التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ ٱللَّهُ ٱلْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ ٱلَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَأْتِي بِٱلشَّمْسِ مِنَ ٱلْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ ٱلْمَغْرِبِ فَبُهِتَ ٱلَّذِي كَفَرَ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ
٢٥٨
أَوْ كَٱلَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِـي هَـٰذِهِ ٱللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ ٱللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَٱنْظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَٱنْظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَٱنْظُرْ إِلَى ٱلعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٢٥٩
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ ٱلطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ ٱجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ٱدْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَٱعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
٢٦٠
-البقرة

تأويلات أهل السنة

قوله: { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ ٱللَّهُ ٱلْمُلْكَ }.
فقد ذكرنا فيما تقدم أن قوله تعالى: { أَلَمْ تَرَ }، إنما يفتتح به لأعجوبة، كقوله:
{ أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ ٱلظِّلَّ } [الفرقان: 45]، وقوله: { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ ٱلْفِيلِ } [الفيل: 1].
وفيه إباحة التكلم في الكلام والمناظرة فيه والحجاج بقوله: { حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ }، ورد على من يمنع التكلم فيه وهو كذلك؛ لأنا أمرنا بدعاء الكفرة جميعاً إلى وحدانية الله تعالى، والإقرار له بذلك، والمعرفة له أنه كذلك، وكذلك الأنبياء بأجمعهم أمروا وندبوا إلى دعاء الكفرة إلى شهادة أن "لا إله إلا الله وحده لا شريك له"، فإن دعوناهم إلى ذلك لا بد من أن يطلبوا منا الدليل على ذلك، والبيان عليه، والوصف له كما هو له، والتقرير عندهم أنه كذا، فلا يكون ذلك إلا بعد المناظرة والحجاج فيه؛ لذلك قلنا: أن لا بأس بالتكلم والماظرة فيه. وفيه دلالة على إباحة المحاجة في التوحيد.
وفيه الإذن بالنظر في النظر؛ لأنه حاجه لينظر. والله أعلم.
وقوله: { أَنْ آتَاهُ ٱللَّهُ ٱلْمُلْكَ }.
قال أهل الاعتزال في قوله تعالى: { أَنْ آتَاهُ ٱللَّهُ ٱلْمُلْكَ }: هو إبراهيم، عليه السلام، لا ذلك الكافر؛ لقوله تعالى:
{ لاَ يَنَالُ عَهْدِي ٱلظَّالِمِينَ } [البقرة: 124]، أخبر أن عهده لا يناله الظالم، والملك عهد.
لكنه غلط عندنا لوجوه:
أحدها: إن إبراهيم، صلوات الله عليه وسلامه، ما عرف بالملك.
والثاني: أن الآية ذكرت في محاجة ذلك الكافر إبراهيم، ولو كان غير ملك، وكان إبراهيم، عليه السلام، هو الملك، لم يقدر المحاجة مع إبراهيم، عليه السلام إذ لا محاجة إلا عن ملك؛ دل أنه هو الذي كان الملك.
والثالث: قال: { أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ }، ثم قيل: إنه جاء برجلين، فقتل أحدهما، وترك الآخر. فلو لم يكن ملكا لم يتأت له ذلك بين يدي إبراهيم، إذا كان إبراهيم، صلوات الله عليه وسلامه، هو الذي { آتَاهُ ٱللَّهُ ٱلْمُلْكَ }، فدل أن المراد به ذلك الكافر.
ثم (المُلْكُ) يكون في الخلق بأحد أمرين: إما الفضل والشرف والعز والسلطان والدين، وإما من جهة الأموال والطول عليها والقهر والغلبة. فإن لم يكن له (المُلك) من جهة الأول لكان له ذلك بفضول الأموال؛ لذلك كان ما ذكرنا. والله أعلم.
قال الشيخ -رحمه الله تعالى -: أعطى (الملك) ليمتحن به، كما يعطي الغني والصحة ليمتحن بهما.
وقوله تعالى: { إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ ٱلَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ }.
وكان هذا من إبراهيم - عليه السلام - والله أعلم - عن سؤال سبق منه أن قال له ذلك الكافر: من ربك الذي تدعوني إليه؟ فقال: { رَبِّيَ ٱلَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ } وإلا لا يحتمل ابتداء الكلام بهذا على غير سبق سؤال كان منه. وهو ما ذكر في قصة فرعون حيث دعاه موسى إلى الإيمان بربه،
{ قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يٰمُوسَىٰ * قَالَ رَبُّنَا ٱلَّذِيۤ أَعْطَىٰ كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ } [طه: 49-50]، فعلى ذلك الأول.
وقوله تعالى: { قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ }.
أنه دعا برجلين، فقتل أحدهما، وترك الآخر، على ما قيل في القصة.
{ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَأْتِي بِٱلشَّمْسِ مِنَ ٱلْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ ٱلْمَغْرِبِ فَبُهِتَ ٱلَّذِي كَفَرَ }.
قال بعض الجدليين: هذا من إبراهيم، عليه السلام، صرف المحاجة إلى غير ما كان ابتداؤها، ومثله في الظاهر انقطاع وَحَيْد عن الجواب[؛ لأن من حاج آخر شيئاً، وناظره فيه لعلة ضمن وفاء تلك العلة وإتمامها إلى آخره، فإذا اشتغل بغيرها كان منه انقطاع عما ضمن وفاءها؛ فإبراهيم اشتغل بغيرها وترك الأول وهو في الظاهر انقطاع؛] لأن جوابه أن يقول: أنا أفعل كما فعلت، أو أن يقول له: إن هذا الحي كان حيّاً، ولكن أحي هذا الميت.
لكنه، صلوات الله عليه وسلامه، فعل هذا ليظهر عجزه على الناس؛ لأن ذلك كان منه تمويهاً وتلبيساً على قومه أخذ به قلوبهم، فأراد إبراهيم، صلوات الله عليه وسلامه، أن يظهر عليه من الحجة ما هو أظهر وأعجز له، وآخذ للقلوب.
والثاني: أراد أن يريه أن هذا مما قدر عليه بغيره، إذ الذي لم يجعل له القدرة عليه لم يقدر عليه، ثم لما ثبت عجزه في أحدهما يظهر عجزه في الآخر. والله أعلم.
وقيل: بأن هذا من إبراهيم انتقال من حجة إلى حجة، ليس بانقطاع. وهو جائز.
وقوله: { فَبُهِتَ ٱلَّذِي كَفَرَ }، قيل: انقطع وتحير.
وقوله تعالى: { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ }.
ذكر الظالم؛ لأن الظلم هو وضع الشيء في غير محله، حيث هذا اللعين المحاج في غير موضعه.
وقوله تعالى: { أَوْ كَٱلَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ }.
قيل: هو نسق قوله: { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ }.
وقيل: هو نسق على قوله: { أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ }؛ لأنه ذلك أنكر البعث.
ثم اختلف في المار على القرية:
قال بعضهم: كافر قال ذلك.
وقال آخرون: لا، ولكن قال ذلك مسلم.
وقال أكثر أهل التأويل: هو عزير.
فإن كان قائل ذلك كافراً فهو على إنكار البعث والإحياء [بعد إماتة]. وإن كان مسلماً فهو على معرفة كيفية الإحياء، ليس على الإنكار، وهو كقول إبراهيم - عليه الصلاة والسلام -: { رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } [البقرة: 260]. وليس لنا إلى معرفة قائله حاجة، إنما الحاجة إلى معرفة ما ذكر في الآية. والله أعلم.
وقوله تعالى: { وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا }.
قيل: خالية من سكانها.
وقيل: (خاوية)، ساقطة سقوفها على حيطانها، وحيطانها على سقوفها.
وقوله تعالى: { قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِـي هَـٰذِهِ ٱللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا }.
هو على ما ذكرنا.
وقوله تعالى: { فَأَمَاتَهُ ٱللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ }.
أراد - والله أعلم - أن يرى الآية في نفسه، والآية هي آية البعث، ويحتمل أن تكون آية في المتأخرين.
وقوله تعالى: { قَالَ كَمْ لَبِثْتَ }.
سأل منه - جل وعلا - الاجتهاد بظاهر الحال الذي ظهر عنده، ليظهر أنه اجتهد بدليل أو بغيره على ما يدركه وسعة؛ فبان أن المجتهد يحل له الاجتهاد بما يدرك في ظاهر الحال. وإن كان حكم ما فيه الاجتهاد بالغيب.
قال الشيخ -رحمه الله -: أراد الله تعالى بقوله: { كَمْ لَبِثْتَ }، التنبيه؛ كقوله لموسى:
{ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يٰمُوسَىٰ } ؛ [طه: 17]، ليريه الآية من الوجه الذي هو أقرب إلى الفهم ثم جهة الأعجوبة فيه بوجهين:
مرة بإماته الحمار، إذ من طبعه الدوام، ومرة بإبقاء طعامه، ومن طبعه التغير والفساد عن سريع. جعل في بقاء طعامه وحفظه من الفساد آية ومن طبعه الفساد، وفي إحياء حماره بعد إماتته وطبعه البقاء؛ ليعلم ما نازعته نفسه في كيفية الإحياء درك ذلك؛ وهو قوله: { قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }.
ثم قيل في وجهةِ ما أراه بأوجه:
قيل: إنه أحيا عينيه وقلبه، فأدرك بهما كيفية الإحياء في بقية نفسه.
وقيل: أحيا نفسه، فأراه ذلك في حماره.
وقيل: إنه أراه ذلك في ولده؛ لأنه أتى شابّاً، وولده وولد ولده شيوخ. وذلك آية.
قال الشيخ -رحمه الله تعالى - في قوله: { ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ... } الآية: فإن قال قائل: كيف سأله عن لبثه، وقد علم أنه لم يكن علم به؟ وأيد ذلك إخباره بقوله { لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ }.
قيل: القول { كَمْ لَبِثْتَ }، يحتمل وجهين؛ وكذلك القول بقوله: { بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ }:
أحدهما: على قول ألقي إليه ونطق أسمع هو.
والثاني: أن يكون على ما حدثته نفسه بمدة لبثه في حال نومه، فتأمل في ذلك أحوال نومه، وأخبر عما عاين من أحوال الوقت الذي كان فيه مما كان ابتداؤه وقت نومه، فقال بالذي ذكرتم لمَّا تأمل شأن الحمار، واستخبر عن الأحوال، قالت له نفسه: { بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ }، ثم أمعن نظره في حماره، وما رأى من تغير أحواله، وأبقاه الله تعالى على ما ذكر. وكل ذلك خبر عما حدثته نفسه، هي بعثه، على التفكر في أحواله، والنظر فيما عاين من أمر الحمار، أو كان علم أن ذلك موت فيه، لكنه استقل ذلك بما شهد نفسه بما عيانها على ما كانت عليها. فلما تأمل شأن حماره [و] علم أنه رفع إلى آيات عجيبة، فزع إلى الله تعالى، فأنبأه الله تعالى بالذي وصف في القرآن. والله أعلم.
ولو كان على القول فإن في السؤال عما يعلم السائل جهل المسئول وجهين:
أحدهما: الامتحان على ما به ظهور أحوال الممتحن من الاجتهاد في تعريف الحقائق بالاستدلال والخضوع له بالاعتراف بقصوره عن الإحاطة به، كفعل الملائكة عند قوله تعالى:
{ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هَـٰؤُلاۤءِ } [البقرة: 31]، بقولهم: { لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ } [البقرة: 32]، والأول كما فعل صاحب هذا أنه قال: { لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ }، ومثله أمر أصحاب الكهف. والله أعلم.
والثاني: أن يراد بالسؤال التقرير عنده؛ ليكون متيقظاً لما يراد به من الاطلاع على الآية، كما قال لموسى:
{ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يٰمُوسَىٰ... } الآية [طه: 17]. وهذا فيما كان السؤال في الظاهر خارجاً في الحقيقة مخرج المحنة، نحو ما ذكرنا في أمر الملائكة، وأمر موسى، عليه السلام، فأما السؤال الذي هو في حق السؤال إنما هو في حق الاستخبار، ليعلم ما عليه حقيقة الحال بالسؤال. لكن الذي ذكرت فيما كان سبيله أن يكون من له الامتحان. ولا قوة إلا بالله.
وقوله تعالى: { فَٱنْظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ }.
قيل: لم يأت عليه السنون، أي: كأنه لم يأت عليه السنون.
وقيل: { لَمْ يَتَسَنَّهْ }، لم يتغير ولم ينتن.
والأول أشبه؛ لأنه يقال من التغير والتنتن: لم يتسنن.
وقوله تعالى: { وَٱنْظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَٱنْظُرْ إِلَى ٱلعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً }.
وهو من الأحياء.
و{ نُنْشِزُهَا } بالزاي - وهو من الارتفاع والنصب.
وفيه لغة أخرى: "ننشرها" بالراء، وهو من الأحياء. و"ننشرها" من النشر.
وقوله تعالى: { فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }.
{ أَعْلَمُ }، بالنصب [والخفض:
فمن قرأه بالنصب]، صرف قوله: { أَنَّىٰ يُحْيِـي هَـٰذِهِ ٱللَّهُ }، إلى المسلم.
ومن قرأ { أَعْلَمُ } بالخفض صرف إلى الكافر، يقول الله له: اعلم أن الله على كل شيء قدير. ويحتمل أيضاً صرفه إلى المسلم: "واعلم"، على الإخبار، كأنه قال: اعلم ما كنت تعلمه غيباً مشاهدة.
وفي هذه الآية الآيات إثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم؛ وذلك أن هذه القصص كانت ظاهرة بينهم، ولم يكن له اختلاف إليهم، ولا النظر في كتبهم، ثم أخبر على ما كان؛ ليعلم أنه إنما علم ذلك بالله عز وجل ثناؤه.
وقوله تعالى: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ ٱلطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ ٱجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ٱدْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَٱعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }.
قال بعضهم: كان إبراهيم، عليه السلام، موقنا بأن الله يحيي الموتى، ولكن أحب أن يعاين ذلك؛ لأن الخبر لا يكون عند ابن آدم كالعيان، على ما قيل: "ليس الخبر كالمعاينة".
وقيل: يحتمل سؤاله عما يسأل لما نازعته نفسه وحدثته في كيفية الإحياء، وقد تنازع النفس وتحدث بما لا حاجة لها إليه من حيث نفسه؛ ليقع له فضل علم ومعرفة.
وقيل: { لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي }، أي: ليسكن قلبي وأعلم أنك قد استجبت لي فيما دعوتك، وأعطيتني الذي سألتك.
وقيل: { أَوَلَمْ تُؤْمِن }، أي: أو لم توقن بالخلة التي خاللتك؟ قال: بلى.
سأل ربه على الخلة.
وقيل: { أَوَلَمْ تُؤْمِن }، قال: { بَلَىٰ }، { وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي }، بأنك أريتني الذي أردت.
ويحتمل: أن يكون إبراهيم، عليه الصلاة والسلام، أراد بسؤاله ذلك أن تكون له آية حسية؛ لأن آيات إبراهيم كلها كانت عقلية، وآيات سائر الأنبياء كانت عقلية وحسية، فأحب إبراهيم، صلوات الله عليه وسلامه، أن تكون له آية حسية، على ما لهم، كسؤال زكريا ربه حيث قال:
{ رَبِّ ٱجْعَلْ لِّيۤ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً } [آل عمران: 41]، جعل له آية حسية؛ فعلى ذلك سؤال إبراهيم، عليه السلام.
وقوله تعالى: { فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ ٱلطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ }.
معناه: وجههن إليك، كقول الرجل: "صر وجهك إليَّ"، أي: حول وجهك إليَّ.
وروي في حرف ابن مسعود - رضي الله تعالى عنه -: "فصِرْهن إليك"، بالكسر، بمعنى قطعهن، قيل: هو التقطيع.
وقيل: (فصرهن إليك)، أضممهن.