التفاسير

< >
عرض

وَإِذِ ٱبْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي ٱلظَّالِمِينَ
١٢٤
وَإِذْ جَعَلْنَا ٱلْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَآ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَٱلْعَاكِفِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ
١٢٥
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا بَلَداً آمِناً وَٱرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلنَّارِ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ
١٢٦
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَٰهِيمُ ٱلْقَوَاعِدَ مِنَ ٱلْبَيْتِ وَإِسْمَٰعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ
١٢٧
رَبَّنَا وَٱجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ
١٢٨
رَبَّنَا وَٱبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَٰتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلعَزِيزُ ٱلحَكِيمُ
١٢٩
-البقرة

تأويلات أهل السنة

قوله: { وَإِذِ ٱبْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ }.
قيل: الابتلاء والامتحان في الشاهد: استفادة علم خَفِيَ عليه من الممتحن والمبتلى به، ليقع عنه علم ما كان ملتبساً عليه.
وفي الغائب لا يحتمل ذلك؛ إِذ الله - عز وجل - عالم في الأَزل بما كان، وبما يكون في أَوقاته أبداً.
ثم يرجع الابتلاء منه إلى وجوه:
أَحدها: أَن يخرج مخرج الأَمر بالشيء أَو النهي عنه، لكن الذي ذكر يظهر بالأمر والنهي؛ فسمي ابتلاء من الله تعالى.
والثاني: ليكون ما قد علم الله أَنه يوجد موجوداً، وليكون ما قد علم أنه سيكونُ كائناً.
وعلى هذا يخرج قوله:
{ حَتَّىٰ نَعْلَمَ ٱلْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ } [محمد: 31]، حتى نعلمه موجوداً، كما علم أَنه يوجد؛ كما قال: { عَٰلِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ } [الأنعام: 73، التوبة: 94، 105، الرعد: 9، المؤمنون: 92، السجدة: 6]، علم الغيبَ، علم أنه مُوجَدٌ. وَعلم الشهادةَ، عَلِم به موجوداً، حتى يوجد الذي علم أَنه يجاهد منهم - مجاهداً، و[الذي] يصبر منهم صابراً.
ثم اختلف في الكلمات التي ابتلاه بها:
فقال بعضهم: الكلمات: هي التي ذكرت في سورة الأَنعام، وهو قوله:
{ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ ٱلْلَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً } [الأنعام: 76]، ورأَى القمر بازغاً، ورأَى الشمس بازغة، هي الحجج التي أَقامها على قومه بقوله: { وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ ءَاتَيْنَٰهَآ إِبْرَٰهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ } [الأنعام: 83].
وقيل: ابتلاه بعشر ففعلهن: خمسةً في الرأْس، وخمسة في الجسد.
لكن في هذا ليس كبيرُ حكمةٍ؛ إِذ يفعل هذا كل واحد، ولكنَّ الحكمة فيه هي:
ما قيل: إن ابتلاءه بالنار، حيث أُلْقي فيها، فصبر، حتى قال له جبريل: "أَتستعين بي؟ قال: أَمَّا منْك فلا".
وابتلي بإسكان ذريته الوادي، الذي لا ماءَ فيه، ولا زرع، ولا غرس.
وابتُلي بالهجرة مِن عِندهم، وتركهم هنالك - وهم صغار - ولا ماءَ معهم، ولا زرع، ولا غرس.
وابتلي بالهجرة إلى الشام.
وابتلي بذبح ولده.
ابتلى بأَشياءَ لم يبتل أَحد من الأَنبياء بمثله، فصبر على ذلك.
ففي مثل هذا يكون وجه الحكمة.
وفيه لغة أُخرى: { وَإِذِ ٱبْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ } بالرفع { رَبُّهُ } بنصب الباء.
ومعناه - والله أعلم -: أَنه سأَل ربه بكلمات فأعطاهن. وهو تأْويل مقاتل. وهو أَن قال: اجعلني للناس إِماماً. قال: نعم. قال: { وَٱجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ }، قال: نعم قال: { وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ }. قال نعم. قال: و{ ٱجْعَلْ هَـٰذَا بَلَداً آمِناً }.
قال: نعم. قال: { وَٱرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ }. قال نعم. مثل هذا: سأَل ربه هذا فأَعطاهن إياه.
وقوله: { قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً }.
يحتمل: جعله رسولاً يقتدى به؛ لأَن أَهل الأديان - مع اختلافهم - يدينون به، ويقرون نبوته.
ويحتمل: إماماً من الإمامة والخلافة.
وقوله: { قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي ٱلظَّالِمِينَ }.
فإن قيل: كيف كان قوله: { قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي ٱلظَّالِمِينَ } جواباً لقوله: { وَمِن ذُرِّيَّتِي } وكانت الرسالة في ذريته؛ كقوله:
{ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ } [الزخرف: 28]؟
يحتمل قوله: { وَمِن ذُرِّيَّتِي }: أَحب أَن تكون الرسالة تدوم في ذريته أَبداً؛ حتى لا تكون بين الرسل فترات؛ فأُخبر أَن في ذريته من هو ظالم، فلا ينال الظالم عهده.
ويحتمل: أَن يكون سؤالهُ جعلَ الرسالة في أَولاد إِسماعيل؛ لأَن العرب من أَولاد إسماعيل - عليه السلام - فأخبر أَن في أَولاده من هو ظالم؛ فلا يناله.
والعهدُ: ما ذكرنا، هو الرسالة والوحي.
وقال الحسن: لا ينال الظالم في الآخرة العهدَ.
ويحتمل: أَن يكون المراد من ذلك: وذريتي، فأخبر أَن فيهم من لا يصلح لذلك.
ويحتمل: أَن يريد به الإمامَة لاَ النبوة، وقد كانت هي في نسل كل الفرق، والنبوةُ كانت فيهم.
ويحمل: أَن يكون قصدَ خصوصاً من ذريته، ممن علم الله أَن فيهم من لا يصلح لذلك.
ولا يحتمل: أن يريد به الإمامَة لا النبوة وقد ذكر، أَو قال الإنسان: قيل له: إِنه من ذريتك لكن لا ينال من ذكر؛ ولهذا خص بالدعاءِ من آمن منهم دون من كفر.
وقوله: { وَإِذْ جَعَلْنَا ٱلْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ }.
قيل: المثابة. المجمع.
وقيل: المثابة: المرجع، يثوبون: يرجعون.
وقيل: يحجون.
وقوله: { مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً }.
هو فعل العباد؛ لأَنهم يأْمنون ويثوبون.
أَخبر أَنه جعل ذلك؛ ففيه دلالة خلق أَفعال العباد.
ثم بين فيه - عز وجل - شدة اشتياق الناس إليها، وتمنيهم الحضور بها، مع احتمال الشدائد والمشقة، وتحمل المؤن، مع بعد المسافة والخطرات؛ فدل أَن الله تعالى - بلطفه وكرمه - حبب ذلك إلى قلوب الخلق، وأَنه جعل من آيات الربوبية والوحدانية، وتدبير سماوى، لا من تدبير البشرية.
وفيه دلالة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم؛ إِذ أَخبر عما قد كان؛ فثبت أَنه أَخبر عن الله عز وجل.
وقوله: { وَأَمْناً } لمن دخله من عذاب الآخرة.
وقيل: { وَأَمْناً } لكل مجترم آوى به، وآوى إليه من القتل، وغيره؛ كقوله:
{ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } [آل عمران: 97] عن كل ما ارتكب.
وأما عندنا: فإنه إن قتل قتيلاً، ثم التجأَ إِليه، فإِنه لا يقتل ما دام فيه؛ لأَنه لا يقتل للكفر هنالك.
فعلى ذلك القصاص؛ لقوله:
{ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } [البقرة: 191]، وما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَنه قال: "إِنَّ مَكَّةَ حَرامٌ بِتَحْرِيم الله إِيَّاهَا يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالأَرْض، لَمْ تَحِلَّ لأَحِدٍ قَبْلي وَلاَ تَحلُّ لأحد بَعْدِي. وَإِنَّما أُحلَّتْ لِي سَاعَةً مِن نَهَارٍ. لاَ يُخْتلَى خَلاَهَا، وَلاَ يُعْضَدُ شَجَرُهَا، وَلاَ يُنَفَّر صَيْدهَا" .
وما روي عن ابن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: "لو ظفرت بقاتل عمرَ في الحرم ما قتلته" وإِذا قتل في الحرم يقتل به هنالك.
والوجه فيه: أَن إِقامة مثله عليه فيما يرتكبه في الحرم أحق؛ إذ هي كفارة؛ لينزجر عما ارتكب، وأَحق ما يقع فيه الزجر بمثله، ما هو فيه من المكان.
وإذا قتل في غير الحرم، التجأ إلى الحرم - قال أَبو حنيفة -رحمه الله - لا يخرج من الحرم.
وأَبو يوسف -رحمه الله - جعل ذلك للسلطان، ذهب إلى أَنه قال: { وَأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَٱلْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ ٱلْقَتْلِ }، كما قال: { فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَٱقْتُلُوهُمْ }، فأوجب الإخراج، من حيث أخرج، كما أوجب القتل من حيث قتل.
[و] قيل: لم يُخرَج من الحرم إذا لم يخرج منه، كما لم يُقتل في الحرم إذا لم يقتُل فيه.
أَو نقول بالإخراج للقتل، قَصْد ما لم يَسُغْ فعله فيه كان كالصيد يخرج، يلزم فيه ما يجب بالقتل؛ فمثله في موضع الحظر.
وبعد فإِنه لو أخرج لم يأمن بالحرم، بل زيد في عقوبته؛ إِذ الإخراج عقوبة، فقد زيد عليه، مع ما لم يجز في الكفار - الذين نهوا عن قتلهم - إِخراجهم للقتل، كذلك القاتل.
وذهب الآخر: إلى أنه يُخْرج؛ لإقامة الحد عند أبي حنيفة -رحمه الله - وإن لم يرتكب فيه.
وإِخراج المرتكب له، أَقل في الحكم من إِقامته عليه. غير أنه غلط؛ لأَنَّ إِخراجه للقتل يرفع من الحد؛ لأَنه يصل إلى قتله، ولما في القتل عقوبة واحدة، وفي الإخراج عقوبتان. ثم لم يلزمه العقوبة الواحدة - وهي القتل - إِذا لم يقتل فيه كان من ألا يلزمه العقوبتان أَحق.
وقوله: { وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى }.
اختلف في { مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ }:
منهم من جعل الحرم كله مقامه - يصلى إليه - لمقامه هنالك بأَولاده.
ومنهم من جعل المسجد مقامه؛ لأَنه كان مكان عبادته فهو المصلى.
ومنهم من جعل ما ظهر من مقامه - وهو موضع ركوبه ونزوله - لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أَنه لما قدم مكة قام إلى الركن اليماني، فقال عمر: يار سول الله! أَلا تتخذ مقامَ إبراهيم مصلى؟! فأَنزل الله - تعالى -: { وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى }" .
وعندنا: القبلةٌ البيتُ؛ كقوله - تعالى -: { فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ } [البقرة: 144، 150] وقوله: { جَعَلَ ٱللَّهُ ٱلْكَعْبَةَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ قِيَٰماً لِّلنَّاسِ } [المائدة: 97] أي: مقاماً لقيام العبادات.
وقوله: { وَعَهِدْنَآ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ }.
فيه الأمر ببنائه.
وقوله: { أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ }.
يحتمل التطهير لوجهين:
أَحدهما: عن الأَصنام والأَوثان التي كانت هنالك، وعبادةِ غير الله والأَنجاسِ.
ويحتمل: التطهير عن كل أَنواع الأَقذار، وعن كل أَنواع المكاسب، على ما روي في جملة المساجد.
وقوله: { لِلطَّائِفِينَ وَٱلْعَاكِفِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ }.
قيل: الطائف: هو القادم؛ سمي طائفاً لدخوله بطوافه.
وقيل: الاستحبابُ الطوافُ؛ لذلك قال أَصحابنا - رحمهم الله - الطوافُ للقادم أَفضل من الصلاة. والصلاة للمقيم أَفضل.
والعاكفُ: المقيمُ.
{ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ } منهما جميعاً.
وقيل: العاكفون: المجاورون؛ يعني: من أهل مكة والقادمين إليها.
وقوله: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا بَلَداً آمِناً }.
قد ذكرنا الوجه في قوله: { آمِناً }.
وقوله: { وَٱرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ }.
لما علم أَن المكان ليس بمكان ثمرٍ ولا عُشب دَعَا، وَسأَل ربه: أن يرزق أَهله عَطفاً على أَهله، وعلى كل من ينتاب إليه من الآفاق.
ثم خص المؤمنين بذلك؛ لوجوه:
أَحدها: أَنه لما أَمرهما بتطهير البيت عن الأَصنام والأَوثان ظن أَنه لا يجعل لسوى أَهل الإيمان هنالك مقاماً؛ فخص لهم بالدعاءِ، وسؤال الرزق.
والثاني: أَنه أَراد أَن يجعل آية من آيات الله؛ ليرغِّب الكفار إلى دين الله، فيصيروا أُمة واحدة؛ فكان كقوله:
{ وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ... } الآية [الزخرف: 33].
ووجه آخر قيل: لما كان قيل له: { لاَ يَنَالُ عَهْدِي ٱلظَّالِمِينَ } فلعله خشي أَن يخرج ذلك مخرج المعونة لهم على ما فيه العصيان.
وفي ذلك: أن لا بأْس ببيع الطعام من الكفرة. ولا يصير ذلك كالمعونة على ما هم عليه.
ويحتمل الدعاءُ المبهم للكفرة: القبحَ؛ إذ ذلك اسم من يعبد غير الله.
وقوله: { قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً }.
بالنعم؛ لأن الدنيا دار محنة، لا توجب النظر إلى المستحق للنعم من غير المستحق، ولا إلى الولي من العدو في الدنيا.
وأما الآخرةُ فهي دار جزاء، ليست بدار محنة؛ فيوجب النظر إلى المستحق للنعم من غير المستحق.
ومعنى قوله: { قَلِيلاً } لأن الدنيا كلها قليلٌ.
ثم الامتحان على وجهين: امتحانٌ بالنعم، وامتحان بالشدائد.
وقد قرئ: "فأَمْتِعْه" على معنى دعاءِ إِبراهيم - عليه السلام - "ومن كفر فأمتِعْه" بالجزم.
فإن قيل: لم لا كان تفاضل الامتحان بتفاضل النعم.
وإنما يعقل فضل الامتحان بفضل العقل، ويعلم أَن المؤمن هو المفضَّل بالعقل.
كيف لا وقع فضل ما به يمتحن - وهو النعم - لأَن العقل الذي به يدرك الحق واحد، لا تفاضل فيه لأَحد.
ثم العقل الذي به يمتحن واحد؛ فهما متساويان - فيما به دَرْكُ الحق - إلا أَن أَحدهما يدركه فيتبعه، والآخر يدركه فيعانده. فهو - من حيث معرفته - ذو عقل، أَعرض عنه؛ فيسمى معانداً، إذ من لا عقل له يُسمى مجنوناً.
وقوله: { ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلنَّارِ }.
ذكر الاضطرار، وهو كقوله:
{ خُذُوهُ فَٱعْتِلُوهُ إِلَىٰ سَوَآءِ ٱلْجَحِيمِ } [الدخان: 47] وهو السوق، وكقوله: { وَنَسُوقُ ٱلْمُجْرِمِينَ } [مريم: 86] إِنهم يساقون إليها، ويُدَعُّون، لا أنهم يأْتونها طوعاً واختياراً.
وقوله: { وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ }.
أي: بئس ما صاروا إليه.
وقوله: { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَٰهِيمُ ٱلْقَوَاعِدَ مِنَ ٱلْبَيْتِ وَإِسْمَٰعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ }.
أُمِرَا برفع البيت وببنائه؛ فَفَعلا، ثم سأَلا ربهما: أَن يتقبل منهما. فهكذا الواجب على كل مأْمور بعبادةٍ، أَو قُربة - إذا فرغ منها، وأَداها - أَن يتضرع إلى الله، ويبتهل؛ ليقبل منه، وأَلا يرد عليه؛ ليضيع سعيه.
وقوله: { إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } لدعائهم. { ٱلْعَلِيمُ } بما نَوَوْا وأَضمروا.
وقوله: { رَبَّنَا وَٱجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ }.
والإسلام قد ذكرنا فيما تقدم أَنه يتوجه إلى وجوه:
أَحدها: هو الخضوع له والتذلل.
والثاني: هو الإخلاص.
ثم اخْتَلَفَ أَهل الكلام في الإسلام:
فقال بعضهم: إِنه يتجدد في كل وقت؛ لذلك سأَلوا ذلك، وهو كقوله - تعالى -
{ يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } [النساء: 136] معناه: آمنوا بالله في حادث الوقت؛ لأَنه تارك فعل الكفر في كل وقت؛ فبترك الكفر يتجدد له الإيمان.
وعلى ذلك: يخرج تأْويلنا في الزيادة بقولهم: زادتهم إيماناً يتجدد له، ويزداد في حادث الوقت.
وقال آخرون: كان سؤالهم الإسلام سؤال الثبات عليه والدوام.
وقد ذكرنا أَن العصمة لا ترفع خوف الزوال.
ومثل هذا: الدعاء والسؤال - على قول المعتزلة - يكون عبثاً؛ لأَنه لا يملك إِعطاءَ ما سأَلوا عندهم؛ بل هم الذين يملكون ذلك، فيَخرج السؤال في هذا - عندهم - مخرج اللعب والعبث، فنعوذ بالله من السرف في القول والزيغ عن الهدى.
ثم الإيمان: هو التصديق والتصديق بالقلب يتجدد في كل وقت، فلا وقت يخلو القلب عنه في حال سكونٍ، أَو حال حركةٍ، والله أعلم.
وقوله: { وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ }.
يحتمل: أَن الأُمةَ المسلمة هي أُمةُ محمد صلى الله عليه وسلم؛ وذلك: أَنَّه لم يكن من أَولاد إِسماعيل رسولٌ سوى محمد صلى الله عليه وسلم، فسألا: أَن يجعل من ذريتهما رسولاً، وأُمه مسلمة، خالصة له.
وإنما الرسل كانوا من أَولاد إِسحاق ومن نسله، والله أَعلم.
وقوله: { وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا } .
وقيل: في قوله: { وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا }: يريد الإِراءَة إلى يوم القيامة، يدل على قراءَة عبد الله: "وأَرهم مناسكهم"، وفي قراءَة غيره على ضم الرؤية إلى نفسه.
والمنسكُ: هو القربة. وأَفعالُ الحج سميت مناسكاً.
ثم لا يحتمل: أَن يسأَلا ذلك، من غير أَمر سبق منه - عز وجل بذلك؛ لأَنه ليس من الحكمة سؤال: إِيجاب فضل عبادة، أَو قربة بغير أَمر؛ فدل أَنه قد سبق منه بذلك أَمر، لكنه لم يبين لهما، فسأَلا: تعليم ماهيتها وكيفيتها، فعلمهما جبريل ذلك.
ففيه: دلالة تأْخير البيان عن وقت قرع السمع الخطاب؛ أَلا ترى أَنه أَمر بالنداء للحج ولم يعلم.
والثاني: أَن آدم والملائكة قد كانوا حجوا هذا البيت قبل إبراهيم - عليه السلام - فدل أَن الأَمر به قد سبق.
والثالث: قوله - في نفس الحج -:
{ وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ مَنِ ٱسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } [آل عمران: 97].
ثم لا يحتمل: لزوم الكلفة بالخروج قبل وجوب الحج؛ لما لم يأْمر بفعل ما له إيجاب الحقوق والفرائض.
لكنها أوجبت شكراً لما أَنعم عليه؛ فدل أَن الحج كان واجباً قبل الخروج، وقد تأَخر الإمكان؛ فمثله البيان، والله أعلم.
واحتج بقوله:
{ أَقِيمُواْ ٱلصَّلٰوةَ } [البقرة: 43، 83، 110، النساء: 77، 103]: أَن ظاهره يوجب خضوعاً، لزم به ما أَداه السمع على تأَخر ما بينه، وكذلك الزكاةُ، وكذا ظاهرُ قوله: { وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ } [آل عمران: 97].
واحتج أَيضاً بقول القائل وسؤاله رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن أَوقات الصلاة ففعله في يومين، وقد كان يمكنه تعليمه وقت السؤال، لكنه أَخر؛ فدل أَن البيان يجوز تأَخره عن وقت قرع الخطابِ السمعَ.
ثم في تأْخير البيان محنة المخاطب به؛ أَمر في تعلم العلم وطلب مراد ما تضمن الخطاب، والله أعلم.
وذكر في أَمر الحج - عند كل نسك من المناسك - معاني لها، لكنها ذكرت الأَحوالِ كانت في شأْن آدم وأَمر إبراهيم، وأَمر محمد - عليهم الصلاة والسلام - وقد كان الحج قبلهم.
وقد ذكر في أَمر الرَّمَل أَنه كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه؛ ليُعلِم به قوتهم؛ حتى قال عمر - رضي الله عنه -: "علام أَهز كتفي، وليس أَحد إِزاءَه؟! لكني أَتبع رسول الله، عليه السلام" أَو كما قال،رحمه الله .
وقد ذكر ذلك في قصة إبراهيم عليه السلام: أَنه رمل، ولم يكن في وقته من كان الفعلُ لأَجله، وكذلك غيرُه من الأَنبياء، صلى الله عليهم وسلم.
إلا أَنَّا نقول: جعل الله كذلك؛ لعلمه بالحاجة إلى ذلك في وقت قد جعل ذلك نسكاً، فحفظ ذلك على حق النسك، وإن لم يكن المعنى مقارناً له في كل وقت، على ما قيل: "إِن صلة الرحم تزيد في العمر" - بمعنى جعل الله أَجله ذلك بما علم أَنه يصل الرحم - فيكون صرف العمر إلى تلك المدة لذلك.
وكما يكتب شقيّاً أَو سعيداً في الأَزل للوقت الذي فيه يكون كذلك، ونحو ذلك، والله الموفق.
ثم الأَصل: أَن الله - جل ثناؤه - جعل على عباده في كل الأنواع التي يتقلب فيها البشر للمعاش، أَو لأَنواع اللذات؛ لتكون العبادة منهم في كل نوع مقابل ما يختار صاحب ذلك شكراً لما مكن من مثله، لما يتلذذ به ويتعيش؛ إِذ كل لذة، وكل ما يتعيش به نعمة خصَّ الله بها صاحبها، بلا تقدُّم سببٍ يستوجبها العبد؛ فلزمه - في الحكمة - الشكر لمن أَسدى إليه تلك النعمة.
وعلى ذلك: نجد التقلب - من حال القيام، إلى حال القعود، والاضطجاع - أَمراً عامّاً في البشر، من أَنواع اللذات، فمثله يكون العبادة بذلك النوع عامة، نحو الصلوات.
وعلى ذلك: معنى الرق، والعبودةُ لازم لا يفارق، فمثله الاعتراف به، والاعتقاد دائم لا محالة لا يخلو منه وقت.
وعلى ذلك: أَمر إِعطاءِ النفس شهواتها، من المطاعم ونحو ذلك؛ لا يعم الأَوقات عموم التقلب من حال إلى حال؛ إذ لا يخلو عنها المرءُ وإن كانت مختلفة. فجعلت عبادة الصيام في خاص الأَوقات.
ثم لم يمتد ما بين الأَوقات امتداداً متراخياً، فعلى ذلك: جعل العفو عن الصيام، لم يجعل كذلك، بل في سنة، مع ما قد يدخل الصيام في كثير من الأُمور.
ثم للناس في الأَموال معاش، وبها تلذذ:
لكن منها قوت لا بد منه؛ فالاتفاق بمثله لازمم، لا يحتمل جعل القربة فيه، سوى أَن جعل ذلك لعينه قربة؛ إذ فرض على المرء الاستمتاع به.
ومنها فضْل، به جعلت قرب التصدق؛ لأَنه له بحق التلذذ، لا بحق ما لا بد منه.
وكذلك نوع تقلب الأَحوال في النفس التي هى بحق الضرورة، لم يجعل لمثل ذلك فضل قربة يؤديها سوى ما به حياته. وذلك يجعل بحكم الفرض عليه ولا ندبه.
وكذلك أَمر الصيام: لم يجعل عما لا بد منه للقوة، ولكن فضل قوة في الاحتمال.
لكن الزكاة هي من حقوق ما يجوز أَن يكون هي لغير من عليه، ففرض عليه البذل إلى غيره.
وحقوق الأَفعال لا تحتمل أَن يصير السبب الذي له به يجب أَن يكون لغيره فيجب عليه؛ فجعل فرض ذلك الفعل في نفسه. وهي تجب للأَحوال لوجهين:
أَحدهما: أَن فيها حقوقاً شائعة، على نحو النفقات، فأخرت هي إلى الحول؛ تخفيفاً، أَو لما هي تجب فيما له حكم الفضل.
والفضل: ما يفضل عن الحاجة. والحاجات تتجدَّد في أَوقات - لا أَنها تتتابعُ - لا يظهر في مثله الفضل إِلا بمدةٍ بينةٍ أكثرها حول.
ثم فَرْضُ الحجِّ جُعِل في العمر مرة؛ لأَنه في حق الأَسفار المديدة، التي لا يختار مثلها للذات إلا في النوادر، فلم يوجَب مثلُه إلا خاصّاً؛ فأُوجب في جميع العمر مرة.
وقد أَوجب في الأَموال في كل سنة؛ لأَن أَرباب الأَموال قد يتقلبون في البلاد النائية رغبة في فضول اللذات؛ فلذلك يجوز فرض مثل ذلك.
وعلى ذلك أَمر الجهاد - على أن الجهاد كالذي لا بد من الأَقوات - إذ في ترك ذلك خوف غلبة الأَعداءِ، وفيها تلف الأَبدان والأَديان، والأَموال ففرض على قدر ما فرض من الأَقوات؛ لما بينت من الخلل، ثم كانت أَحوال أَهل السفر تكون على غير المعروف من أَحوال المقيمين - في حق الرَّزانة والوقار، وحق الانبساط والنشاط - فعلى ذلك: فرائض الأَمرين - نحو الجهاد - فيه أَنواع: ما عُدَّ في غيره من اللعب، وكذلك أَمر الحج. وعلى مثل هذا يخرج رمي الجمار والرمَل والسعي ونحو ذلك.
فجعل ذلك في حق الأَسفار سُنَّة، وإن كان مثل ذلك عُدَّ في غير ذلك عبثا؛ إِذ قد بينا مخرج العبادات، على ما عليه أَحوال العباد بأَنفسهم، لولا العبادات، والله أعلم.
ثم جعل ذلك في أَمكنة متباعدة الأَطراف؛ إِذ هو بحق أَمر الأَسفار يجب في المعهود؛ فجعل في النسك، بنفسه بالذي به يقطع الأَسفار، ولا قوة إلا بالله.
ووجه آخر: من المعتبرات: أَن العبادات جعلت أَنواعاً:
منها ما يبلغ القيام بحقها العامَ فصاعداً، وهذه لم يجز أَن يجعل وقتها ينقص عن احتمال فعلها. ولا وقت من طريق الإشارة أجمع لمختلف الأَحوال بعد سقوط اعتبار العمر من السنة.
ثم لأَن فعل الحج قد يمتد ذلك، ويجاوز، لم يجعل ذلك وقتاً له، وإنما جعل العمر، لما كان لا وقت يشار إليه إلا وجميع ما فيه مما يحتمله العام الآخر، وما تقدمه وما تأَخره، ثم في العمر أَحوال، لا تحتمل إِضافتها إلى الأَعوام؛ لأَن ما يضاف إلى عام فذلك لكل عام. وليس ما يضاف إلى العمر موجوداً بحق الأَعوام. فجعل ذلك وقته، والله أعلم.
ثم الزكاة هي تجب للأَموال؛ صوناً لها؛ لكسب عدد، وفضل غنى، ولكن على ذلك تكتب لأَحوال الحياة لا لما يخلف؛ فلم يمتد أَمرها إلى العمر؛ على أَنها جعلت حقّاً للفقراء. ومتى أُريد جعل الوقت له العمر يصير لغيره، ويجب فيه ما يجب في الأَول؛ فتبطل الزكاة ويبقى الفقراء بلا عيش؛ إذ الله - بفضله - قدر أَقوات الخلق، ثم فضل الخلق في الأَملاك، حتى كان بعضهم بحيث لا يملك شيئاً، وبعضهم يجاوز ما ينالُ أَضعافَ عمره.
ثبت أَن ذلك له بما يقتضى به كفاية الفقراء؛ فلا بد أَن يجعل لذلك مدة يتوسع في ذلك الفريقان جميعاً.
ثم كانت الأَقوات - التي هي مجهولة للخلق جميعاً - تتجدد في كل عام على ذلك؛ إذ جعلت أقوات الفقراء في أموال الأَغنياء، جعلت في كل عام.
على أَنه إِذ جعلت أَقوات الخلق في بركات السماء والأَرض، جعلها الله متجددة بتجدد الأَعوام، ولا قوة إلا بالله.
والصلاة والصيام عبادتان تلزم قوى الأَبدان، فعلى ما يختلف قواهما، اختلف في الأَمر بهما والترك، وفي أَنواع الرخص.
لكن الصلاة ليس فيها مكابدة الشهوات، ولا مدافعة اللذات؛ إِذ لا سبيل إلى مثلها متتابعاً لما يصير اللذة أَلما، والشهوة وجعاً؛ فيبطل حق التتابع؛ وقدر المفروض من الصلوات لا يشتغل عما يقوم بها النفس.
والصيام يضاد ذلك، ويضر في البدن.
فجعل عبادة الصلوات في كل يوم، وعبادة الصيام في أَوقات متراخية؛ إذ هي تضاد معنى المجعول له الأغذية بين إِقامة الأَبدان، وفي الصيام خوف فنائها؛ لذلك استعين بطول الاغتذاء على أَوقات الصيام، ولا قوة إلا بالله.
وإن شئت قلت: إن الله أَنعم على البشر بما هو غذاء وقوام، وبما هو لذة وشهوة، ثم أَنعم عليهم بما هو لهم ربه رفعة وجاه عند الخلق - وهي الأَموال - فأَلزمهم في كل نوع من هذه الأَنواع عباداتٍ.
وعلى ذلك: وقع كل نوع منها لفوت النعمة، التي هي المرغوبة المختارة في الطبيعة، وإلى ما يدوم تلك يدعو العقل ببذل ما ينقطع منه، ثم جعلت قوى النفس بشهواتها، ونعم الأَموال بأَنواع الكد والجهد.
فعلى ذلك: خفف حقوق الأَموال؛ فلم يجعل إلا في الفضل الذي لا اختيار لهم ألا يبلغوا بالجهد ذلك، ففي ذلك جعلت الحقوق على ما يحتمل الوسع لهم من الترتيب، مع اليسر الذي أَخبر الله أَنه يريد بهم ذلك، لا العسر، والله أعلم.
وقوله: { وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ }.
دل سؤال التوبة أَن الأَنبياء - عليهم السلام - قد يكون منهم الزلات والعثرات، على غير قصد منهم.
ثم فيه الدليل على أَن العبد قد يُسْأَل عن زلة لم يتعمدها ولم يقصدها؛ لأَنهم سأَلوا التوبة مجملاً. ولو كان سبق منهم شيء علموا به وعرفوه لذكروه؛ فدل سؤالهم التوبة مجملاً على أَن العبد مسئول عن زلات لم يتعمدها.
وقوله: { رَبَّنَا وَٱبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ }.
يحتمل وجوهاً:
يحتمل { رَسُولاً مِّنْهُمْ }: من المسلمين: لأَنه أَخبر أَن عهده لا يناله الظالم.
ويحتمل { رَسُولاً مِّنْهُمْ }: من جنسهم، من البشر؛ لأَنه أَقرب إلى المعرفة والصدق ممن كان من غير جنسهم، كقوله تعالى:
{ وَلَوْ جَعَلْنَٰهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَٰهُ رَجُلاً... } الآية [الأنعام: 9].
ويحتمل { رَسُولاً مِّنْهُمْ }: أي من قومهم، ومن جنسهم، وبلسانهم، لا من غيرهم، ولا بغير لسانهم - والله أعلم - كقوله:
{ لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ } [التوبة: 128].
وقوله: { يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَٰتِكَ }.
قيل: الآيات هي الحجج.
وقيل: الآيات هي الدين.
ويحتمل: يدعوهم إلى توحيدك، والله أعلم.
وقوله: { وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَٰبَ }.
يعني القرآن: ما أَمرهم به، ونهاهم عنه، ونحو ذلك.
وقوله: { وَٱلْحِكْمَةَ }.
قيل: الفقه، يقول: يعلمهم الكتاب وما فيه من الفقه.
وقيل: الحكمة ما فيه من الأَحكام من الحلال والحرام.
وقيل: الحكمة: هي السنة ها هنا.
وقيل: الحكمة: هي الإصابة. وبعض هذا قريب من بعض، وبالله التوفيق.
وقال الحسن: الحكمة: هي القرآن؛ أَعاد القول به. يعني تكراراً.
وقال ابن عباس - رضي الله عنه -: الحكمة: الفقه.
وقوله: { وَيُزَكِّيهِمْ }.
قال ابن عباس - رضي الله عنه : يأْخذ زكاة أَموالهم - فذلك يزكيهم - كقوله:
{ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } [التوبة: 103].
وقيل: يزكيهم إلى ما به زكاة أَنفسهم.
وقيل: يزكيهم بعمل الصالح.
فإن قال لنا قائل ممن ينتحل مذهب الاعتزال: أَليس الله - عز وجل - أَضاف التزكية والهداية إلى رسوله، ولم يكن منه - حقيقة - فعل التزكية والهداية، ولا خلق ذلك منه - كيف لا قلتم أيضاً - فيما أَضاف ذلك إلى نفسه: أَن ليس فيه منه خلق ذلك، ولا حقيقة سوى الدعاء والبيان، على ما لم يكن في إضافة ذلك إلى رسول الله سوى الدعاء والبيان؟!
قيل: كذلك على ما قلتم: أَنه أَضاف ذلك إلى رسوله بقوله:
{ وَتُزَكِّيهِمْ } [التوبة: 103]، وبقوله: { وَإِنَّكَ لَتَهْدِيۤ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [الشورى: 52]، وقوله: { وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } [الرعد: 7]، غير أَنه جعل إلى نفسه فضْلَ هدايةٍ، لم يجعل ذلك لرسوله صلى الله عليه وسلم وأَثبت زيادة تزكيةٍ، لم يثبت ذلك لرسوله عليه السلام؛ كقوله: { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ } [القصص: 56]، وكقوله: { وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَىٰ مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ } [النور: 21].
فدل إضافة تلك الزيادة إلى نفسه على: أَنَّ له فضلَ فعلٍ، ليس ذلك لرسوله، وهو خلق فعل الاهتداء، وفعل التزكية، وبالله التوفيق.
وبعد: فإن الرسول لا يحتمل أَن يملك قدرة فعل أَحد يُقدره عليه لو أَراده بما أَقدرهم الله على الفعل، حتى قدَروا؛ فجاز أَن يكون له عليه قدرة.
وفي تحقيقها جواز خلق ذلك له، ومثله في رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحتمل، ولا قوة إلا بالله.
وقوله: { إِنَّكَ أَنتَ ٱلعَزِيزُ ٱلحَكِيمُ }.
أي: لا شيء يعجزه، والعزيز بذاته، وكل شيء دونَه غيرُ عزيز، ذليل.
وقيل: العزيز: المنيع.
وقيل: العزيز: المنتقم من أَعدائه.
والحكيم: هو المصيب في فعله. والحكيمُ في أَمره ونهيه. والحكيم هو الذي أَحكم كل شيء جعله دليلاً على وحدانيته.
ثم ذكر بعض المفسرين علل المناسك فقال: سميت العرفات عرفات؛ لما قيل له: عرَفتَ,. ومِنىً؛ لما قيل له: تمنَّهُ. ورَمى الجمار؛ لما استقبل لإبراهيم الشيطان فرمى.
فهذه العلل لا تطمئن بها القلوب وتنفر عنها الطباع، أَلا ترى أَنه ذكر في قصة آدم فعل ذلك جملةً؛ فزال المعنى الذي ذكر في إِبراهيم عليه السلام؟!
ثم قد ذكر في الخبر أَن الملائكة قالت لآدم: حججناها قبلك بأَلفي عام؛ فثبت أَنهم قد فعلوا هذا كله.
ثم يمكن نصب الحكمة فيه من طريق العقل، وهو أَن الحج قصد لزيارة ذلك المكان؛ فأَمر بمختلف الأَفعال الواقع بها الزيارة.
كالصلاة: إنها الخضوع لعينة؛ ولذلك أَمر فيها بإحضار الأَفعال المختلفة من حال الخضوع.
ثم المرءُ قد يخضع مرة بالقيام، ومرة بالركوع، ومرة بالسجود. أَمر بإحضار مختلف الأَفعال التي فيها الزورة.
غير أَن الصلاة تخالف الحج؛ فلأَن أَفعالها فعل المعاش أَمر فيها بإِحضار حالة تذكره الخضوع، والوقوف لله، مفرقاً بين تلك الحالة وحالة المعاش؛ ولهذا تُقْضَى في كل مكان.
ثم أَفعال الحج في ظاهرها إلى أَفعال المعاش، وما إليه وَقع القصد - لا عينها - غير أن فيه تكلف المعاش؛ ولهذا ما لا يقضى في كل مكان.