التفاسير

< >
عرض

وَلاَ تَنْكِحُواْ ٱلْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنْكِحُواْ ٱلْمُشِرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَـٰئِكَ يَدْعُونَ إِلَى ٱلنَّارِ وَٱللَّهُ يَدْعُوۤاْ إِلَى ٱلْجَنَّةِ وَٱلْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ
٢٢١
-البقرة

تأويلات أهل السنة

اختلف أهل التأويل في تأويل هذه الآية.
فقال قائلون: الحظر على كل مشرك ومشركة - كتابيّاً كان أو غير كتابي - ثم نسخ بقوله:
{ وَٱلْمُحْصَنَاتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ } [المائدة: 5]. فالإماء على الحصر؛ لأنه إنما استثنى الحرائر دون الإماء بقوله: { وَٱلْمُحْصَنَاتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ } [المائدة: 5].
وقال آخرون: هو على المشركات خاصة دون الكتابيات، والكتابيات مستثنيات، فدخلت كل كتابية - حرة كانت أو أمة - [تحت الاستثناء]؛ لأن الاستثناء إذا كان عن جملة الأديان سوى دين الكتابيات لم يحتمل دخول بعض أهل ذلك الدين دون بعض، والذي يدل عليه قوله تعالى: { وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ }، فجعل الأمة المؤمنة خيراً بالنكاح من المشركة، ومن قوله إنه بالقدرة على طول الحرة الكافرة لا يباح له نكاح الأمة المؤمنة. فبان أن موقع الآية ليس على التناسخ على ما يقوله على أن الإماء يدخلن تحت قوله عز وجل:
{ وَٱلْمُحْصَنَٰتُ مِنَ ٱلنِّسَآءِ } [النساء: 24]، دليله قوله تعالى: { فَإِذَآ أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَٰحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى ٱلْمُحْصَنَٰتِ مِنَ ٱلْعَذَابِ } [النساء: 25]. فثبت أنهن قد يتعففن فيستوجبن اسم الإحصان، وقد جعل شرط الحل هو ذكر الإحصان. وقوله أيضاً: { وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى ٱلْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً } [النور: 33]، وقوله: { وَٱلْمُحْصَنَٰتُ مِنَ ٱلنِّسَآءِ إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَٰنُكُمْ } [النساء: 24], مستثنياً الإماء من جملة المحصنات؛ دل أنهن دخلن في الخطاب. وقد أجمع على أنهن تحل لنا بالسبي، وكل مذكور في الكتاب يستوي الحل فيه إلا من جهة العدو. فإذا أبيح لنا تزويج المسبيات منهن كالحرائر، ثبت أنه محكوم بحكمهن في النكاح، فبطل قول من أبطل نكاح الإماء؛ إذ ثبت أن الآية بخلاف ما قال. وبالله التوفيق.
ثم الآية تضمنت أحكاماً:
منها: أن من قول أصحابنا - رحمهم الله تعالى أجمعين -: أن المناهي بحيث النهي لا توجب الحرمة.
والثاني: أن الآية كيف كان حملها على الخصوص في بعض أحق والعموم في بعض ومخرج الخطابين واحد.
والثالث: أن في الآية ذكر المنع، لعلة وهي الدعوة إلى النار، فكيف لم يلزم حفظ ما لأجله وجب الحرمة على وجوده؟ وهذا هو الأصل: أن تحفظ الأحكام المعللة بالعلل ما دامت توجد العلل.
والرابع: البيان في تولي النكاح؛ إذ للأولياء خرج الخطاب بقوله: { وَلاَ تُنْكِحُواْ ٱلْمُشِرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤْمِنُواْ }.
وأما قولنا في النهي: فإن النهي يوجب الانتهاء، ولكن لا يوجب الحرمة إلا بدليل يقوم على مراد الحرمة في النهي، لما رأينا من المناهي كثيرة لم توجب الحرمة، فلو كان نفس النهي موجباً ذلك لوجب أن يوجب في كل ذلك، فلما لم يوجب ذلك، دل أن نفسه لا توجب الحرمة، ولكن الدليل هو الموجب للحرمة.
وأما قولهم وسؤالهم عن الخصوص والعموم: فذلك جائز عندنا، خروج الآية على العموم يعقل بها الخصوص. وهو كثير في القرآن مما لا يحتاج إلى ذكره وشرحه، ومن ذلك قوله عز وجل:
{ لَئِنْ أَقَمْتُمُ ٱلصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ ٱلزَّكَاةَ وَآمَنتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ } [المائدة: 12]، عقل إيجاب تعظيم الرسل [والأنبياء والإيمان لهم على العموم، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة في حق البعض دون البعض]، وكذا قوله: { مَا كَانَ لأَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ ٱلأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ ٱللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنْفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ } [التوبة: 120]، فالتخلف غير موجود في بعض الأحيان، وإنَّ حق النهي عن الرغبة عن نفسه أخذ الجميع، فعلى ذلك هاهنا يجوز خروجه عامّاً يخص بالعقول.
وأما قولهم: وجوب الحكم لعلة، وهو الدعاء إلى النار، فله وجهان:
أحدهما: أن الكتابي أقر بكتاب، يقدر على إلزام الدين بالدعاء إليه، ففيه رجاء الإسلام، وغيرهم من أهل الشرك لا يطمع [فيهم] بمثله.
والثاني: أن علة الحظر قوله: { أُوْلَـٰئِكَ يَدْعُونَ إِلَى ٱلنَّارِ }، والزوجات لا يدعون أزواجهن إلى ذلك، بل الأزواج هم الأصل في الدعاء، وهم الأمراء على الزوجات، والزوجات بين الأتباع للأزواج والمذللات في أيديهم؛ لذلك أبيح.
ثم الأصل: أن النكاح جعل لأمرين: إما لإبقاء النسل، وإما للتحصن والتعفف عن السفاح. ثم قد ينكح من لا نسل فيه، فما بقي إلا وجه المنع عن السفاح. ثم الدعاء إلى النار أعظم من السفاح، بهذا لم يبح النكاح.
ثم الدلالة على تخصيصها على وجهين:
أحدهما: قول الخصوم بالنسخ: أنه ورد على بعض دون بعض، وما ذلك إلا الخصوص.
والثاني: أن ذكر ذلك في الكتابيات لم يجر بحيث إظهار ما يحل وما يحرم، إذ شرط نكاحهن إنما هو عند العجز عن الحرائر، فجرى الذكر فيهن، إذ هن الأصل في عقود النكاح، وأن الإماء دخيلات في حق النكاح، وإنما جرى الذكر في حلهن بملك اليمين؛ لذلك ترك ذكرهن مع ما يجوز دخول الإماء في قوله:
{ وَٱلْمُحْصَنَاتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ } [المائدة: 5]؛ لما أوجب لهن العفة والتحصن بقوله: { فَإِذَآ أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَٰحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى ٱلْمُحْصَنَٰتِ مِنَ ٱلْعَذَابِ } [النساء: 25] وبقوله: { مُحْصَنَٰتٍ غَيْرَ مُسَٰفِحَٰتٍ وَلاَ مُتَّخِذَٰتِ أَخْدَانٍ } [النساء: 25].
وأما قولهم: خاطب الأولياء في النهي بقوله: { وَلاَ تُنْكِحُواْ ٱلْمُشِرِكِينَ }، وخاطب الأولياء أيضاً في الأمر بإنكاح الأيامى بقوله:
{ وَأَنْكِحُواْ ٱلأَيَامَىٰ مِنْكُمْ وَٱلصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ } [النور: 32]، فدل أن الولي شرط في جواز النكاح.
فجوابنا: أنه إنما خاطب الأولياء في النهي عن النكاح، وفي الأمر بالنكاح، لما العرف في الأمة ألاّ يتولى النساء [النكاح] بأنفسهن، بل الأولياء هم الذين يتولون عليهن النكاح برضائهن وأمرهن وتدبيرهن؛ لذلك خرج الخطاب للأولياء مع ما ليس في تخصيص [الأولياء] بالخطاب دليل إخراج النساء عن ولاية النكاح. ألا ترى أنه ذكر في الآية (الصلاح) بقوله:
{ وَٱلصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ } [النور: 32]، لم يصر ذلك شرطاً في الجواز، فعلى ذلك الأولى. وهذا يدل أيضاً على أن ليس في تخصيص المحصنات من الكتابيات حظر نكاح الإماء منهن.
والثاني: أن قوله: { وَلاَ تَنْكِحُواْ ٱلْمُشْرِكَاتِ }، يحتمل أن يكون في الصغار خاصة، نهى الأولياء عن تزويج الصغار من المسلمين المشركات من غير الكتابيات. فإذا كان محتملاً ما ذكرنا، لم يكن لمخالفنا الاحتجاج به علينا في إبطال نكاح المرأة نفسها دون وليها. والله أعلم.
وقوله: { وَلاَ تَنْكِحُواْ ٱلْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ }.
اختلف في تأويله:
قال قوم: هو في غير الكتابيات، يبين ذلك قوله:
{ ٱلْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَٱلْمُحْصَنَاتُ مِنَ ٱلْمُؤْمِنَاتِ وَٱلْمُحْصَنَاتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ } [المائدة: 5]، فنسق الكتابيات بالإحلال على ما لم يختلف فيه أحوال الحل من أول الإسلام إلى الأبد ولا من قبل ذلك نحو الطيبات من الطعام - من طعام المؤمنين وأهل الكتاب ونحو المحصنات من المؤمنات، فمثله الكتابيات، إذ نَسَقَ نكاحهن على من ذكر. ولو كان التأويل هذا، كانت الآية نطقت بألا تنكحوا المشركات غير الكتابيات؛ فلا يكون في الآية تحريم الإماء من أهل الكتاب، ولا النهي عن ذلك، وإنما يعرف إن كان يجوز أو لا، بدليل آخرو سوى هذه الآية.
فإن قيل: على ذلك لِمَ لا كانت آية الإحلال في التخصيص بذكر المحصنات دليلاً على حرمة نكاح الإماء؟
قيل: يكون الجواب لأوجه:
أحدها: أن ذكر الحل في حال لا يدل على الحرمة في غيرها. كذلك ذكر الحل في صنف لا يدل على حرمة في غيره. ولو كان ذا يدل، لكان يجيء أن يكون حكم ما لا يرد فيه السمع مخالفاً لما يرد فيه. وذلك فاسد؛ إذ السمع هو دليل الحكم فيما لا سمع فيه بالمعنى الذي ضمن فيه. والله أعلم. وأيد ذلك قوله:
{ وَٱلْمُحْصَنَاتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } [المائدة: 5]، ثم هن يحللن وإن لم يؤتين أجورهن؛ فمثله الأول.
والثاني: أنه منسوق على مثله في المؤمنات. ثم لم يكن ذلك في المؤمنات على تحريم الإماء؛ فمثله في الكتابيات.
فإن قيل: لما بين في إماء المؤمنات؟
قيل لهم: لم يزعم أحد أن ذلك على نسخ هذه الآية؛ فثبت أنه ليس في الذكر في المحصنات تحريم الغير؛ فكذلك في المنسوق على ذلك مع ما لو كان في مثل هذا الاستدلال على الحرمة، لكان في قوله: { وَلاَ تَنْكِحُواْ ٱلْمُشْرِكَاتِ }؛ إذ وقع على غير الكتابيات - دليل على الإحلال، فيكون ذكر الحرمة في نوع دليل الحل في غيره على مثل ذكر الحل في نوع. وفي ذلك تناقض الأدلة. والله أعلم.
ووجه آخر: { وَٱلْمُحْصَنَاتُ }، يحتمل أن يريد به العفائف، وأهل الصلاح، والإماء قد يستحققن هذا الاسم، كقوله تعالى:
{ فَإِذَآ أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَٰحِشَةٍ } [النساء: 25]، وقوله: { مُحْصَنَٰتٍ غَيْرَ مُسَٰفِحَٰتٍ وَلاَ مُتَّخِذَٰتِ أَخْدَانٍ } [النساء: 25] وقوله: { وَٱلْمُحْصَنَٰتُ مِنَ ٱلنِّسَآءِ إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَٰنُكُمْ كِتَٰبَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَٰلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَٰلِكُمْ مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَٰفِحِينَ } [النساء: 24] وإذا استحققن الاسم فهن في الآية حتى يظهر الإخراج. والله أعلم.
وبعد، فإنا نقول: أكثر ما في ذلك أن يكون في ذلك النهي عن تزوج الإماء من أهل الكتاب، فإن النهي في ذلك لا يدل على الحرمة؛ لأنه معلوم المعنى الذي له يقع النهي عن نكاح الإماء - أنه لمكان رق الأولاد، ولمكان مخالطة الإماء الرجال وخلوتهن بالموالي - وذلك مما ينفر عنه الطباع، ثم كان النساء الزانيات جميع ذلك فهين موجود، والنهي قائم، وقد يحلق أولادهن أعظم الشين الذي يضعف على الرق، ثم لم يمنع النهي جواز نكاحهن بما هو نهي نفاع الطباع، لا معنى في ذلك له بكون الحرمة؛ فمثله أمر الإماء. والله الموفق.
ثم دليل حلهن: أن كل امرأة حرمت لنفسها، فسواء وجه الحل بها في ملك اليمين والنكاح، وكل امرأة كانت حرمتها بالحق فيختلف فيها المكان، فإذا كانت هذه محللة بملك اليمين ثبت أنها لم تحرم لنفسها، فهي تحل بالنكاح كما تحل بملك اليمين. على هذا الأصل أمر المجوسيات والمحارم ونحوها. والله أعلم.
وقال قوم: الآية في جميع الشركات والكتابيات، ثم نسخت الكتابيات بالآية التي في سورة المائدة، وكان النسخ بشرط الإحصان، فبقيت الإماء على الحرمة. دليل ذلك وجهان:
أحدهما: قوله تعالى: { وَلاَ تَنْكِحُواْ ٱلْمُشْرِكَاتِ }، أنه يدخل في ذلك الكتابي وغيره؛ فكذا في الأول.
والثاني: قوله تعالى: { أُوْلَـٰئِكَ يَدْعُونَ إِلَى ٱلنَّارِ... } الآية.
[والثالث]: أن الكتابي مشرك في الحقيقة، إذ هو بما لا يغفر له، والكتابي في الدعاء إليها وغيره سواء؛ فلذلك كان على ما ذكرت.
فنحن نقول في ذلك - وبالله التوفيق -: ليس فيما ذكر دليل على ما ادعى؛ لأنه جائز خروج آية واحدة في أمرين يختلف موقعهما من الخصوص والعموم بالدليل [نحو قوله]:
{ مَا كَانَ لأَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ ٱلأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ ٱللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنْفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ... } [التوبة: 120]، أنه قد يجوز التخلف عنه لعذر، ولا يجوز الرغبة عنه بحال، وقال في قوله: { لَئِنْ أَقَمْتُمُ ٱلصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ ٱلزَّكَاةَ وَآمَنتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً... } الآية [المائدة: 12]، أن ليس كل ذلك مما يقتضي عموم الخلق وإن كان الظاهر في الكل بالمخرج واحد، ثم ما ذكرت من الآية دليل الفصل.
والثاني: أنه يجوز أن تكون الآية في غير أهل الكتاب. دليل ذلك الأمر بالمعروف من التفرقة في التسمية، وإن كانوا في الشرك مجتمعين؛ قال الله تعالى:
{ مَّا يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ وَلاَ ٱلْمُشْرِكِينَ } [البقرة: 105]، وقال: { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ وَٱلْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ } [البينة: 6]، وغير ذلك ما قد فصل الله بينهم في النسبة وإن كانوا في حقيقة الشرك مجتمعين، فجائز أن تكون الآية على ذلك، ثم حرم تزويج المسلمات من أهل الكتاب لا بهذه الآية، لكن بغيرها من الأدلة.
ألا ترى أنا لا نترك مماليك أهل الإسلام تحت أيديهم لا بهذه الآية؟! فمثله أمر الإنكاح. والله أعلم.
ثم في الآية دليل ذلك، وهو قوله تعالى: { وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ... } الآية، وكل يجمع ألا يحل نكاح الأمة المؤمنة على الحرة الكتابية، فلو كانت هي مرادة في هذه الآية لكان نكاح من هو خير منها في النكاح لا يحرم عليه، حتى إن الذي يقول بهذا التأويل يحرم لطول الكتابية فضلا عن نكاحها. ولا قوة إلا بالله.
وقوله: { أُوْلَـٰئِكَ يَدْعُونَ إِلَى ٱلنَّارِ }، دليل أن الإماء غير داخلات في الخطاب؛ لأنهن لا يدعون بل الغالب عليهن أن يتبعن ويجبن لمن هن تحتهم فيما دعين إليه، لا أن يدعون. هذا الأمر المتعارف. والله أعلم.
ثم نقول: جعل كأن الآية نزلت في الكتابيات، فقال: "ولا تنكحوا الكتابيات"، فإن الكتاب في جميع ما جرى به الذكر في حقوق النكاح والطلاق والأحكام تضمن خطاب الأحرار، خاصة فيما أبهم، وعرف أمر الحرمة في الإماء والعبيد بالأدلة العقلية مما دلت عليه أحكام السمع؛ فكذا هكذا. والله الموفق.
وقوله: { وَلاَ تَنْكِحُواْ }، محمول على التحريم باتفاق الأمة وإن احتمل ما هو بهذا المخرج على غير التحريم، وعلى أن الله تعالى قد بين بقوله:
{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا جَآءَكُمُ ٱلْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَٱمْتَحِنُوهُنَّ ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى ٱلْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } [الممتحنة: 10]، أن النكاح قد انفسخ حيث أباح لغير الأزواج التزوج. وفي قوله: { وَٱلْمُحْصَنَٰتُ مِنَ ٱلنِّسَآءِ إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَٰنُكُمْ } [النساء: 24]، أنه الاستمتاع بذوات الأزواج إذا سبين، وقال: { وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ ٱلْكَوَافِرِ } [الممتحنة: 10]، ذكر جملة النساء ونهى الرجل عن التمسك بعصمتهن. واسم الشرك اسم لفريق بالإطلاق، واسم الكفر للجملة، على ما قال: { وَدَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَةً وَاحِدَةً } [النساء: 102] الآية، وقال: { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ وَٱلْمُشْرِكِينَ... } الآية [البينة: 6]، وغير ذلك مما جمع في اسم الكفر وعرف بأسماء المذاهب، وجعل اسم (الشرك) في التفريق. فدلت هذه الآيات على الحرمة في قوله: { وَلاَ تَنْكِحُواْ } الآية، ويدل قوله في آخر الآية: { أُوْلَـٰئِكَ يَدْعُونَ إِلَى ٱلنَّارِ } على ذلك، ومعلوم أن أول دعائهم إلى النكاح، فصير ذلك سبباً للنار، وما يوجبها حرام.
ثم فيها دلالة عموم الآية في الذكور؛ لأنه في تعارف الخلق: أن الرجال هم الذين يدعون، لا النساء، والنساء تتبعهم. وذلك المعنى في رجال أهل الكتاب وغيرهم سواء، فتكون الحرمة فيهم سواء. وعلى ذلك المروي من الخبر: أن رجلاً أسلم وتحته ثماني نسوة وأختان ونحو ذلك فأسلمن. دل أنهن يتبعن الرجال، لا أنهن يدعون إلى ما يخترن من الدين. والله أعلم.
ثم الدليل على أن النهي أيضاً نهي تحريم في قوله: { وَلاَ تَنْكِحُواْ ٱلْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ }، أنه لولا خبث فيهن في الحقيقة يوجب حرمة الاستمتاع لكان لا ينهى عن التناكح، وذلك من أبلغ أسباب دعوتهن إلى الإسلام بما ذكرت من الفرق في طاعتهن الأزواج فيما يختارون من الدين في المتعارف بمن رويت فيهن الخبر، وخاصة ذلك في المشركات أحق في الحل منه في الكتابيات؛ إذ هن إنما أخذن دينهن عن آبائهن بالاعتياد والتقليد، ومعلوم اعتيادهن ما فيه رضاء الأزواج وإيثار ذلك على ما فيه رضاء الآباء حتى يؤثرنهم عليهم بما جعل الله بينهم مودة ورحمة. والكتابيات أخذن دينهن بما علمن أنه دين الرسل وأنهن أمرن بالتمسك به. فإذا نهوا عن نكاح المشركات وأبيحوا نكاح الكتابيات - والإسلام فيهن بالنكاح أرجى - ثبت أن ذلك كان لخبث نهوا، وقد حرم الله الخبائث. والله أعلم.
ثم الله - سبحانه وتعالى - أخبر أنه حرم الخبائث وأحل الطيبات، فلولا أن فيما حرم خبثاً، يحتمل الوقوف عليه، وفيما أحل طيباً لسوى الحرمة والحل له - كان كذلك لم يحتمل التسمية في وصف التحريم والتحليل هو لاغير. وهذا كما وصف المؤمن بالحياة والسمع والبصر، والكافر بضد ذلك بما في كل معنى ذلك، لا أنه اسم لقب دون أن يكون له حقيقة له يسمى. فمثله الذي ذكرت.
ثم كان (الخبث) يكون من وجهين:
من خبث الأحوال، ومن خبث الأفعال، وله سمي الكفر (رجساً)، وكذا الخمر والميسر، وذلك كله بخبث الأفعال. وعلى ذلك يجوز أن يكون تحريم تزويج المسلمات المشركين لخبث الفعل: وهو خوف وقوع الكفر؛ إذ هن يتبعن الرجال فيما يؤثرون من الأفعال ويقلدونهم الدين، فيكون التحريم لهذا الخوف؛ إذ هو الوجه الذي عليه جرى حرمات النكاح من ذلك نحو نكاح ما كثر عددهن بقوله:
{ إِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي ٱلْيَتَامَىٰ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ مَثْنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَ } [النساء: 3]، فمنع عن الخمس، وأكثر الخوف وقوع الجور الذي هو في العقل خبيث، ونكاح الأمة بعد الحرة؛ إذ الطبع ينفر عن مناكحة من يخالط الرجال ويخلوا بهم، لا يؤمن عليه السفاح، فما يؤثر مثلها عند الغناء بالحرة عنده عنها إلا لأمر حدث بينهما مما يبعث ذلك على الجور، فنهوا عن ذلك. وكذلك نكاح المحارم بما قد يجري من الأمور في النكاح مما يحمل على تضييع الحدود وأنواع النشوز الذي يمنع ذلك القيام بحق النسب وصلته، فيكون في ذلك تضييع الفرض. وكذلك محارم المرأة، وعلى هذا يجب تحريم المسلمة على الكتابي وغيره لخوف وقوع فعل الخبث بينهما، وهو الكفر. ولم يقع النهي عن نكاح الزانية والزاني على ذلك؛ لأنه ليس في الطباع احتمال اتباع أحدهما الآخر في ذلك الوجه بل ينفر عن ذلك أشد النفار، فلا يخاف فيه هذا، فهو على الأدب بما يلحق الولد الطعن وصاحبه يشتم به، لا أن يلحقه وصفه موافقة ما ثم إلا لمكن الآخر يكون النهي نهي تحريم؛ بل كان على الإرشاد بما يلحق من الطعن دون ما أن يحدث من تعدي حد أو جور في الفعل. وعلى ذلك أمر نكاح الأمة. والله أعلم.
ثم وجه التفصيل بين الكتابية والمشركة - والله أعلم - في إباحة التناكح: أن المشركة آثرت فعل البهيمي في الدين على فعل البشري، والكتابية آثرت فعل البشري، وهو ما يدعو إليه العقل لا الطباع؛ لأنهن يرجعن في الاختيار إلى الإيمان بالرسل لكن أنهى اليهن أنهم نهوا عن الإيمان بمن يدعوهن إليه، فاعتقدن على ذلك بالآثار عندهن من الحجج، كما اعتقدنا نحن بأن لا نبي بعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، لكن خبرنا صحيح وخبرهم فاسد. وإلا فوجه الاعتقاد على ما في العقل ذلك. وأما المشركة لم تختر ذلك بحجة أنما كان لوجود الآباء على ذلك من غير الإنهاء إلى من في العقل اتباعه؛ كما قالوا:
{ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ... } الآية [الزخرف: 22]، فحرم علينا نكاحها لخبث اختيارها واتباع فعل البهيمي، وإيثاره على فعل البشري. والله أعلم.
وعلى ذلك لو أسلمت لم يعظم درجة إسلامها، لولا أنا نرجو من رحمة الله أن الله - إذا قبلت هي الإسلام - بالاختيار لينير قلبها حتى ينشرح صدرها للحق لكان لا يكون لإسلامها فضل حمد. والله الموفق.
ووجه آخر: أن الكتابية لما آمنت بكتب الأنبياء، عليهم الصلوات والسلام، في الجملة، فقد آمنت بذلك بالرسل جميعاً، لكنها كذبت [- من كذبت -] لما وقع الخبر عندها بخلاف الحقيقة، فأمكن أن تنبه عن حقيقة ذلك بالكتاب الذي آمنت به؛ ليكون إيمانها في الحقيقة إيماناً بمن كذبته بما ظنت أن في ذلك الكتاب تصديقاً. والمشركة احتيج فيها إلى ابتداء الإلزام، لا أن كان معها ما به اللزوم مما قد وجد إيمانها به. والله أعلم. وعلى هذا لا يسلم للمرتد حق الكتاب إذا اختاره؛ لأنا نعلم أنه يظهر ذلك، لا أنه في الحقيقة مختار؛ إذ كتابنا مصدق كتابهم، فلم يجز أن تظهر له بما به التصديق التكذيب ليرجع إلى رد هذا بقبول الآخر. فلذلك لم تحل ذبائحهم. والله أعلم.
ودليل النهي عن النكاح والإنكاح حتى يكون الإيمان، [أن الإيمان] معروف عندهم، يعلمون به حقيقة الشرط. والله أعلم.
ومخاطبات الأولياء في قوله: { وَلاَ تَنْكِحُواْ }، يخرج على الأمر المعروف من التولي، أو على الوقت الذي إليهم حق التولية، أو على أن الحق لهن عليهم في التزويج إذا أردن، فنهوا عن ذلك؛ ليعلم أن لا حق يجب لهم في ذلك. والله أعلم.
وقوله: { يَدْعُونَ إِلَى ٱلنَّارِ }، يحتمل وجهين:
أحدهما: الخبر عما يدعو بعضهم بعضاً إلى عبادة غير الله، وذلك دعاء إلى النار، كما قال الله تعالى:
{ إِنَّمَا يَدْعُواْ حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ ٱلسَّعِيرِ } [فاطر: 6]، بما يوجب الفعل الذي دعوا إليه ذلك فكأنما دعوا إلى ذلك، إذ هو المقصود من الثاني. وعلى ذلك تسمية الجزاء باسم العمل الذي له الجزاء. والله أعلم.
ويحتمل: { يَدْعُونَ } في التناكح للهو واستكثار الأتباع في معاداة الله تعالى ومعاداة أوليائه بالتناكح، والله يدعو إلى التعفف واستكثار الأتباع على ما ينال به مغفرته ورحمته. والله أعلم.
وقوله: { أُوْلَـٰئِكَ يَدْعُونَ إِلَى ٱلنَّارِ }، يعني: يدعون إلى العمل الذي يستوجب به النار.
{ وَٱللَّهُ يَدْعُوۤاْ إِلَى ٱلْجَنَّةِ وَٱلْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ }، يعني يدعو إلى العمل الذي يوجب لهم الجنة والمغفرة والله أعلم، وقوله: { وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ }.