ولا منقطعة، ولا مضرة فيها؛ ليس كنعيم الدنيا وظلها. والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { تِلْكَ عُقْبَىٰ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّعُقْبَى ٱلْكَافِرِينَ ٱلنَّارُ }.
[أي: جزاء الكافرين النار]، ظاهر هذا أن يكون: الذين اتقوا تقى الشرك؛ لأنه ذكر عقبى الكافرين النار؛ أي: جزاء وعقبى ما ذكرنا؛ أي: تلك الجنة جزاء الذين اتقوا الشرك، وعقبى الكافرين النار؛ أي: جزاء [الكافرين] النار. أو عقبى هذه للذين اتقوا الجنة، وعقبى أولئك النار.
وقال بعضهم: { تِلْكَ عُقْبَىٰ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ } أي: عاقبة أعمالهم وحسناتهم الجنة؛ وعاقبة أعمال الذين كفروا بتوحيد الله النار.