التفاسير

< >
عرض

وَإِذِ ٱسْتَسْقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْحَجَرَ فَٱنفَجَرَتْ مِنْهُ ٱثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ ٱللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي ٱلأَرْضِ مُفْسِدِينَ
٦٠
وَإِذْ قُلْتُمْ يَٰمُوسَىٰ لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ ٱلأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ ٱلَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِٱلَّذِي هُوَ خَيْرٌ ٱهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ وَٱلْمَسْكَنَةُ وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَيَقْتُلُونَ ٱلنَّبِيِّينَ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ ذٰلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ
٦١
-البقرة

تأويلات أهل السنة

قوله: { وَإِذِ ٱسْتَسْقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْحَجَرَ }.
يعني: طلب الماء لقومه عند حاجتهم إليه؛ فأَوحى الله - تعالى - إليه: أَن اضرب بعصاك الحجر.
قد ذكرنا فيما تقدم: أَن الله - عز وجل - قد أَراهم منْ عَصَاهُ آيات عجيبة، من نحو الثعبان الذي كان يتلقف ما يأْفكون؛ كقوله:
{ فَأَلْقَىٰ مُوسَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ } [الشعراء: 45]، وقوله: { فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ } [الشعراء: 32].
ومن ضربه البحر بها حتى انفلق؛ كقوله:
{ فَٱنفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَٱلطَّوْدِ ٱلْعَظِيمِ } [الشعراء: 63].
ومن ضربه الحجر بها، وانفجار العيون منه، وغير ذلك من الآيات مما يكثر، ذكرها عز وجل من آيات رسالته، وآيات نبُوته.
وفيما أرى منها، من عجيب آياته: دلالةُ حدوث العالم وإبداعه، لا من شيء؛ لأَنه - عز وجل - قد أَخرج بلطفه، من حجر يصغر في نفسه - مما يحمل من مكان إلى مكان - من الماءِ ما يكفي لخلق لا يحصى عددهم إلا الله، وفجر منه أَنهاراً، لكل فريق نهر على حدة.
ثم لا يحتمل: كون ذلك الماءِ بكليته فيه، لصغره وخفته، ولا كان ينبغي ذلك من أَسفله.
فإذا كان هذا كما ذكرنا ظهر أن الله - عز وجل - كان ينشىء ذلك الماء فيه، ويحدث من لا شيء؛ لأَن ذلك الحجر لم يكن من جوهر الماءِ، ولا من أَصله.
فإذا كان قادراً على هذا فإنه قادر على إنشاءِ العالم من لا شيء سبق، ولا أَصل تقدم.
وكذلك ما أَراهم - عز وجل - من العصا: الثعبان والحية، لم يكونا من جوهرها، ولا من أَصلها، ولا تولدها منها، بل أَنشأَ ذلك وأَبدع، بلطفه. والله الموفق.
وقوله: { فَٱنفَجَرَتْ مِنْهُ ٱثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً }.
قيل: كانوا اثني عشر سبطاً؛ لقوله:
{ ٱثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً } [المائدة: 12] وهم بنو يعقوب؛ فجعل لكل سبط نهراً على حدة، فانظم كل فريق إلى أبيهم الذي كانوا منه، ولم ينضموا إلى أَعمامهم وبني أعمامهم.
ففيه دلالة: أَن المواريث لا تصرف إلى غير الآباءِ إلا بعد انقطاع أَهل الاتصال بالآباءِ.
وفيه دلالة: أَن القوم في الصحارى والبوادي ينزلون مجموعين غير متفرقين، ولا متباعدين بعضهم من بعض بحيث يكون بعضهم عوناً لبعض وظهيراً؛ لأَنهم نزلوا جميعاً في موضع واحد، مجموعين - مع كثرتهم وازدحامهم - غير متفرقين ولا متباعدين، وإن كان ذلك أنَفع لهم، وأَهون عليهم، من جهة الرعى والربع وسعة المنازل.
وفي الأَول: سبق المعنى الذي وصفنا، والله أعلم.
وقوله: { قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ }.
أي: موردهم.
وفيه دلالة قطع التنازع، ودفع الاختلاف من بينهم؛ لما بين لكل فريق منهم مورداً على حدة.
ولو كان مشتركاً لخيف وقوع التنازع والاختلاف بينهم، وفي وقوع ذلك بينهم قطع الأَنساب والأَرحام، وبالله التوفيق.
وقوله: { كُلُواْ }.
يعني: المنَّ والسلوى.
وقوله: { وَٱشْرَبُواْ } من رزق الله، من الماءِ الذي أَخرج لهم من الحجر، وكلاهما رزق الله، الذي ساقه إليهم، من غير تكلف ولا مشقة.
وقوله: { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي ٱلأَرْضِ مُفْسِدِينَ }.
قيل: لا تسعوا في الأرض بالفساد.
ويحتمل: لا تعثوا، أَي: لا تفسدوا؛ لأن العُثُوَّ هو الفساد نفسه، كأَنه قال: لا تفسدوا في الأرض؛ فتكونوا مفسدين.
وقوله: { وَإِذْ قُلْتُمْ يَٰمُوسَىٰ لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ }.
قيل فيه بوجوه:
قيل: أَول ما أنزل المن، فعند ذلك قالوا: لن نصبر على طعام واحد، ثم أَنزل السلوى.
وقيل: كانوا يتخذون من المن القُرَص، فيأْكلون مع السلوى، فهو طعام واحد؛ فقالوا: لن نصبر عليه.
ويحتمل: أَن يكون طعامهم في اليوم مرة؛ فطلبوا الأَطعمة المختلفة. والله أعلم.
وقوله: { فَٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ ٱلأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا }.
قال: يبين لنا معنى إضافة خصوصية الأشياءِ إلى الله - عز وجل - يخرج مخرج التعظيم لذلك الشيء المخصوص، من ذلك: بيت الله، ورسول الله، وناقة الله، هذا كله يخرج مخرج التعظيم لهذه الأَشياءِ.
وإضافة كلية الأشياءِ إلى الله تعالى يخرج مخرج تعظيم الرب وإجلاله، نحو ما قال:
{ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ } [الأنعام: 164]، و { خَٰلِقُ كُلِّ شَيْءٍ } [الرعد: 16، الأنعام: 102، الزمر: 62، غافر: 62]، و { رَّبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } [الرعد: 16، الأنبياء: 56]، و { خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ } [الأنعام: 1، الأعراف: 54، يونس: 3] ونحوه. هذا كله وصف تعظيم الرب وأجلاله.
وقد اختلف في "الفوم":
قيل: الفوم هو الثوم، وكذلك رُوِى في قراءة عبد الله أَنه قرأَه: وثومها.
وقيل: الفوم البر.
وقوله: { أَتَسْتَبْدِلُونَ ٱلَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِٱلَّذِي هُوَ خَيْرٌ }.
قيل فى "أدنى" بوجوه:
قيل: أَدنى في القيمة.
وقيل: أَدنى في الخطر والرغبة.
وقيل: أدنى في المنافع.
وقيل: أَدنى؛ لما لا يصل هذا إليهم إلا بالمؤنة والمشقة، وذلك لهم بلا مؤنة ولا مشقة؛ فهو خير.
وكل يرجع إلى واحد، والله أَعلم.
ويحتمل: أَدنى، أَي: أَدْوَن وأَقل، ولا شك أَن ما طلبوا، وسَأَلوا دون الذي كان لهم.
ويحتمل: { أَتَسْتَبْدِلُونَ ٱلَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِٱلَّذِي هُوَ خَيْرٌ }: قد أعطوا.
ولو كان ذلك أَصلح لهم في الدين، لم يكن موسى ليلومهم عليه. ثبت أنه لم يكن، ثم أعطوا ذلك. ثبت أَن الله تعالى قد يجوز له - في الحكمة - فعل ما كان غيره أَصلح لهم في الدين، ولا قوة إلا بالله.
وقوله: { ٱهْبِطُواْ مِصْراً }.
قيل: المصر المعروف.
وقيل: مصر من الأَمصار؛ لأَن ما طلبوا لا يوجد إلا في الأَمصار، وبالله التوفيق.
وقوله: { فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ }.
من الأَطعمة المختلفة إن كان المراد منه المراد، وإن كان الأَطعمة المختلفة فَهو كما قال.
وقوله: { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ }.
قيل فيه بوجوه:
قيل: الذلة: ذلة احتمال المؤنة والشدائد؛ لما سأَلوا من الأَطعمة المختلفة.
وقيل: الذلة: ذلة الجزية والصغار؛ بعصيانهم ربَّهم.
وقيل: ذلة الكسب والعمل؛ لأَن الأَول كان يأْتيهم من غير كسب ولا مؤنة.
وقوله: { وَٱلْمَسْكَنَةُ }.
قيل: هي الفقر والحاجة.
وقيل: قطعُ رجائهم من الآخرة، ؛ لم عصوا ربهم.
وقوله: { وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ }.
قيل: فيه بوجوه:
قيل: باءُوا: رجعوا.
وقيل: استوجبوا.
وقيل: أَقَروا، وكله يرجع إلى واحد.
وقوله: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ }.
قد ذكرنا فيما تقدم: أَن الآيات، هي الحجج التي أَعطى الرسل، وأَجراها على أيديهم.
وقال الحسن: هي دين الله.
وقوله: { وَيَقْتُلُونَ ٱلنَّبِيِّينَ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ ذٰلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ }.
يحتمل: أن يكون هذا في غيرهم؛ لأَنه لم يكن في زمن موسى نبي سوى هارون، وهم لم يقتلوه.
إلا أَن يقال: إن ذلك كان من أولادهم بعد موسى.
أو كان ذلك من غيرهم سوى هؤلاء وأَولادهم.
على أَن قتل الأَنبياء في بني إسرائيل كان ظاهراً، حتى قيل: قتل في يوم كذا كذا نبيّاً.
ولم يذكر قتل رسول من الرسل، وذلك - والله أعلم - لقوله:
{ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا } [غافر: 51]، ولقوله: { إِنَّهُمْ لَهُمُ ٱلْمَنصُورُونَ } [الصافات: 172] أَخبر أَنه ينصرهم، وأَنهم منصورون ومن كان الله ناصره فهو المنصور أَبدا.
ولأَن الرسل هم الذين أُوتوا الآيات المعجزة؛ فلم يكن لهم استقبال الرسل بذلك للآيات التي كانت معهم.
وأما الأَنبياء، فلم يكن معهم تلك الآيات المعجزة، وإنما كانوا يدعون الخلق إلى دين الله بالآيات التي كانت للرسل، والحجج التي كانت معهم؛ لذلك كان ما ذكر، والله أعلم.
قال قوم: لم يقتل أَحد من الرسل، وإنما قتل الأَنبياء، أَو رسل الرسل.
فإن كان كذلك فعلى ذلك يخرج ما ذكرنا من الآيات.
وإن لم يكن فالنصر كان بالحجج والآيات؛ فكانت تلك للكل.
وعلى ذلك: لا دلالة في كون الآيات مع الأَنبياء، وغير كونها، فإن لم يكن لهم ابتداء شرع، ولا نسخ، بل على الدعاء إلى ما سبق من الشرائع وكانت آياتهم كآيات الرسل، أَو دلالات العصمة، مع ما كان بهم حفظ الكتب السماوية بلا تبديل.
والله أَعلم بالحق في ذلك، ونعتصم بالله عن بسط اللسان في ذلك، بالتدبير، دون شيء ظهر على أَلسن الرسل، أَو القول فيهم بشيء إن كانت آية لكل، أَوْ لا. لكن الله تعالى قد أَقام حجته لكلٍّ على قدر الكفاية والتمام.