التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي ٱلسَّمَآءِ
٢٤
تُؤْتِيۤ أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ
٢٥
وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ ٱجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ ٱلأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ
٢٦
يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱلْقَوْلِ ٱلثَّابِتِ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَفِي ٱلآخِرَةِ وَيُضِلُّ ٱللَّهُ ٱلظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ
٢٧
-إبراهيم

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { أَلَمْ تَرَ }.
قد ذكرنا أن كلمة { أَلَمْ تَرَ } حرف تنبيه عن عجيب كان بلغهُ؛ فغفل عنه، أو تنبيه عن عجيب لم يبلغه.
وقال أبو بكر الأصم: هي كلمة يفتتح بها العرب عند الحاجة؛ يقول الرجل لآخر: ألم تر إلى ما فعل فلان؛ ونحوه. هذا يحتمل في غيره من المواضع وأما في هذا فإنه غير محتمل.
وقوله - عز وجل -: { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً } قيل: بين الله مثلا وأظهر.
{ كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ }.
قال أبو بكر الكيساني: { كَلِمَةً طَيِّبَةً }: هو هذا القرآن، { كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ }: هي الكتب التي أحدثها الناس، شبه القرآن بالشجرة الطيبة؛ وهي النخلة؛ على ما ذكر؛ إن ثبت، أو كل شجرة مثمرة. وشبه الكتب التي أحدثها الناس بالشجرة الخبيثة؛ وهي التي لا تثمر. وقال: إنما شبه القرآن بالشجرة الطيبة؛ لأن الشجرة الطيبة هي باقية إلى آخر الدهر؛ ينتفع بها الناس بجميع أنواع المنافع، لا يقطعونها؛ فهي تدوم وتبقى دهراً، فعلى ذلك القرآن ينتفع به الناس وهو دائم أبداً.
وقوله - عز وجل -: { أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي ٱلسَّمَآءِ }.
أصلها ثابت لها قرار، فعلى ذلك: القرآن هو ثابت بالحجج والبراهين؛ والكتب التي أحدثها أولئك هي باطلة فاسدة؛ لا حجة معها ولا برهان؛ كالشجرة الخبيثة التي هي غير مثمرة؛ لا بقاء لها ولا قرار ولا ثبات.
وقال بعضهم: الكلمة الطيبة: هي الإيمان والتوحيد؛ شبهها بالشجرة الطيبة؛ وهي التي تثمر وتنمو وتزكو هي على ما وصفها - عز وجل - في قوله: { تُؤْتِيۤ أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا }، فعلى [ذلك] الإيمان والتوحيد لا يزال يثمر لأهله الخيرات والأعمال الصالحات؛ كالشجرة التي وصفها أنها تؤتي أهلها أكلها في كل حين وكل وقت، أصلها ثابت بالحجج والبراهين، وفرعها في السماء، في كل وقت يرتفع ويصعد به العمل إلى السماء.
و [الكلمة] الخبيثة: هي الكفر؛ لأنه لا منفعة لأهلها فيها، إذ لا عاقبة له ولا حجة معها ولا برهان، إنما شيء أخذوه عن شهوة وأمانيَّ، فكان كالشجرة الخبيثة التي لا ثمرة لها، ولا منفعة لأحد فيها، فهي لا تبقى ولا تدوم. فذلك قوله: { ٱجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ ٱلأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ }.
ويشبه أن يكون ضرب المثل لغير هذا المعنى؛ وهو أنه ذكر جواهر طيبة وجواهر خبيثة: مما يقع عليها الحواس ويقع عليها البصر؛ ليكون كل جوهر من هذه الجواهر التي يقع عليها الحواس؛ ويقع عليها البصر - من خبيث أو طيب - دليلا وشاهداً على ما غاب عن الخلق؛ ولا يقع عليها الحواس. وهكذا جعل الله تعالى هذه المحسوسات والأشياء الظاهرة - دليلا وشاهداً لما غاب عنهم؛ ولا يقع عليه الحسّ، تدرك بالعقول التي تركب فيهم؛ ليرغب الطيب؛ مما يقع عليه الحسّ والبصر؛ على الموعود الغائب، ويحذر الخبيث المحسوس عما غاب وأوعد، وكذلك هذه الآلام والأمراض والشدائد التي جعل في هذه الدنيا؛ لتزجرهم عن الأفعال التي بها يستوجبون مثلها في الآخرة، وكذلك النعم التي في الدنيا واللذات، جعلها لتدلهم على النعم الدائمة.
على هذا يجوز أن يخرج لا أنه أراد بالشجرة الطيبة الشجرة نفسها أو بالشجرة [الخبيثة الشجرة] نفسها ولكن ما وصفنا. والله أعلم بذلك.
وقال قائلون: ضرب الله مثل الشجرة الطيبة مثلا للمؤمن؛ هو في الأرض وعمله يصعد إلى السماء كل يوم؛ فكما تؤتي الشجرة أكلها كل حين كذلك المؤمن يعمل لله في ساعات الليل والنهار.
وقوله - عز وجل -: { كُلَّ حِينٍ }.
قال قائلون: كلّ عام؛ لأنها تثمر في كل عام مرة.
وقال قائلون: ستة أشهر من وقت طلوعها إلى وقت إدراكها.
وقال قائلون: كل عشية وغدوة؛ كقوله:
{ فَسُبْحَانَ ٱللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ } [الروم: 17].
وقال قائلون: شهرين؛ وأمثاله.
ويشبه أن يكون ما ذكرنا: أنه ليس في وقت دون وقت، ولكن الأوقات كلها في كل وقت وكل ساعة.
فإن قال لنا ملحد: إن الكلمة التي ضرب الله مثلها بالشجرة الطيبة - [هي] كلمتنا، ونحن المراد بذلك. والكلمة الخبيثة التي ضرب الله مثلها بالشجرة الخبيثة - هي كلمتكم؛ وأنتم المراد بها لا نحن.
قيل: قد سبق لهذا المثل أمثال ودلائل على أن الكلمة الطيبة هي التي لها عاقبة وآخرة، وكل أمر له عاقبة والنظر في آخره - فهو الحق، والذي أنتم عليه لا عاقبة له ولا آخرة، وفي الحكمة: إن كل أمر لا عاقبة له - فهو باطل؛ والكفر لا عاقبة [له].
والثاني: أن الإيمان والتوحيد له الحجج والدلائل، والكفر مما لا حجة له ولا دلائل؛ إنما هو مأخوذ بالأماني والشهوة: من تسويل الشيطان وتزيينه؛ لذلك كان ما ذكرنا.
وتحتمل الكلمة الطيبة - أيضاً -: أن تكون الوحي الذي أوحى الله إلى رسوله، والكلمة الخبيثة: ما أوحى الشيطان إليهم؛ كقوله:
{ وَإِنَّ ٱلشَّيَٰطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىۤ أَوْلِيَآئِهِمْ... } الآية [الأنعام: 121] فوحي الله: هو ثابت دائم ينتفع به أهله في الدنيا والعاقبة، ووحي الشيطان: هو باطل مضمحلّ لا عاقبة له؛ ولا ينتفع به أهله. والله أعلم بذلك.
وقوله - عز وجل -: { ٱجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ ٱلأَرْضِ }.
قال بعضهم: استؤصلت، وقيل: انتزعت. وقال أبو عوسجة: اقتلعت من أصلها؛ يقال: جثثت الشجرة أجثها جثّاً: إذا قلعتها من أصلها.
وقوله - عز وجل -: { مَا لَهَا مِن قَرَارٍ }.
هو ما ذكرنا. وقال بعض أهل التأويل: شبه كلمة الشرك بحنظلةٍ قطعت؛ فلا أصل لها في الأرض ولا فرع في السماء؛ أي: لا يصعد له عمل، وشبه كلمة الإيمان؛ في نفعها وفضلها وثباتها وقرارها في الأرض؛ بما ذكر من الشجرة. والله أعلم.
ثم من الناس من احتج بهذا المثل في خلق الإيمان والكفر؛ فقال: لأنه ضرب مثله بما هو خلق؛ وهو الشجرة؛ فعلى ذلك الإيمان.
ولكن عندنا لا بهذا يجب أن يستدل على خلقه، ولكن لما ثبت أن منشئهما واحد لأنه لو كان منشئهما مختلفاً لكان لا يضرب مثل هذا بهذا ولا هذا بهذا؛ فإذا ضرب دل أن منشئهما واحد؛ فإذا ثبت ذلك دل على ما وصفنا.
ومن الناس من استدل بهذا أنه يزداد وينقص؛ حيث شبهه بالشجرة؛ وهي تزداد وتنقص، ونحن نقول: ليس فيه دلالة ما ذكروا؛ لأن الشجرة في نفسها ليست بذي حدّ، والإيمان ذو حدّ؛ فما يزداد [إنما] هو في حق التزيين والتحسين. وأمّا الإيمان نفسه: فإنه لا يزداد؛ كالشجرة إذا تورقت وخرجت ثمارها توصف بالزينة والحسن، فأمّا نفس الشجرة: فلا توصف بالزيادة؛ فعلى ذلك الإيمان.
وقوله - عز وجل -: { وَيَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلأَمْثَالَ لِلنَّاسِ }.
يحتمل: يبين الله الأمثال التي يقع عليها الحس، ويقع عليها البصر، والأشياء الظاهرة؛ لتدلهم على ما استتر وغاب عنهم، يدركون بالعقول ما استتر وخفي بالظاهر والمحسوس.
{ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } لعلهم يتعظون.
وقوله: { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً } الكلمة الطيبة: تحتمل التوحيد وفروعها: هي الخوف، والخشوع، والخضوع، والرغبة [والرهبة]. وأكلها: هو الأعمال الصالحة والخيرات تكون منه.
والكلمة الخبيثة: هي الشرك. وفروعها: ما يكون منه في الشرك؛ من القساوة، والتمرد، والعناد. وأكلها: هو الأعمال التي تكون منه في الشرك.
أو أن يكون الكلمة الطيبة: هي الأعمال. وفروعها: هي الشرائع والأحكام التي تعمل. وأكلها: هو ما يثاب عليه في الدنيا والآخرة أبداً. والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱلْقَوْلِ ٱلثَّابِتِ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَفِي ٱلآخِرَةِ }.
ذكر مرة بالتثبيت ومرة بذكر الزيادة؛ بقوله:
{ لِيَزْدَادُوۤاْ إِيمَٰناً مَّعَ إِيمَٰنِهِمْ } [الفتح: 4] ومرة بذكر الابتداء والتجديد؛ بقوله: { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ءَامِنُواْ بِٱللَّهِ } [النساء: 136]. وقوله: { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } [الفاتحة: 6] فالتجديد والابتداء في حادث الوقت؛ لأن تلك الأفعال تنقضي وتذهب ولا تبقى، وأما الزيادة على ما كان يضم شيئاً إلى ما كان، والثبات على ما كان فكله واحد في الحقيقة.
وقوله - عز وجل -: { وَيُضِلُّ ٱللَّهُ ٱلظَّالِمِينَ }.
أضاف الإضلال مرة إلى نفسه؛ ومرة إلى الشيطان، ولا شك أن ما أضيف إلى الشيطان إنما أضيف على الذم، فإذا كان ما ذكر؛ فتكون الجهة التي أضيف إلى الله - غير الجهة التي أضيف إلى الشيطان، الجهة التي أضيف إلى الله: هو أن خلق [فعل] الضلال من الكافر، وما أضيف إلى الشيطان: هو على التزيين والتسويل؛ لتصح الإضافتان. ولو كان على التسمية - على ما يقوله المعتزلة: إذ سماه ضالا - لكان كل من سمى آخر ضالا كافراً جاز أن يسمى مضلا، فإذا لم يسم - بتسميته ضالا أو كافراً - مضلا دل أنه إنما سمى الله نفسه مضلا؛ لتحقيق الفعل له فيه؛ وهو ما ذكرنا: أن خلق فعل الضلال منه.
والمعتزلة يقولون: إن الله هدى الخلق جميعاً؛ لكنهم لم يهتدوا وضلوا من غير أن يكون الله أضلهم. فهذا صرْف ظاهر الآية إلى غيره بلا دليل.
وقوله - عز وجل - { وَيَفْعَلُ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ }.
وعلى قول المعتزلة: لا يقدر أن يفعل ما يشاء؛ لأنهم يقولون: شاء إيمان جميع البشر؛ ولكنهم لم يؤمنوا؛ وكذلك قال:
{ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } [هود: 107] وهم يقولون: أراد إيمانهم؛ لكنه لم يفعل ما أراد؛ ولا يملك، وقد أخبر أنه: { فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } [هود: 107] و { مَا يَشَآءُ } وهم يقولون: لم يملك [أن يفعل] ما شاء وأراد، بل العباد يقولون ما شاءوا غير ما شاء هو، فتأويلهم خلاف لظاهر القرآن. والله أعلم.
وقوله: { يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱلْقَوْلِ ٱلثَّابِتِ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَفِي ٱلآخِرَةِ } يشبه أن يكون هذا صلة قوله: { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً } على تأويل من يقول: إن الكلمة الطيبة هي القرآن، يكون القول الثابت هو القرآن.
يقول - والله أعلم - يثبت الله الذين آمنوا في الحياة الدنيا؛ حيث تلقوه بالإجابة والقبول والعمل به، وفي الآخرة؛ أي: بالآخرة والبعث؛ يقرون به، { وَيُضِلُّ ٱللَّهُ ٱلظَّالِمِينَ }؛ حيث تركوا الإجابة له، وتلقوه بالرد، والمكابرة، والعناد.
ومن يقول: الكلمة الطيبة: التوحيد والإيمان - يكون القول الثابت: هو الإيمان؛ يثبتهم في الحياة الدنيا باختيارهم؛ وفي الآخرة، قيل: في قبورهم؛ يثبتهم لإجابة منكر ونكير، ويمكن لهم ذلك، ويضل الله الظالمين الذين تركوا الإجابة له في الحياة الدنيا وفي القبور؛ حيث تركوا الإجابة في الدنيا.
ويحتمل أن يكون قوله: { يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱلْقَوْلِ ٱلثَّابِتِ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا }؛ هو ما ذكر،
{ وَٱللَّهُ يَدْعُوۤاْ إِلَىٰ دَارِ ٱلسَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [يونس: 25] ثبت من أجاب الله إلى ما دعا في الدنيا، وفي الآخرة يهديه الطريق الذي به يوصل إلى دار السلام، والكافر حيث ترك إجابته إلى ما دعاه، ويضله في الآخرة طريق دار السلام؛ بترك إجابته في الدنيا. والله أعلم بذلك.
وقوله: { وَيَفْعَلُ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ } في هداية من اختار الإجابة والاهتداء، وإضلال من اختار ترك الإجابة والغواية.