التفاسير

< >
عرض

وَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلرَّحْمَـٰنُ ٱلرَّحِيمُ
١٦٣
إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱخْتِلاَفِ ٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱلْفُلْكِ ٱلَّتِي تَجْرِي فِي ٱلْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ وَمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ ٱلرِّيَاحِ وَٱلسَّحَابِ ٱلْمُسَخَّرِ بَيْنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
١٦٤
-البقرة

تأويلات أهل السنة

قوله: { وَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلرَّحْمَـٰنُ ٱلرَّحِيمُ }.
ذكر هذا الاسم؛ لأن كل معبود يعبد عند العرب يسمون إلهاً؛ كقوله:
{ فَرَاغَ إِلَىٰ آلِهَتِهِمْ } [الصافات: 91]، وكقوله: { أَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ } [الفرقان: 43]؛ لهذا ذكر إن إلهكم الذي يستحق الألوهية والعبادة واحد بذاته، لا واحد من جهة العدد بالخلق ذي أعداد وأزواج وأشكال، بل واحد بذاته وبجلاله وعظمته وارتفاعه وتوحده عن شبه الخلق وجميع معايبهم. يقال: فلان واحد زمانه. يراد لارتفاع أمره وعلو مرتبته، لا بحيث العدد، إذ بحيث العدد مثله كثير.
وقوله: { وَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ }، فيه إثبات إله واحد، وفي قوله: { لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } نفى غيره من الآلهة.
فإن قيل: لم كان هذا دليلاً؟ وهو في الظاهر دعوى.
قيل له: دليل وحدانيته في قوله:
{ إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱخْتِلاَفِ ٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱلْفُلْكِ ٱلَّتِي تَجْرِي فِي ٱلْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ وَمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ ٱلرِّيَاحِ وَٱلسَّحَابِ ٱلْمُسَخَّرِ بَيْنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }.
خلق السماوات وجعل فيها منافع، وخلق الأرض وجعل فيها منافع للخلق، ثم جعل منافع السماء متصلة بمنافع الأرض لبعد ما بينهما؛ إذ لا منفعة للخلق في منافع إحداهما إلا باتصال منافع الأخرى بها من نحو ما جعل من معرفة الطرف في الأرض بالكواكب، وإنضاج الأعناب والثمار وينعها بالشمس والقمر، وجعل إحياء الأرض وإخراج ما فيها من النبات من المأكول والمشروب والملبوس بالأمطار؛ فدل اتصال منافع أحدهما بالآخر وتعلقها به على أن منشئهما واحد؛ لأنه لو كان من اثنين لكان إذا قطع هذا وصل الآخر، وإذا وصل هذا قطع الآخر. فإذ لم يكن، ولكنه اتصل، دل أنه فعل واحد، فهو ينقض على الثنوية والزنادقة قولهم.
وكذلك يدل اختلاف الليل والنهار على أن خالقهما واحد؛ لأنه لو كان اثنين لكان إذا أتى هذا بالليل منع الآخر بالنهار، وإذا أتى أحدهما بالنهار منع الآخر بالليل.
وفيه ذهاب عيش الخلق، وفي ذهابه تفانيهم وفسادهم. فدل أنه واحد.
والثاني: أنه جعل للخلق في الليل والنهار منافعاً، وجعل بعضها متصلة ببعض متعلقة مع تضادهما، كقوله:
{ وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [القصص: 73]. فدل اتصال منافع أحدهما بالآخر مع اختلافهما وتضادهما أن محدثهما واحد.
وفيه دلالة حدوث العالم؛ لما ذكرنا من تغييرها وزوالها من حال إلى حال. [فدل تغييرها وزوالها على إنما حدث زوال مثل هذه الأشياء] بابتدائها وعجزها على قدرة مثلها على أن لها محدثاً.
والثاني: أن كل واحد منهما؛ أعنى الليل والنهار، يصير بمجيء الآخر مغلوباً، فلو لا أن كان ثم لغير فيه تدبير، وإلا ما احتمل أن يصير مغلوباً بعد ما كان غالباً، فدل أن لهما محدثاً، وأنه واحد.
فيه دلالة البعث والحياة بعد الموت؛ لأن الليل يأتي على النهار فيتلفه ويذهب به حتى لا يبقى فيه من أثر النهار شيء، وكذلك النهار يأتي على الليل فيتلفه حتى لا يبقى من أثر الليل شيء. ثم وجد بعد ذلك كل واحد منهما على ما وجد في النشوء من غير نقصان ولا تفاوت. فدل أنه قادر على إنشاء ما أماته وأتلفه، وإن لم يبق له أثر، على ما قدر من إيجاد ما أتلف، وإنشاء ما أذهب من الليل بالنهار، ومن النهار بالليل، وإن لم يبق له أثر.
وقوله: { وَٱخْتِلاَفِ ٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ }، وقيل: اختلافهما لما جعل أحدهما مظلماً والآخر مضيئاً.
وقيل: اختلافهما لنقصانهما وزيادتهما، إذ ما ينتقص من أحدهما يزداد في الآخر، فدل انتقاصهما وزيادتهما على أن منشئهما واحد؛ لأنه لو كان من اثنين لمنع كل واحد منهما صاحبه من الزيادة والنقصان، وبالله التوفيق، ولتغير التدبير، ولا يجرى كل عام الأمر فيه على ما جرى عليه في العام الأول.
وقوله: { وَٱلْفُلْكِ ٱلَّتِي تَجْرِي فِي ٱلْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ } فالآية تنقض على المعتزلة قولهم؛ لأنه عز وجل جعل الفلك التي تجري في البحر من آياته. والمعتزلة جعلوها من آيات البحارين؛ لأن الفلك قبل أن يعمل فيها وينحت لا تسمى فلكاً؛ ولكن يسمى خشباً، فلو لم يكن عمل العباد وفعلهم فيها من مصنوعه ومخلوقه، لزال به موضع الحجاج وتسميته باسم الآيات؛ فدل أن له فيها صنعاً وتقديراً حيث صار من عجيب آياته.
ثم فيه أعجوبة، وهو أن الطباع تنفر من مغافصة البحر بالاطلاع على أمواجه وأهواله، وأراهم من عظم آياته مما يجريه في البحر على الحفظ والأمر الواقع لهم؛ فدل أنه من عند قادر لطيف خبير.
وفيه أيضاً دلالة وحدانيته؛ وذلك أن أهل البر لهم الانتفاع بأهل البحر، ولأهل البحر الانتفاع بأهل البر على بعد ما بينهما وتضادهما؛ فدل أن محدثهما واحد.
ثم فيه دلالة إباحة التجارات مع الخطرات على احتمال المشقات وتحمل المؤنات.
وفي ذلك دلالة النبوة؛ لأن يعلم أن اتخاذ السفن وبما فيه من المنافع لا يقوم له تدبير البشر، ثبت أنه علم ذلك ممن علم جواهر الأشياء، وما يصلح الأشياء وما لا يصلح، وفي الحاجة إلى ذلك إيجاب القول بالرسالة للبشر.
وقوله: { وَمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ ٱلأَرْضَ }، وفيه دلالة فضل العلوي على السفلي؛ لأن ما ينزل من السماء من الماء ينزل عذباً، وما يخرج من الأرض يخرج مختلفاً: منه ما هو عذب ومنه ما هو أجاج، ومنه ما هو مر. فدل ذا [على] فضل العلوي على السفلي.
وقوله: { فَأَحْيَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا }، قد ذكرنا هذا أن فيه دلالة البعث.
وقوله: { وَبَثَّ فِيهَا }، قيل: خلق.
وقيل: بسط.
وقيل: فرق.
{ مِن كُلِّ دَآبَّةٍ }.
قيل: جعل فيها من كل جوهر الدابة.
منها: ما جعل مأكولاً منتفعاً بها من كل أنواع المنافع؛ ليدلهم وليرغبهم على ما وعد لهم في الجنة.
ومنها: ما جعل غير مأكولة ولا منتفع بها، بل جعلها أعداء لهم ليدلهم على تحذير ما أوعدوا وحذروا في النار.
وقوله: { وَتَصْرِيفِ ٱلرِّيَاحِ وَٱلسَّحَابِ ٱلْمُسَخَّرِ بَيْنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ } يحتمل وجهين:
يحتمل: تصرفها مرة للعذاب، ومرة للمنافع؛ لأنه جعل فيها منافع كثيرة للخلق: بها تجري السفن في البحار، وبها تنشر السحاب في الهواء، وبها تنتفي الأشياء، وبها يتميز ما للخلق مما للدواب مما يكثر ذلك. ثم يعلم من عظم لطفه أنه جعل الهواء بحال لا يقر فيها شيء وإن لطف، والسحاب مع غلظه وكثافته جعل الهواء مع لطافتها ورقتها مقرّاً للسحاب حتى يعلم أن ليس لغير الله فيه تدبير.
ويحتمل: { وَتَصْرِيفِ ٱلرِّيَاحِ } صرفه إياها مرة صباء، ومرة دبورا، ومرة جنوباً ومرة نسيماً، ومرة يميناً، ومرة شمالاً للمنافع.
ثم فيه دلالة أنها من الأجسام، لا من الأعراض؛ لأنه جل وعز جعلها ماسة مانعة لا صارعة من قام في ناحيتها، وذلك صفة الأجسام، لا صفة الأعراض، لكن لا ترى الأجسام، وكالذرة التي فيها الشمس ترى ولا تمس.
ثم دلهم عز وجل أن الذي سخر السحاب بالرياح التي جعلها في الهواء، وبما فيها من المنافع التي تقدم ذكرها، على أن مدبرهما واحد؛ إذ لو كان التدبير من عند اثنين لأوجب التناقض في التدبير والصنعة، إذ يجعل كل منهما على خلاف ما جعله الآخر، ويتدبر كل منهما لينقض تدبير الآخر.
وفي اتساق التدبير واتقان الصنعة وإحكامها دليل أن إلهكم هو الواحد الذي دعتكم هذه الأشياء إلى الإقرار بوحدانيته، وألزمتكم العبودية له بما أودع له في كل هذه المصنوعات من أدلة وحدانيته وآيات ربوبيته؛ ولهذا قال: { لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } ليعتبروا ما فيها من الأدلة والحجج؛ إذ من لا يعقل جهة الحكمة في خلق هذه الأشياء: مم خلقت، ولماذا خلقت؟ وما الحكمة فيها؟ يستوي عليه خلقها وغير خلقها.
ثم فيه دلالة أن ما خلق من السماوات والأرض، والليل والنهار، والرياح والسحاب، خلقها ليدلهم على وحدانيته وربوبيته، وجعلها مسخرة مذللة لهم. وبالله التوفيق.