التفاسير

< >
عرض

يَآأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱسْتَعِينُواْ بِٱلصَّبْرِ وَٱلصَّلاَةِ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ
١٥٣
وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ
١٥٤
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ ٱلْخَوْفِ وَٱلْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ ٱلأَمَوَالِ وَٱلأَنفُسِ وَٱلثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ ٱلصَّابِرِينَ
١٥٥
ٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا للَّهِ وَإِنَّـآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ
١٥٦
أُولَـٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُهْتَدُونَ
١٥٧
-البقرة

تأويلات أهل السنة

قوله: { يَآأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱسْتَعِينُواْ بِٱلصَّبْرِ وَٱلصَّلاَةِ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ }.
قد ذكرنا تأويل هذه الآية فيما تقدم.
وقوله: { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ }.
قيل فيه بوجوه:
قيل: إن العرب كانت تعرف الموتى من انقطع ذكره، إذا لم يبق له أحد يذكر به من نحو الولد وغيره فيقولون عند موت هؤلاء: إن ذكرهم قد انقطع، فأخبر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أنهم مذكورون في ملأ الملائكة.
وقال الحسن: إن أرواح المؤمنين تعرض على الجنان، وتعرض أرواح الكفرة على النيران، فيكون لأرواح الشهداء فضل لذة ما لا يكون لغيرهم من الأرواح. ويكون لأرواح آل فرعون فضل ألم بعرضها على النار ما لا يكون لغيرهم من الكفرة ذلك، فاستوجبوا اسم الحياة بفضل لذة ما يجدون من اللذة على غيرهم.
أخبر عز وجل: أن أرواح الشهداء في الغيب تتلذذ مثل تلذذهم على ما كانت عليه في الأجساد في دنياهم هذه.
وقيل: إن الشهيد حي عند ربه، كما عرف في اللغة: أن الشهيد هو الحاضر، أخبر عز وجل أنهم حضور عند ربهم وإن غابوا عنكم.
وقيل: إن الحياة والموت على ضروب:
فمنها: الحياة الطبيعية، والحياة العرضية، والموت الطبيعي، والموت العرضي.
فالحياة العرضية هي اليقظة، وهي الحياة بالدين، كقوله:
{ أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَٰهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي ٱلنَّاسِ } [الأنعام: 122]، وكقوله في الحياة بالعلم، إنه ميت بالجهل.
والحياة الطبيعية: هي التي بها قوام النفس.
والموت الطبيعي: هو الذي به فوات النفس.
والشهادة: هي التي بها اكتساب الحياة في الآخرة سمى به { حَيَٰوةٌ }. والله أعلم.
ويحتمل قوله: { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتٌ }، أي لا تقولوا { أَمْوَاتٌ }، لما ينفر طبعكم عن الموت، ولكن قولوا { أَحْيَاءٌ } لترغب أنفسكم في الجهاد، إذ هو يرد بحياة الدنيا والدين، مع ما يحتمل أن يكون الله بفضله يجعل لهم ما كان لهم لو كانوا أحياء يعملون. فكأنهم أحياء فيما جعلت لهم حياة الدنيا. والله أعلم.
وقوله: { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ ٱلْخَوْفِ وَٱلْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ ٱلأَمَوَالِ وَٱلأَنفُسِ وَٱلثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ ٱلصَّابِرِينَ }.
وقوله: { ٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا للَّهِ وَإِنَّـآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ }.
وقوله: { أُولَـٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُهْتَدُونَ }
قوله: { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ ٱلْخَوْفِ وَٱلْجُوعِ } وما ذكر فيه تذكير من الله عز وجل للخلق؛ لئلا يجزعوا على ما يصيبهم من أنواع ما ذكر، من المصائب.
وفي كل نوع ما ذكر من المصائب إضمار "شيء"، من نحو { بِشَيْءٍ مِّنَ ٱلْخَوْفِ } و { بِشَيْءٍ مِّنَ ٱلْخَوْفِ وَٱلْجُوعِ } والله أعلم؛ لأن الله عز وجل أخبر في غير آية من القرآن: أنه خلقهم للموت والفناء، وأن ما أعطاهم من الدنيا والزينة فيها كله للفناء والفوات بقوله:
{ خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } [الملك: 2] وقال: { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى ٱلأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً * وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً } [الكهف: 7-8]. أخبر أن الدنيا وزينتها للفناء، فمن عرف أن ذلك كله [لما ذكرنا يحق عليه ما يصيبه من الأمراض والأوجاع والنقص في الأموال والأنفس وما ذكر إذ ذلك كله] دون ما ذكر، وليعلموا أن ما أعطاهم من الحياة والصحة والسلامة لم يكن أعطاهم لحق لهم، بل للإفضال والإحسان، وقد جعل ذلك لمدة لا للأبد، فكأنها في غير تلك المدة لغيرهم لا لهم، فعرفوا به منته لوقت وحقه وقت الأخذ.
ثم يحتمل ما ذكر من الخوف وجهين:
على جهة العبادة من نحو الأمر بمجاهدة العدو والقتال معه.
ويحتمل لا على جهة العبادة، وكذلك الجوع يحتمل الجوع الذي فيه عبادة، وهو الصوم. ويحتمل ما يصيبهم من المجاعة في القحط ما أصاب أهل مكة سنين، وكذلك قوله: { وَنَقْصٍ مِّنَ ٱلأَمَوَالِ وَٱلأَنفُسِ وَٱلثَّمَرَاتِ }، يحتمل: { وَنَقْصٍ مِّنَ ٱلأَمَوَالِ } يمتحنهم بأداء الزكاة والصدقة. ويحتمل الهلاك بنفسها، وكذلك { وَٱلأَنفُسِ } يحتمل الصرف على الوجهين اللذين ذكرتهما. وكذلك { وَٱلثَّمَرَاتِ }.
ثم لا يحتمل خصوص الامتحان بما ذكر دون غيره؛ لأنهم كلهم عبيده، له أن يمتحنهم بأجمعهم بجميع أنواع المحن، لكن الوجه فيه ما ذكرنا أنه لما عرفهم أن كل ذلك إنما خلق للفناء، فالبعض منه كذلك، ليخف ذلك عليهم. والله أعلم.
ثم أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبشر الذين صبروا على المصائب التي امتحنهم بها عز وجل، ولم يجزعوا عليها، وقالوا: { إِنَّا للَّهِ وَإِنَّـآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ }. فيه الإقرار بوحدانيته عز وجل، وبالبعث بعد الموت.
وقيل: إن هذا الحرف خص به هذه الأمة دون غيرها من الأمم؛ لأنه لم يذكر هذا الحرف عن الأمم السالفة؛ ألا ترى أن يعقوب - عليه السلام - على كثرة ما أصابه من المحن والمصائب والحزن على يوسف لم يذكر هذا الحرف عنه، ولكن قال:
{ يَٰأَسَفَىٰ عَلَى يُوسُفَ } [يوسف: 84] ولو كان لهم هذا لظهر منهم على ما ظهر غيره؛ فدل أنه مخصوص لهذه الأمة. والله أعلم.
وروي عن ابن عباس، رضي الله تعالى عنه، أنه قال:
"من استرجع عند المصيبة جبر الله مصيبته، وأحسن عقباه، وجعل له خلفاً صالحاً يرضى به" .
ثم الصبر: هو حبس النفس عن الجزع على ما يفوت؛ إذ هو كله لله عز وجل مستعار عند الخلق، والجزع على فوت ما لغيره محال؛ ألا ترى إلى قوله عز وجل: { لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } [الحديد: 23]. نهانا أن نحزن على ما يفوت عنا؛ إذ هو في الحقيقة ليس لنا، وأن نفرح بما أتانا؛ إذ هو في الحقيقة لغيرها. والله الموفق.
وقوله: { بِشَيْءٍ مِّنَ ٱلْخَوْفِ وَٱلْجُوعِ }، فهو على إضمار "الشيء" في كل حرف، إذ هو بحق العطف على ما تقدم؛ فكأنه قال: بشيء من الخوف، وبشيء من الجوع. ولا قوة إلا بالله.
ثم يتوجه ما أخبر من البلوى إلى وجهين:
أحدهما: أن يبلوه بعبادة فيها ما ذكر.
والثاني: أن يبلوه بالذي ذكر لا على عبادة يدفع إليه؛ وذلك نحو أن يبلوه بالجهاد، وفيه الخوف، أو يبلوه بأنواع أوصاب تحل به، فيخاف عند ذلك على نفسه.
والجوع: أن يبلوه بالصيام الذي فيه ذلك، أو بقلّة الإتراب وغلاء الأسعار.
ونقص من الأموال: يكون في الجهاد، والحج، والزكوات، والمؤن المجعولة في الأموال، ويكون في الخسران في التجارات، وما يلحق أنواع المكاسب من الحوائج.
والأنفس: يكون بالجهاد، ومحاربة الأعداء، ويكون بأنواع الأمراض.
والثمرات: ترجع إلى قلة الإنزال، وقصور الأيدي عما به ينال، ومفارقة الأوطان للجهاد والحج ونحو ذلك مما فيه.
ثم الله سبحانه وتعالى أخبر أنه يبلوهم بشيء مما ذكرنا، لا بالكل. دل أنه - عز وجل - لم يقطع عليهم كل المخارج، بل جعل لهم في كل نوع من ذلك مسلكاً وإن كان في ذلك نقصاً وضرراً، وجائز بلوغ ذلك تمام ما في كل نوع، لكنه بلطفه قرب إليهم فيما خوفهم وجه الرجاء، وعلى ذلك جميع الفعال ذي المحن أنها مقرونة بالخوف والرجاء، وكذلك هم في أنفسهم. ولا قوة إلا بالله.
ثم إن الله دلهم على ما عليهم من الحق فيما أخبر أنه يبلوهم به بحرف البشارة والوعد الجزيل الذي يسهل بمثله البذل لمن لا حق له، فكيف ومن له كليته ذلك؛ فقال الله تعالى: { وَبَشِّرِ ٱلصَّابِرِينَ }. ثم وصف الصابرين فقال: { ٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا للَّهِ وَإِنَّـآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } هدى الله عبده إلى الاعتماد بحرف التوحيد عند المصيبة؛ إذ جعل التوحيد داخلاً في ذلك الحرف.
وفيه التبري من أن يكون له في حكم الله تدبيراً ورأى، وبذل النفس له وما للنفس ليحكم فيها بما شاء.
وقوله: { إِنَّا للَّهِ }، كأنه قال: ما لنا فيما ليس لنا حكم ولا تدبير، وأبداً يكون الحكم في كل ملك لمن يملكه. وبمثل هذا يقدر على كف الأنفس عن الجزع وحملها على ما يكره.
وقوله: { وَإِنَّـآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ }، فكأنه يقول إذ إليه مرجعنا، لا فرق أن نرجع إليه جملة أو بالتفاريق، بل في التفريق علينا الإبقاء وفضل القبول منا البعض دون الكل.
وفي ذلك تذكير النفس عاقبتها ليكون كمن تقدم شيئاً مما به قوامه إلى مكان قراره، وقد انتهى الخبر بالبلوغ.
فمعلوم أن ذلك أطيب لنفسه، وأسكن بقلبه من أن يكون جميع ذلك معه. وبالله التوفيق. وجملة ذلك أن هذه الدنيا أنشئت لا لها ولكن ليكتسب بها الآخرة، وجعل كل شيء منها زائلاً فانيا لينال به الدائم الباقي.
فهذا لأن حق كل فيما يصيبه أن يرى الذي أنشىء وما له يسعى، فيعلم أنه بلغ في تجارته غايتها من الربح، وأنه باع الشيء الفاني بالباقي، مع ما كان كل شيء من الدنيا مأوى بآفات الفناء والهلاك، فأبدل المأوى بالذي لا آفة فيه. فيجب في التدبير ألا يعد ذا مصيبة، بل هو أعلى السرور وأرفع الربح، لكن البشر جبل على طباع نافرة عن كل ألم جاهل بالعواقب التي لعلها يرغب فيها كل أحد، لا أن ينفر عنها. والله المستعان.
فإن قال قائل: هذا الاسترجاع خص به هذه الأمة؛ إذ قال يعقوب:
{ يَٰأَسَفَىٰ عَلَى يُوسُفَ } [يوسف: 84] الآية. فهو والله أعلم، إن كان فهو موضع التلقين والتعليم أن قولوا ذلك، لا أن هذا المعنى مما يحتمل أن يكون يعقوب لا يحققه، بل حققه بقوله: { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى ٱللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ } [يوسف: 83] وقوله: { إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى ٱللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [يوسف: 86].
{ { يٰبَنِيَّ ٱذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْكَافِرُونَ } [يوسف: 87] وهو مع ذلك قد كان بما أخبره يوسف، وبما أوحى إليه أنه قد علم أنه لم يهلك بعد، ولم يوجد منه إلى حيث يرجع هو إليه من البعث بعد الموت. ولا قوة إلا بالله.
وقوله: { أُولَـٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ }، قيل: الصلاة من الله عز وجل يحتمل وجوهاً:
يحتمل: الرحمة والمغفرة.
ويحتمل: الصلاة منه - مباهاته الملائكة؛ جواباً لهم لما قالو:
{ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ } [البقرة: 30]، كيف قلتم هذا؟ وفيهم من يقول كذا.
وقيل: الصلاة منه: الثناء عليهم. وأي كرامة تبلغ كرامة ثناء الله عليهم.
[وقوله { وَرَحْمَةٌ } قال بعضهم الرحمة والصلاة واحد وهو على التكرار، وقيل: الرحمة: النعمة وهي الجنة].
وقوله: { وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُهْتَدُونَ }.
شهد الله عز وجل بالاهتداء لمن فوض أمره إلى الله تعالى، ويسلم لقضائه وتقديره السابق وهو كائن لا محالة؛ كقوله:
{ مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِيۤ أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَٰبٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ } [الحديد: 22].
قال الشيخ -رحمه الله -: قوله: { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ ٱلْخَوْفِ } يبلوهم بالذي كان به عالماً ليكون به ما علمه يكون بالأمر والنهي بحق المحنة، وهو كما يستخبر عما هو به خبير، مع كانت المحنة في الشاهد لاستخراج الخفيات يكون بالأمر والنهي، فاستعملت في الأمر والنهي، وإن كان لا يخفى عليه شيء، بل هو كما قال:
{ عَٰلِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ } [الأنعام: 73]. ثم له جعل الغيب شاهداً، فجرت به المحنة، ليعلم ما قد علمه غائباً شاهداً، إذ هو موصوف بذلك في الأزل. وبالله التوفيق.
ثم كان العبد بجميع ما هو له من السعة والسلامة فهو لله في الحقيقة، لكنه بفضله وكرمه يعامل عبيده معاملة من ليس له ما كان يطلب منه ويأمره به، فقال:
{ إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ٱلْجَنَّةَ } [التوبة: 111]، وقال: { وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَٰوةَ وَأَقْرِضُواْ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً } [المزمل: 20] ليكون ذلك أطيب لأنفسهم وأرغب لهم في البذل لما طلب منهم، وإن كان له أخذ ذلك منهم بلا شيء يعدهم عليه، فعلى ذلك قال - عز وجل -: { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ } بالذي ذكر، يدلهم على أن ذلك منه؛ ليعلموا أنه فيما كان وعد الاشتراء منهم، وطلب منهم البذل بجزيل العوض لهم، فيخف ذلك عليهم وتطيب به أنفسهم، وأن يكون يذكر أولا أنه يبتليهم بالذي ذكر ليطيبوا أنفسهم به، ولا يتكلفوا ذلك من قلوبهم، فيضجرون عند الابتلاء بذلك، وكذا كل خلاف للطبع إذا كان عن رياضته إياه وإشعاره به قبل النزول، كان ذلك أيسر عليه من أن يأتيه ذلك من حيث لم يعلم به، مع ما كان في ذلك خطر بالقلوب نسبة مثله إلى الخلق والتشاؤم بهم، فقدم الله في ذلك البيان ليعلموا أن ذلك بالذي جرى به الوعد، وذلك كقوله: { مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِيۤ أَنفُسِكُمْ } [الحديد: 22]، الآية، فبين أن ذلك مكتوب عليهم لتطيب الأنفس وتطمئن القلوب عليه.
والأصل في هذا: أن جميع ما ذكر البلوى به في التحقيق ليس بحق للعبد، بل هو امتنان من الله وإفضال منه، وأنه لم ينشئه ولا أحياه نشوء الأبدية ولا حياة السرمدية، فعلى ذلك جميع ما أنعم عليه، وإذا سكن العبد على هذا الذي جبل عليه أمر نفسه وما ملك عليه سهل عليه ذهابه، وطابت به نفسه، مع ما يعلم أنه أنعم عليه لوقت، ثم هو نعمة على غيره ولغيره، فيكون المأخوذ منه في الحقيقة لغيره، وإن كان الله عز وجل ذكره في الابتلاء والمصائب، فهو على ما أخبرت من كرمه فيما يعامل عبيده عز وجل. ولا قوة إلا بالله.
ثم بين الله عز وجل ما يكرمهم؛ إذا خضعوا لحكمه ورضوا لقضائه، مع ما دل عليه أيضاً بقوله:
{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ... } الآية [الأحزاب: 36] ، فقال: { أُولَـٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُهْتَدُونَ }، وقال في موضع آخر: { إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [الزمر: 10]، فكان من فضله أن سمى ما وعدهم على الصبر أجراً، ومعلوم أن كان ذلك حقّاً لله عليهم، بالسابق من نعمه، مع عظم مننه، لكنه سمى ما أفضل به أجراً له، مع ما كان العبد يعمل لنفسه، ولا يحتمل أن يستحق به الأجر لولا الإنعام منه جل ثناؤه.
ثم وعد له في حال فعله بخصال ثلاثة:
إحداها: أن عليه صلاته. وصلاته تحتمل مباهاته الملائكة تعظيماً لما بذل عبده له، وخضع لحكمه عليه، وهو أن قالوا:
{ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ... } الآية [البقرة: 30]، فيخبرهم أن هذا قد سبح حضرة المصيبة، وخضع لحكمه عليه فيها بالاسترجاع.
ويحتمل: مغفرته وإيجاب الثواب الجزيل له بقوله:
{ وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } [آل عمران: 157] { وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِٱلَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَفَضْلٍ } [آل عمران: 169-171] وقوله: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [الصف: 10] إلى ما ذكر من الإفضال. والله الموفق.
ويحتمل ثناؤه ذكرهم في أخبار عباده، كقوله: { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ } [البقرة: 154]، وقوله:
{ وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتاً... } الآية [آل عمران: 169]. مع ما يرجى له من زيادة الهدى في الدنيا بقوله: { وَٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ ٱللَّهَ لَمَعَ ٱلْمُحْسِنِينَ } [العنكبوت: 69]، وقوله: { وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ } [محمد: 17].
والثانية: الرحمة. قد يرجع [إلى ما ذكرنا، وجائز أن تكون] رحمته هي التي أكرمته بذلك الاسترجاع.
ويحتمل: النعمة، أو رحمة يلقيها في قلوب العباد حتى يحبونه بها، أو خلف يعطيه في الدنيا.
والثالثة: ثم شهد الله لهم بالهداية وذلك يحتمل: أن يكونوا اهتدوا لدينه، ولما من عليهم في المصيبة من التسليم لله.
ويحتمل: الاهتداء لطريق الجنة على ما بينه أنه وعد الشهداء. ولا قوة إلا بالله.
وقوله:
{ مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِٱللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } [التغابن: 11] للاسترجاع. وقد روي عن نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لم يعط الاسترجاع من كان قبلكم" ، فهو على ما بينا من القول به، وأما حق التسليم فقد كان في توقيت وقت الصبر، ثم روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الصبر عند الصدمة الأولى" . وقد روي عن أنس، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: "ما من مصيبة وإن طال عهدها فيجدد لها العبد بالاسترجاع إلا جدد الله له ثوابها كلما استرجع" .
فلعل هذا لمن أحسن القبول وقت المصيبة، أو رجع عما كان فرط منه وتاب.
والأول فى غير ذلك. والله الموفق.
ثم في الآية وجوه من المعتبر:
أحدها: ما يلزم العبد من المصائب، وما يستوجبه إذا وفى بما عليه.
والثاني: في ذلك بيان أن الصحة، والأمن، وحفظ المقدر لأحد ليس بلازم في الحكمة، لكنها إنعام من الله، وله الابتلاء بأخذه؛ إذ لو كان عليه الأول لم يكن يلزمه الشكر في ذلك. والله الموفق.
والثالث: أن الله تعالى ذكر أنه بَلاَ العباد بالذي ذكر، ومعلوم أن ذلك يجري على أيدي العباد بهم، فأضاف ذلك إلى نفسه. ثبت أن له في ذلك تدبيراً حتى يبلوهم به. والله أعلم.
وفيه أن الله تعالى قال: ونبلوكم بكذا، ولم يكن كان يومئذ ثم كان ذلك، وكذلك قوله:
{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم... } الآية [البقرة: 214]، ثم بلوا بذلك ليعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علم بذلك بالله، وتبين أيضاً أنه بموضع البشارة بما يعظم على الخلق ويقتضي القرار في الطبع، لم يحتمل أن يجيزهم به لولا الأمر به وطاعة الله في ذلك.
وأيضاً أنه ذكر الخوف فيعلم أن الخوف من الخلق لا يوهن الاعتقاد، وكذلك قوله:
{ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ } [النساء: 101] فعلى ذلك الرجاء والطمع وجملته أن أمر الدنيا محمول كله على أسباب، لا أنها توجب ولكن الله تعالى أجرى أحكامه عليها، فيكون الخوف والرجاء في التحقيق من الله تعالى أن يكون جعل ذلك سبباً. والله الموفق.
وأيضاً: أن يعلم أن المصائب في الدنيا ليست كلها عقيب الآثام، بل لله تعالى الابتلاء بالحسنات والسيئات، أيضاً لا يدل على وهن عقد المصائب، ولا زلة بلى بها. وعلى ذلك أمر الأنبياء والرسل، عليهم السلام، ولكن على وجهين:
أحدهما: أن يكون لله تعالى يريد أن يحمى وليه لذات الدنيا لينالها موفرة في الآخرة.
والثاني: أن يكون لهم بعده زلات لا يسلم عنها البشر، فيبتلوا، فيبعثوا يوم القيامة ولا زلة بقيت مما يجزيهم تلك. ولا قوة إلا بالله. وإنما كذلك جعلت لمحنة.