التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
١٨٣
أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ
١٨٤
شَهْرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيۤ أُنْزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ ٱلْهُدَىٰ وَٱلْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ ٱلْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
١٨٥
-البقرة

تأويلات أهل السنة

هؤلاء الآيات فيهن فرضية بقوله: { كُتِبَ }، وأيد ذلك الإبدال فيها الإفطار لعذر والأمر بالقضاء، وذلك ليس بشرط الآداب مع الامتنان علينا بقوله عز وجل: { يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ }، أي يريد بكم الإذن لكم في الفطر للعذر، ولو كان غير فرض بدؤه لم يكن الفطر للعذر بموضع الرخصة مع شرطه إكمال العدة في القضاء معنى، وفي ذلك لزوم حفظ المتروك لئلا يدخل التقصير في القضاء. وعلى ذلك إجماع الأمة.
ثم يبين عز وجل أن لم تكن هذه الأمة بمخصوصة في الصيام، بل هي أحق من فيهم استعمل العفو أو الصفح بما خصهم بأن جعلهم
{ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [آل عمران: 110]، وأخبر أنه لم يجعل عليهم { فِي ٱلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } [الحج: 78]، ولا ألزمهم العبادات الشاقة فضلاً منه عليهم وتخصيصًا لهم؛ إذ جعلهم { شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّا } [الحج: 78]، فقال عز وجل: { كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ }. لكن "كما" يحتمل وجهين:
يحتمل: العذر الذي كتب عليهم.
ويحتمل: الفرضية في الجملة لا عين ما فرض عليهم من حيث الإشارة إلى ذلك؛ ولذلك اختلف في (الكاف) في قوله: (كما) - أنها زائدة، أو حقيقية.
ثم اختلف فيما يأتيه ذلك الصيام: فمن الصحابة، رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، من جعله صوم عاشوراء وأيام البيض. ثم استعملوا نسخ ذلك بصيام الشهر.
وقد روي مرفوعًا: "أن صوم شهر رمضان نسخ كل صيام كان".
وروي عن جماعة في أمر صوم عاشوراء:
"أنا كنا نصومه حتى نزل صوم الشهر، فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا به ولا ينهانا" .
وأصل هذا أنه كان يصام، لو كان ابتداء الآية عليه بحق الفرض فأبدل ذلك بصوم الشهر، فارتفعت عنه الفرضية على ما إذا كان يخرج منه بالفداء لم يكن معه فرضية القضاء، وبقى الفصل فيه؛ النسخ لم يكن من حيث نفس الصوم، إذ مثله من النسخ يكون بغير الصوم ولا يصوم. فثبت أنه في نسخ الفرضية. فبقي فيه حق الأدب والفضل، وتبين النسخ الصوم إذ مثله، وإن ذلك غير صوم الشهر الذكر في صوم الشهر بقوله: { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً... } الآية إذ ذلك كان غير موضع الشهر، ولو كان الكل واحداً لكان الذكر في موضع منه كافياً عن الإعادة؛ فثبت أنه على تناسخ الصيام. وقد روي [عن] معاذ، رضي الله تعالى عنه، أنه قال: "أحيل الصيام ثلاثة أحوال" . وبين الخبر على وجهه في ذلك.
ويحتمل: أن يكون المراد منه صوم الشهر، ويكون تكرار الذكر في الرخصة لمكان رفع الفداء، أو لمكان ذكر حق الامتنان بالتيسير، أو التحريض على حفظ العدد. والله الموفق.
وأي ذلك كان؟ فليس بنا حاجة إلى معرفة حقيقة ذلك؛ لأن كيفية الابتداء لم تكلف، وأنما كلفنا ما أبقى فرضه، وهو صيام الشهر الذي لم يختلف في ذلك.
ثم قد خاطب جل ثناؤه بالصيام من قد آمن بقوله: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } فكان فيما خاطب وجهان:
أحدهما: أنه خاطب المؤمنين فعرف المخاطبون أن الاسم يذكرهم؛ إذ لم يذكر عن أحد أنه ظن خروجه من حكم الآية، من حيث لم يكن وفاء بما به يستحق الاسم، وكذلك سائر عبادات الأفعال.
وهذا من أوضح ما يجب به العلم أن الإيمان ليس باسم لجميع القرب، بل تحقيقه يصير أفعال القرب قرباً.
وفيه إذ لم يقل: يأيها الذين، قلتم: نحن مؤمنون به صلى الله تعالى عليه وسلم، دلالة ظاهرة على هجر هذا القول، وأنه من تلقين الشيطان ليبطل عليهم عقدهم، كما يبطل كل عقد يستعمله فيه صاحبه مما أراد إلزامه العقد. والله أعلم.
والثاني: أن الله تعالى خص بالعبادات المؤمنين، وأنهن لا يلزمن غيرهم وإنما يلزم غيرهم فيها الاعتقاد، لا الأفعال التي هي تقوم بالاعتقاد، وليس الاعتقاد بواجب لمكان تلك الأفعال حتى تكون كالأسباب التي توجب بإيجاب أفعال بها تقوم، بل له واجب غيره.
ألا ترى أنه لا يجوز أن يرتفع ذلك عن الخلائق بحال من الأحوال في الدنيا والآخرة مع ارتفاع غير ذلك من العبادات؛ ثبت أن الأمر بذلك بحيث نفسه، لا لغيره.
ثم لا قيام لغيره مع عدمه؛ ثبت أن المعنى الذي به يصير المرء أهلاً لاحتمال فعل العبادات، لذلك لا يجوز الأمر بشيء منها دون ذلك. وله وجهان يحيلان الأمر أيضاً:
أحدهما: العقل، أنه من البعيد أن يكون من لم يقبل العبودية، ولا أقر بالرسالة تؤمر بالعبادة وباتباع الرسول بحق الرسالة، بل يقول: ألزمونا الأول، حتى يكون الثاني، وهو كما أحال الناس المناظرة في الرسل مع منكري الصانع والمرسل، فمثله الأول، بل يجب كل قربة به؛ إذ لا يكون إلا به. والله أعلم.
والثاني: القول بأن من أسلم بعد أوقات العبادات لا يلزمه القضاء. ثم لذلك وجهان من المعتبر:
أحدهما: بأنهم إذا لم يدخلوا في خطاب القضاء، بما ليس معهم فى الحال ما يحتمل معه القضاء، فكذلك خطاب الابتداء؛ إذ هو الذي به لزم القضاء في الإسلام. والله أعلم.
والثاني: أنه لا يلزم القضاء بعد الإسلام، ولا يجوز الابتداء في حاله. فكان ذا تكليف لم يجعل الله للمكلف وجه القيام، وقد تبرأ الله عن هذا الوجه من التكليف بقوله عز وجل:
{ لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } [البقرة: 286]، مع ما بين الله تعالى بقوله: { وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلنَّارِ } [البقرة: 126] أن ما للكافر التمتع فى الدنيا، لا العبادات في ذلك. والله الموفق.
فثتب بالآية التي ذكرنا جميع المؤمنين في الخطاب؛ إذ بين الرخصة لِذِي العذر في الإفطار على وجوب القضاء فإذا لم يحتمل خروج من له العذر في الفطر عن أن يتضمنه الخطاب وجه ألزم القضاء، ثبت أن من لا عذر له داخل فيه ولا يسعه الفطر، وعلى هذا جاء ممن ابتلي بالجماع نهاراً أنه صلى الله عليه وسلم أكد عليه الأمر وألزم الكفارة على غير سؤال عن أحوال سوى ما علم من حاله أنه ليس بمريض ولا مسافر، فكان في ذلك دليل تأكيد الفرض، وفي ذلك إيجاب الكفارة لتعديه على الصيام على حال لا يحتمل الإرخاص، إذ قد كان تلك البلية في الليالي، فلم يُؤمَروا بها من حيث كانوا يملكون إبقاء الرخصة لأنفسهم لولا النوم، وفي ذلك أن فرض الصيام يعم المؤمنين.
ثم قال الله عز وجل: { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ }.
والشهر اسم للكل، ولو كان المراد راجعاً إليه لكان الصيام في غيره؛ لأنه عند هجوم غيره يتم شهوده، ثم يتناقض؛ لأنه قال: { فَلْيَصُمْهُ }، ومحال أن يصوم في غيره ابتداء؛ فرجع التأويل إلى أن من شهد منكم شيئاً من الشهر { فَلْيَصُمْهُ }. فمن اعترضه الجنون فيه فهو ممن قد تضمنه الخطاب، ويجوز في حالة الفرض أيضاً؛ إذ لو شهد ليلة الصيام فعزم على الصيام يجوز له فرضه، فدخل في حق الخطاب، ثم اعترضه في سائر الليالي عذر منع النية، لا عذر منع الصيام، فيقتضيه إذ هو أهل الحكم للآية التي ذكرنا، والقيام بذلك الفرض على ما وصفنا، ففاته بفوت النية كمن كان فوت لعذر المرض والسفر والحيض ونحو ذلك بعد أن علم أنه ممن تضمنه الآية، فعليه قضاؤه.
وعلى ذلك في الصبي والكافر لم يدخلا في معنى الآية، ولا كانا يحتملان في حال قضاء فرض الصيام، فالقضاء في غيره عن ذلك لا يعمل في حق الفرض. لذلك لم يلزم.
وقدى روي عن محمد،رحمه الله ، على هذا: أن من أدرك مجنوناً ثم أفاق في بعض الشهر، أنه لا يقضي ما مضى، على ما ذكرت.
وعن أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه -: أنه يقضي، إن كان في أول الشهر بالغاً، لما أخبرت أن صيامه لم يجز لعدم النية، والصبي والكافر بنفسه، ومن فوته لعدم النية، فهو داخل في حكم فرضه، فعليه القضاء. والله الموفق.
ومن جن الشهر كله لا يقضي لشرط الشهود، وهو لم يشهد شيئاً منه مع إمكان الإسقاط بدليل آخر، وإن كان حق الخطاب في الظاهر قد اقتضاه على مثل المريض الذي لا يصح، والمسافر الذي لا يقيم. والله الموفق.
وفي قوله: { أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ }، دلالة أن ابتداء الآية في غير صوم الشهر؛ إذ صوم الشهر يحفظ بالأهلة لا بالأيام، لكن الله تعالى إذ علم الأمر الظاهر في الخلق أنهم يعدونه بالأيام وإن كان لهم عن ذلك غنى.
وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"الشهر هكذا وهكذا وهكذا بأصابع يديه كلتيهما، وعقد أصبعاً منها في آخر المرات" .
وجاء عن غير واحد أنهم قالوا: "ما كنا نصوم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعة وعشرين أكثر مما نصوم ثلاثين" . فجائز ذكر قوله: { أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ }، يعني يعدها الخلق. والله الموفق.
وقوله: { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }، أي: ما حرم عليكم من أنواع اللذات بكف الأنفس عن الذي به يدعو إليها من الأغذية.
أو { تَتَّقُونَ } نقمة الله في الآخرة، ومخالفته في الفعل في الدنيا. وقد جعل الله جل ثناؤه عباداته أعواناً للمعتادين بها على الكف عن المعاصي، والخلاف لله في الشهوات، فقال:
{ وَٱسْتَعِينُواْ بِٱلصَّبْرِ وَٱلصَّلَٰوةِ } [البقرة: 45]، وقال: { إِنَّ ٱلصَّلاَةَ تَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنْكَرِ } [العنكبوت: 45]، وغير ذلك. والله الموفق.
والأصل: أن العبادات تذكر أصحابها عظم أحوالهم في أوقات فيها من المقام بين يدي الجبار، وتطلعهم على الموعود لهم في الميعاد. وهما أمران عظيمان:
أحدهما: في الزجر بما يعلم من عظم المقام واطلاع الواحد القهار عليه.
والثاني: في الترغيب بما يشعر قلبه من لذيذ الموعد ما يضمحل لديه كل لذة دونه، وتنقطع شهواته التي بينه وبين ما وعد. والله أعلم.
ثم قال: { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ... } الآية، من غير أن ذكر فطراً، فلا أشار إلى ما ذكر من السفر والمرض اللذين جعلا له تأخير الصيام إلى أيام أخر، ولا أشار إلى أعين تلك الأيام.
وكذلك قال مثله فيما كان عرف الوقت لابتداء الصيام بقوله عز وجل: { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهْرَ } على أثر المعرف له بقوله عز وجل: { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ }، لكن الفطر يعرف أنه مضمر فيه بالعقل والسمع:
فأما السمع: فما جاء من الآثار في الإذن بالإفطار للسفر والمرض؛ دل أن في ذكر العدة { مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } إضمار فطر. والله أعلم.
والعقل: أن الله تعالى جعل المرض والسفر سببي الرخص، فلا يجوز أن يصيرا سببي زيادة فرض على ما كان قبل اعتراضهما، على أن قوله: { يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ } دليل أنه لو كان يلزم القضاء مع فرض فعل الصوم لكان ذلك عسراً وحرجاً في الدين، وقد أخبر الله تعالى أنه ما يجعل علينا الحرج في الدين.
وعلى ذلك قال بعض الناس: يلزمهما القضاء إن أفطرا أو لا، محتجّاً بما لم يذكر في القرآن الإفطار، وذكر { فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } كأنه جعل الوقت لهما غير الذي هو لغيرهما.
يؤيد ذلك المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"الصائم فى السفر كالمفطر" ، ومعلم أن على المفطر في الحضر القضاء. فكذلك الصائم في السفر.
ولكن الآية عندنا على الإضمار، وعلى ذلك يجري ذكر الرخص على إثر ذكر الحضر، كقوله عز وجل:
{ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحْمَ ٱلْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ ٱللَّهِ فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ } [البقرة: 173] من غير ذكر الأكل أنه على إباحته.
وقال الله عز وجل: { وَأَتِمُّواْ ٱلْحَجَّ وَٱلْعُمْرَةَ للَّهِ }، ثم قال عز وجل:
{ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ } [البقرة: 196] ولم يذكر منه الإحلال، لكنه معلوم أنه على الشك ما لم يوجد؛ إذ لا يكون العذر سبب الزيادة في الفرض. وكذلك قوله عز وجل: { وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْهَدْيُ مَحِلَّهُ } [البقرة: 196]، ثم قال عز وجل: { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ... } الآية [البقرة: 196]، وذلك على إطلاق الحلق، ثم يلزمه الفداء؛ لأن الأذى والمرض يلزمانه. فمثله الأول.
ثم الأصل: أنه لا أحد يلزم فرض صيام الشهر في غيره إذا لم يدرك الشهر، وقد أمر من نحن في ذكره؛ فبان أنه لزمه بإدراك الشهر لإدراك وقت الإمكان بلا عذر. وقال: { فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ }، وقال: { وَلِتُكْمِلُواْ ٱلْعِدَّةَ } ليعلم أن الذي يلزمه بالشهر في أوقات الإمكان. وذلك على ما يلزم الإحداث الطهارة لأوقات عبادة لا تقوم دونها، وفعل الجنابات لأوقات الحلول وإن تأخرت فمثله أمر الشهر.
دليله ما بينا، وما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن صاحبته: فعل الصيام في ذلك الوقت والفطر جميعاً؛ ثبت أن الصوم يجوز على المرض والسفر؛ إذ هما لأنفسهما لا يناقضان الصيام بما جاز معهما، وقد أمر به المتمتع وهو المسافر، أن ليس ذلك على حاضري المسجد الحرام، وذابح الصيد والمبادئ بهما لا يضادان الصيام، ثم كان القضاء عن الشهر بظاهر التلاوة؛ فبان أنه يجوز فيهما.
وإذا جاز ثبت أن التأخير رخصة والفضل في الفعل. والله أعلم.
والخبر على من يجهده الصيام حتى خيف عليه، وكذلك ماجاء من الآثار:
"أن ليس من البر الصيام في السفر" . والله أعلم.
وعلى هذا يخرج قول أصحابنا في المكره على الفطر: أنه إن كان مريضاً أو مسافراً لا يسعه ألا يفطر لما جاء في ذلك من الوعدي في الفعل في السفر في حال الضرورة، ويسعه لو كان صحيحاً مقيماً لما لم يذكر له الرخصة، ويلزمه فيه القضاء، مع ما فيه؛ إذ لم يكن ظهر الإذن في تلك الحال كان كفه عنه تعظيماً لأمر دينه، من غير أن ذكر له في الدين النهي عنه، فهو في سعة، وليس كالمكره على أكل الميتة، ما ليس ذلك بذي بدل. وقد فرق بين ذي بدل وما بدل له، نحو إتلاف مال آخر، وأكل الميتة، ولأن علته الاضطرار وليست علة الفطر في السفر تلك، إذ قد يجوز، لا له، فهو عذر النفس، لا ضرورة النفس؛ فكأنه غير معقول العلة، وفيه تعظيم الدين. وليس في أكل الميتة وما ذكر. ولا قوة إلا بالله.
ثم السفر الذي له الرخص: أجمع أنه لم يرد به المكان، لما جاء الفطر في الأمصار، ثبت أنه لنفس السفر.
ثم كان السفر - حقيقته الظهور [و] الخروج عن الأوطان، وقد يكون مثله في الخروج عن الأوطان إلى الضياع ونحوه، ولم يؤذن في الفطر؛ ثبت أنه راجع إلى الحد، وعلى ذلك متفق القول.
ثم كان الحد المرخص عندنا: الخروج على قصد سفر ثلاثة أيام لخصال ثلاث:
أحدها: الإجماع على أن هذا الحد مرخص ودونه تنازع. والتنازع يوجب النظر؛ لا الفتوى بالرخص، وفي ذلك أمر بفعل الصيام.
والثاني: مجيء الخبر من وجهين:
أحدهما: في تقدير مسح السفر بثلاثة أيام، ومعلوم أنه جعل للسفر حدّاً ووقتاً لفعل رخصة المسح وأوقات الأفعال على اختلافها. يتفق على أنها لا تقصر عن احتمال الأفعال على الوفاء، وليس بما لم يدخل الليالي في حق السفر عبرة؛ لأن الأسفار وإن كانت مؤسسة على قطع الطرق والسير فيها، فإن دوام السير يجحف صاحبه ويهلكه، وفي ذلك منع السفر؛ ثبت أن أوقات السعي والسير مشترطة داخلة في حق السفر.
لذلك صارت الليالي كالمعفوة، فتكون محيطة بما فيها من فعل المسح.
والثاني: ما جاء من الأثر في النهي عن سفر ثلاثة أيام إلا المحرم. وهو المنهي لما جاء به النهي، وفيما دونه تنازع، لم يوجب الرخصة للإشكال في حق التمام لما له الرخصة على ما كان لما له النهي. والله أعلم.
والوجه الثالث: أن السفر عذر، والنهايات في الأعذار الثلاث، فكذلك بالأيام؛ إذ بها يسافر. وقال موسى عليه السلام:
{ قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً } [الكهف: 76].
وأما المرض فلم يجز أن يكون اسمه سبباً للرخصة؛ إذ ربما كان المرض يخفف الصيام ويسهل عليه سبيل فعله.
ومن البعيد الترخيص بما يسهل فيه الفعل، والتضييق لما يشتد؛ فثبت أنه ليس لاسم المرض. وعلى ذلك الإجماع فهو - والله أعلم - لما يخاف أن يزداد له بترك الأكل الداء، ويقبح على المرء اكتساب الداء وتعاطي الضارية، فرخص له الظفر بذلك، وذلك معنى البشرية، إذ به تخفيف ما به أو منع، أو ما يعتريه من الضرر، ولهذا ما رخص أصحابنا لمن به رمد يخاف الزيادة فيه.
وقد روي عن أنس بن مالك، رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"يفطر المريض والحبلى إذا خافت أن تضع ولدها، والمرضع إذا خافت الفساد على ولدها" ثبت أن الرخصة لما يخاف من فساد ينزل. ولا قوة إلا بالله.
وعن عبد الله بن عمر، رضي الله تعالى عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"من مات من طعام أو شراب وهو يقدر فله النار" وبالله المعونة.
وقوله: { وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ }.
قال قائلون: يطيقون الفداء. وذلك في الأمر الأول في المسافر والمريض أن له أن يقضي في أيام أخر، وأن يفدي. وفيه: { وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ }، أي: أن تقضوا الصيام - والله أعلم - إذ قد يحتمل أيضاً أن كانت الرخصة من قبل فيمن عليه بالخيار بين أن يصوم وبين أن يفدي، والصوم خير على ما ذكر في الآية، ثم نسخ ذلك، إن كان على التأويل الأول بقوله: { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ... } الآية، أنه ألزم القضاء على كل حال، وان كان الثاني فقوله: { فَلْيَصُمْهُ }، أنه ألزم الفعل على حال، وبمثل ذلك خبر معاذ في إحالة الصيام: أنه كان للمرء خيار بين الفطر والفداء وبين الصيام، ثم نسخ.
في قوله: { وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ } على أثر ذكر السفر والمرض دلالة جعل الصيام في السفر خيراً من الفطر والفداء في غيره، وإن احتمل الذي ذكرت. والله أعلم.
ثم الدلالة على النسخ في الوجه الذي ذكرت. ومتفق القول على أن المطلق لم يكن له الخروج من ذلك بالفداء. فبذلك عرف النسخ مع ما ثبت من قطع الآية على القضاء في أحد الوجهين، وفعل الصيام في الآخر.
وعلى ذلك معتبر القول في الشيخ الفاني الذي لا يقوم للقضاء أن له الفطر والفداء؛ لأن الصوم قد ثبت أنه يحتمل الوفاء بالفداء لكن نسخ بالصيام، فإذا ارتفع الصيام بالعجز عمن يحتمل الخطاب بعبادات الأموال وهم المشايخ، جاز أن يخاطبوا بالصيام ليخرجوا عنه بالفداء. وعلى ذلك ما جاء في الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمر بالصيام عن الميت، أنه الصيام الذي هو صيام من لا يحتمل فعله وهو الفداء. والله أعلم.
وقد قرئ (يُطَوَّقُونَهُ) بمعنى يُكلَّفونه، ولا يطيقونه، لكن في الآية { وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ } ولو كان "لا يطيقونه": لا يرغبون فيه، إلا أن يشترط فيه طاقة الجهد. والله أعلم.
وقوله عز وجل: { فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً }.
من زيادة فداء، وما يستزيد من الخيرات التي لم يفترض ليعوَّد به الخير. أو { تَطَوَّعَ } فيما أذن له في الفداء بالصوم. والله أعلم.
وروي عن عائشة، رضي الله تعالى عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"لا تسموا شهر رمضان رمضان، فإنما هو اسم من أسماء الله تعالى. انسبوه إلى ما نسبه لكم القرآن" .
وقوله: { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ }.
أضاف عز وجل الفعل إلى الشهر بقوله: { فَلْيَصُمْهُ }؛ فلذلك إذا قصد به صوم الشهر جائز الصوم إن لم ينو الفرض سوى ما ذكرنا. وكذلك سائر الفرائض نحو الظهر والعصر ينوي ذلك، فيكون ذلك على ما جعله الله من فرض وإن لم ينو الفرض. ولا قوة إلا بالله.
وعلى ذلك من نوى بالصيام غير صيام الشهر جائز عن صيام الشهر، لما أمرنا بصيام الشهر ولم نؤمر بأن نجعل ذلك لشيء سواه، والشهر موجود لنفسه لا يحتاج صاحبه إلى أن يوجده كان من ذلك على كل حال. وكذلك كل حق معين في شيء لم يزل عنه نيته إلى غيره؛ كمن بأمر إنساناً بشراء شيء بيعنه لم يتحول عنه بالنية، على أن ذلك كالظهر والعصر ونحو ذلك؛ فيحال على تحقيق ذلك قصد غير، وبعد فإن كلا يجمع ألا يجوز غير؛ فثبت أن استحقاق الشهر بصومه لا يستحق عليه غيره من الصيام فجاز عنه.
وعلى ذلك أجاز أبو حنيفة في السفر غيره، من حيث أذن له في تأخير هذا، أو غيره فرض عليه نحو صوم الظهار والقتل، ولا رخصة له في تأخيره، فجاز فيه؛ إذ هو وقت صيام حول إلى وقت غيره، فصار هذا الوقت بالحكم لغيره، وليس كنية المتطوع؛ لأنه في موضع الرخصة وفي العمل به وقد يكون له مقدار التطوع من الفضل على غيره فهو أولى به. ولما قد يجوز النفل بلا نية نفل، فكأنه لم ينو النفل. فهو رجل لم يعمل برخصة الله بل عمل بوجه العزم. ولا قوة إلا بالله.
وقوله: { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }.
قيل: { تَتَّقُونَ } الأكل والشرب والجماع.
ويحتمل: { تَتَّقُونَ } المعاصي؛ لأن النفس إذا جاعت شبعت عن جميع ما تهوى وتشتهي. وإذا شبعت تمنت الشهوات، وتتمنى ما تهوى.
ويحتمل: { تَتَّقُونَ } عذاب الله وعقابه. والله أعلم.
وقوله: { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ }.
ألزم بعض الناس على المريض والمسافر قضاء عدة الأيام وإن صاموا، فاستدلوا بظاهر الآية فقالوا: أوجب عليهم القضاء على غير ذكر الإفطار فيها.
واحتجوا أيضاً بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال:
"الصائم في السفر كالمفطر في الحضر" ، فقد حقق له حكم الإفطار في أن لا صوم له؛ فدل أنه لم يجز، فكان التقديم الصوم عن وقته.
وأما عندنا: فهو على إضمار الإفطار، كأنه قال: { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ } فأفطر، { فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ }. وهو كما ذكر عز وجل في المتأذي:
{ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } [البقرة: 196]، أي: من كان به أذى فرفع من رأسه ففدية. وكما قال في المضطر: { فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ } [البقرة: 173]، ومثله كثير في القرآن. فلا يجوز لأحد أن يأتي ذلك، ولأن المرض والسفر أعذار رخص الإفطار فيها تخفيفاً وتوسيعاً على أربابها، فلو كان على ما قال هو لكان فيه تضييق عليهم؛ ولأنه إذا قضى في عدة من الأيام إنما يقضي عن ذلك الوقت، فلو لم يجز الفعل في ذلك الوقت وفي تلك الحال، لكان لا يأمر بالقضاء عن ذلك الوقت ولا عن تلك الحال؛ فدل أنه على ما ذكرنا. والله أعلم.
وأصله: ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه صام في السفر، وروي أنه أفطر، وروي عن الصحابة، أنهم صاموا في السفر. ولو كان لا يجوز لكان لا معنى لصومهم.
وأما قوله:
"الصائم في السفر كالمفطر في الحضر" ، فهو عندنا: إذا كان الصوم أجهده وضعفه لزمه أن يفطر، صار كالذي أفطر في الحضر. والله أعلم.
وروي عن أنس - رضى الله عنه [أنه] - قال:
"الصوم أفضل والفطر رخصة" .
وقوله تعالى: { وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ }.
قرأ بعضهم: "وعلى الذين يُطَوَّقُونَه"، فمعناه يكلفونه.
وقال بعضهم: "لا يطيقونه". لكن هذا لا يحتمل؛ وذلك أنه قال: { وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ }، دل أن قوله: "لا يطيقونه" لا يحتمل.
وقيل: كان أول ما ترك الصوم كان من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم مسكيناً كل يوم، فلما نزل صوم شهر رمضان نسخ ما كان قبله عمن يطيق الصوم، ويثبت الرخصة لمن لا يطيق من نحو الشيخ الفاني، والحبلى والمرضع إذا خافت على ولدها.
وقيل: { وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ }، أي: الفدية.
وقيل: { وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ }، ثم عجزوا، { فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } كل يوم.
وقيل: إن المريض والمسافر إن شاءا أفطرا وقضيا، وإن شاءا أفطرا وفديا.
لكن ذلك كله منسوخ بما ذكرنا بنزول { شَهْرُ رَمَضَانَ }.
وروي عن أنس، رضي الله تعالى عنه، أنه قال:
"أحيل الصوم ثلاثة أحوال: فمرة يقضي، ومرة يطعم، ومرة يصام، ثم نسخ هذا كله" .
ثم الأصل في هذا: أن من عجز عن قضائه جعل له الخروج بالفداء بعجزه عن ابتدائه، من نحو الشيخ الفاني وغيره.
ومن لم يعجز عن قضائه، لم يجعل له الخروج بالفداء، من نحو المرضع والحبلى المريض والمسافر؛ لأنهم لم يعجزوا عن غير المفروض والبدل أبداً، إنما يجب إذا عجز عن إتيان الأصل. والله أعلم.
وقوله: { فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً }.
يحتمل: زيادة الطواف.
ويحتمل: نفس الحج.
ويحتمل: أصل التطوع أن كل ما يتطوع به فهو خير له إذا تطوع في الأصل خير.
وقوله: { شَهْرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيۤ أُنْزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ }.
قوله: { هُدًى لِّلنَّاسِ }.
قيل: يهتدون به الطريق المستقيم.
وقيل: بيان للناس من الضلالة.
وقوله: { وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ ٱلْهُدَىٰ }.
قيل: حجج للناس إذا تأملوه.
وقيل: { وَبَيِّنَاتٍ } أي: فيه الحلال، والحرام، والأحكام، والشرائع.
وقوله: { وَٱلْفُرْقَانِ }.
قيل: يفرق بين الحق والباطل.
وقيل: { وَٱلْفُرْقَانِ }، المخرج في الدِّين من الشبهة والضلالة.
قال ابن عباس - رضي الله تعالى عنه -:
"نزل الفرقان إلى السماء الدنيا من اللوح جملة في شهر رمضان في ليلة القدر - في ليلة مباركة - جملة واحدة، ثم أنزل بعد ذلك على مواقع النجوم رسلاً رسلاً في الشهور والأيام على قدر الحاجات" .
وقوله تعالى: { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ }.
يحتمل قوله: { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهْرَ } وهو مقيم صحيح، { فَلْيَصُمْهُ }. ثم رخص للمريض والمسافر الإفطار بقوله عز وجل: { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ }.
ويحتمل قوله: { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهْرَ } أي: من شهد منكم بعقله الشهر { فَلْيَصُمْهُ } فلا يدخل في الخطاب المجانين ولا الصبيان، ألا ترى أن أول الخطاب خرج للمؤمنين بقوله عز وجل: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصِّيَامُ } فهؤلاء لم يدخلوا فيه؛ فدل أن قوله: { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهْرَ } أي: شهد منكم بعقله، { فَلْيَصُمْهُ }.
ثم يحتمل أن تكون فرضية الصوم بقوله عز وجل: { فَلْيَصُمْهُ }.
ويحتمل: لا بهذا، ولكن بقوله: { وَلِتُكْمِلُواْ ٱلْعِدَّةَ }؛ إذ لا يجب إكمال العدة لما مضى إلا على حق الفرضية
والثاني: قال الله تعالى: { يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ }، بما رخص للمريض والمسافر الإفطار، ولو كان غير فرض لم يكن لما ذكر من الامتنان علينا بالتيسير معنى؛ لأن المنة لا تذكر فيما له تركه؛ فدل أنه فرض.
ويحتمل: أن يكون فرضيته بقوله عز وجل: { كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصِّيَامُ }؛ لأن قوله: { كُتِبَ }، أي: فرض. فدلت هذه الآيات على أنه فرض.
ثم اختلف فب قضاء ما فات منه برخصة الإفطار في السفر أو في المرض:
قال بعضهم: لا يجوز إلا متتابعاً. وكذلك روي في حرف أبي بن كعب في قوله: "فعدة من أيام أخر متتابعات".
وأما عندنا: فإنه يجوز متتابعاً ومتفرقاً؛ اتباعاً لما روي عن خمسة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنهم قالوا: "إن شاء تابع، وإن شاء فرق" سوى أن عليّاً، رضي الله تعالى عنه قال: يتابع، لكنه إن فرق جاز، ثم عن علي، وعبد الله بن عباس، وأبي سعيد الخدري، وأبي هريرة، رضي الله تعالى عنهم، وآخر لست أذكره، أنهم قالوا: بجواز ذلك، ولا يحتمل أن التتابع شرطاً فيه خفى ذلك على هؤلاء، أو تركوه إن عرفوه؛ فدل أنه لا يصح ذكر التتابع شرطاً فيه، وليس كذكر التتابع في صوم كفارة اليمين في حرف ابن مسعود، رضي الله تعالى عنه؛ لأنه لم يخالفه أحد من الصحابة، رضون الله تعالى عليهم أجمعين، في ذلك، فصار كالمتلو. وهاهنا قد خالفوا أبيّاً في حرفه؛ لم يصر كالمتلو؛ لذلك افترقا. والله أعلم.
وقراءة أبي إن ثبتت عنه، فهو على الأرب؛ لما ذكر من إجماع الصحابة، رضي الله تعالى عنهم، وبما أنه وجب بوقت، وكل ذي وقت فليس التتابع بشرط فيه في غير ذلك الوقت.
لو كان التتابع شرطاً، لكان حق الإفطار يلزم الكل؛ حتى يكون القضاء موصولاً أو الابتداء.
فأما إذا جاز التفريق بين بعض له حكم الابتداء وبعض له حكم القضاء، لجاز في غيره من الأبعاض؛ إذ كل ذلك له في الابتداء جاز الفعل والترك. فصار حق كل يوم في القضاء لنفسه لا لغيره؛ إذ كذلك حقه في الترك القضاء، وفي الفعل في الابتداء. ولا قوة إلا بالله.
وما ذكر من المسائل فهي مبنية على هذا الذي ذكرت: أن التتابع للفعل لا يحتمل اعتراض رخصة التفريق على إمكان الجمع؛ ثبت أن الجمع شرط فيه. وما نحن فيه يحتمل صوم كل يوم على الانفراد أن يؤخر فعله في الشهر بالرخصة عن غيره كذلك القضاء. والله أعلم.
وبعد، لو كان التتابع شرطاً لم يكن لقوله: { فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ }، وقوله عز وجل: { وَلِتُكْمِلُواْ ٱلْعِدَّةَ }، كبير فائدة، لأن في التتابع شرط الجملة، لا أن يكلف له العدد، وعلى الرجل أن يتم المدة التي للقضاء، لا أن يحفظ الحساب لإكمال العدة. والله أعلم.
والأصل: أن كل صوم يؤمر بالتتابع بحيث الفعل يكون التتابع شرطاً فيه حيثما كان الفعل. وكل صوم يكون التتابع فيه بحيث الوقت، ففوت ذلك الوقت يسقط حق التتابع.
ولهم على هذا مسائل:
إذاقال: "لله عليَّ أن أصوم شعبان"، فلزمه أن يصوم متتابعاً، لكنه إذا فات شيء منه يقضي إن شاء متتابعاً، وإن شاء متفرقاً؛ لأن التتابع بحيث الوقت يسقط لسقوطه.
ولو قال: "لله عليَّ أن أصوم شهراً متتابعاً"، يلزمه أن يصوم متتابعاً، لا يخرج من نذره إلا به؛ لأن التتابع ذكر للصوم، فهو لا يسقط عنه أبداً.
والثاني: ما قال عز وجل: { يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ }، واليسر رخصة، لم يجز أن يجعل فيه ما هو عسر وضيق: وهو التتابع. والله أعلم.
ثم في قوله: { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ }، دلالة أنه إذا صام من غيره لم يجز؛ لأنه أضاف عز وجل الصوم إلى الشهر، وأشار إليه بقوله عز وجل: { فَلْيَصُمْهُ } فلو جاز له أن يصوم من غيره لكان فيه صرف إلى غير ما جعله الله، وفي ذلك خوف اعتراض لأمره، وإشراك في حكمه. ونسأل الله العصمة من الزيغ عن الحق.
وأما قوله عز وجل: { يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ }.
قالت المعتزلة: من صام في السفر أو في المرض فعل ما لم يرد الله؛ لأن الله عز وجل أخبر أنه لم يرد العسر، وإنما أراد اليسر، فإذا صام في المرض أو في السفر أراد العسر، والله تعالى أخبر أنه لم يرد، فدل أنه فعل ما لم يرد الله.
لكن الوجه عندنا: أن قوله: { يُرِيدُ ٱللَّهُ }، معناه: أراد الله بكم اليسر لما رخص لكم الإفطار في السفر؛ لأنهم أجمعوا على أن الصوم في السفر أفضل، والإفطار رخصة، ولا جائز أن يقال: لم يرد الله ما هو أفضل، وأراد ما هو دونه على قولهم، ولكن يقال: أراد لمن أفطر اليسر، وأراد لمن ترك الإفطار العسر، وإرادته نافذه، فلا جائز أن ينفذ في وجه ولا ينفذ في وجه آخر.
وقوله عز وجل: { يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ }، أي: يريد أن ييسر عليكم بالإذن في الفطر، لا أن العسر عليكم بالنهي عنه.
وقد يحتمل الفعل، لكنه لم يذكر عن أحد أن الله تعالى أراد به اليسر فصام؛ فثبت أن الإرادة موجبة، مع ما لا يحتمل على قولهم أن يكون الصائم في السفر غير مراد، وقد قضى به فرض الله، وأطاع الله فيه. والمعتزلة يقولون بالإرادة في كل فعل الطاعة فضلاً عن الفريضة.
وقوله: { وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ }.
قيل: يعني تعظمون الله، { عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ } لأمر دينه. ويجوز أن يريد بالتعظيم الأمر بالشكر لما أنعم عليهم من أنواع النعم من التوحيد والإسلام وغيره.
{ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }:
أي: ربكم بهذه النعم التي أنعمها عليكم.
ويحتمل: أنه أمر بالتعظيم له والشكر لما رخص لهم الإفطار في السفر والمرض. والله أعلم.