التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُوۤاْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِٱللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ ٱلْجَاهِلِينَ
٦٧
قَالُواْ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذٰلِكَ فَٱفْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ
٦٨
قَالُواْ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَآءُ فَاقِـعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ ٱلنَّاظِرِينَ
٦٩
قَالُواْ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ ٱلبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِن شَآءَ ٱللَّهُ لَمُهْتَدُونَ
٧٠
قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ ٱلأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي ٱلْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ ٱلآنَ جِئْتَ بِٱلْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ
٧١
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَٱدَّارَأْتُمْ فِيهَا وَٱللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ
٧٢
فَقُلْنَا ٱضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي ٱللَّهُ ٱلْمَوْتَىٰ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
٧٣
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذٰلِكَ فَهِيَ كَٱلْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ ٱلْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ ٱلأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ ٱلْمَآءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ
٧٤
-البقرة

تأويلات أهل السنة

قوله: { وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً }.
قيل: قُتِل قتيلٌ في بني إِسرائيل، وأُلْقيَ على باب غيرِهم؛ فتنازعوا فيه واختلفوا؛ فأَمر الله نبيَّه موسى أَن يذبحوا بقرةً، فقال: { إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً } فاضربوه ببعضها ذلك الميت؛ فيحيى، فيقول: مَنْ قتلني.
وقوله: { قَالُوۤاْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِٱللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ ٱلْجَاهِلِينَ * قَالُواْ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ }.
قال بعضُهم: كفروا بهذا القول؛ لأَنهم سمَّوْه هازئاً، ومن سَمَّى رسولاً من الرسل هازئاً يكفر؛ أَلا ترى أَنهم قالوا في الآخِر: { قَالُواْ ٱلآنَ جِئْتَ بِٱلْحَقِّ }؟! دل أَن ما قال لهم أَولَ مرَّةٍ ليس بحق عندهم.
وليس هذا بشيء. ولا يحتمل ما قالوا.
ولكن يحمل على المجازاة، كأَنهم قالوا: أتجازينا بهذا لما مضى منا وسبق من العصيان بك، والخلاف لك؟! لما لم يعلموا أَنه من عند الله يأْمر بذلك.
وهذا وأَمثاله على المجازاة جائزٌ على ما ذكرنا من الاستهزاءِ، والمخادعة، والمكر، كله على المجازاة جائز.
وكقول نوح لقومه:
{ فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ } [هود: 38] على المجازاة [جائز على ما ذكرنا من الاستهزاء]؛ فكذلك الأَول.
وأما الاستهزاء فيما بين الخلق فهو جهل يسخر بعضهم ببعض؛ لجهلٍ بأَحوال أَنفسهم؛ إذ كلهم سواء مِن جهة الجوْهر والخِلْقة، وتركيب الجوارح، وتصوير الصُّور، وتمثيلها.
أَلا ترى: أن موسى أجاب لهم عن الهزء بالجهْل، فقال: { أَعُوذُ بِٱللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ ٱلْجَاهِلِينَ }؟!
دل أَن الهزء في الخلق لجهلٍ فيهم، وبالله التوفيق.
ثم استدل قوم بهذه الآية على: عموم الخطاب وقت قرْع السمع؛ لأَنه أَمرهم بذبح بقرة لم يبين لهم كيفيَّتها، ولا ماهيتها وقت الخطاب، إلا بعد البحث والسؤال عنها؛ فثبت أَنه على العموم.
أَلا ترى ما روي في الخبر:
"لو عمدوا إلى أَدنى بقرة لأَجزأتهم، لكنهم شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم" .
لكن هذا لا يصح؛ لأَنه دعوى على الله، لحدوث شيء في أَمره، وبُدُوٍّ في حكمه، فذلك كفرٌ، لا يقوله مسلم، فضلاً عن أَن يقولَ به رسولٌ من الرسل.
تأْويل هذا أَنه قال: إنه يقول كذا، فلو كان الأَول على غير ذلك لكان قد بدا له فيما عم وفسر بما لم يكن أَرادَ. وذلك معنى البداءِ، بل معنى الرجوع عن الأَول مما أَراد، والتفسير له بغَيره، ولا قوة إلا بالله.
ثم في الآية دليل خصوص الخطاب من وجهين:
أَحدهما: أَخذُ كل آيةٍ خرجت في الظاهر على العموم حتى الخصوص.
والثاني: جواز تأْخير البيان على تقدم الأَمر به؛ لما ذكرنا: أنها لو حملت على العموم - وهو مرادها - ثم ظهر الخصوص، فهو بدو وحدوث في الأَحكام والشرائع، فذلك حال من جهل العواقب والنهايات، تعالى الله عن ذلك.
ومعنى سُؤالهم؛ بدعاءِ الرب لهم: البيان بما أريد جعل ذلك آية؛ فوقع عندهم: أَنْ لا كل بقرة تصلح للآيات، ولذلك لم يسأَلوا موسى عن تفسيرها؛ إذ الله - تعالى - هو الذي يعلم الآيات.
والحرف الثاني هو الأَول الذي قلنا: إليه انصرف المراد في الابتداءِ؛ لما يوجبه، وأَن الأَمر بالذبح في الابتداءِ كان على ما آل أَمرها إليه وظهر.
لكنهم أمروا بالسؤال عنها، والبحث عن أَحوالها؛ ليصلوا إلى المراد فيه، لا أَنه أَحدث لهم ذلك بالسؤال.
وعلى ذلك: ما روي في الخبر:
"أَن صلة الرحم تزيد في العمر" .
أَي: لما علم من عبده أَنه يصل رحمه، جعل مدة عمره أَكثر مما لو علم أَنه لا يصل، لا أَنه يجعل أَجله إلى وقتٍ، فإذا وصل رحمه زادَ على ذلك.
لا على ما يقوله المعتزلة: أَن الله - تعالى - يجعل لكل أَحد أَجلين، فإذا وَصَل رحمه أَماته في أَبْعد الأَجلين، وإذا لم يصل جعلَ أَجله الأولَ.
فهذا أَمر من يجهل العواقب، فأَما من كان عالماً بالعواقب فلا؛ لأَنه بدوٌّ ورجوعٌ عما تقدم من الأَمر.
ثم من استدل بهذه الآية: بقبول قول أَولياءِ المقتول وَهِمَ؛ لأَوجهٍ:
أَحدها: ما لا يقبل قول القتيل قبل خروج الروح منه: إنَّ فلاناً قتلني، في قطع حَق الميراث، وإغرام الدية.
والثاني: أَن ذلك كان آية عظيمة لهم، لم يكن ذلك لغيرهم.
والثالث: أَن أَولياء المقتول قد كانوا - قبل أَن يحيى - يدَّعون عليهم القتل، فلو كان لهم حق القبول، لم يحتج إلى تلك الآية.
والرابع: أَن قبول قول الميت أَحق من قبول قول الولي؛ لأَن الوليَّ ينتفع بقوله، والميت لا ينتفع بقوله شيئاً، ثم القتيل لا يقبل قوله في شريعتنا فكذلك الولي، والله الموفق.
ثُم وَجْه جعْلِ البقرة آيةً دون غيرها من البهائم وجهان:
أَحدهما: ما رُوي أَن رجلاً كان بارّاً بوالديْه، محسناً إليهما عاطفاً عليهما، وكانت له بقرة على تلك الصفة والشبه، فأَراد الله - عز وجل - أَن يوصل إليه في الدنيا جزاء ما كان منه بمكان والديْهِ.
والثاني: أَنهم كانوا يعبدون البُقُور والعَجَاجيل، وحُبِّبَ ذلك إليهم؛ كقوله:
{ وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلْعِجْلَ } [البقرة: 93]، ثم تابوا وعادوا إلى عبادة الله وطاعته، فأَراد الله أَن يمتحنهم بذبح ما حُبِّب إليهم؛ ليظهر منهم حقيقة التوبة، وانقلاع ما كان في قلُوبهم من حب البُقُور والعجاجيل، والله أعلم.
وقوله: { لاَّ فَارِضٌ }.
يقول: ليست بكبيرة.
وقوله: { وَلاَ بِكْرٌ }.
ولا شابة.
وقوله: { عَوَانٌ بَيْنَ ذٰلِكَ فَٱفْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ }.
بين الشابة والكبيرة.
وقيل: { لاَّ فَارِضٌ }: لا كبيرة، على ما ذكرنا { وَلاَ بِكْرٌ }، أَي: ولا ما [لا] تلد، { عَوَانٌ بَيْنَ } أي: قد ولدت بطناً أَو بَطنَين.
وقوله: { صَفْرَآءُ }.
قيل: الصفراءُ؛ التي تضرب إلى السواد، وذلك لشدته.
وقيل: الصفراءُ؛ من الصّفَر المعروف.
وقوله: { فَاقِـعٌ لَّوْنُهَا }.
قيل: صاَفٍ.
وقوله: { تَسُرُّ ٱلنَّاظِرِينَ }.
تُعْجِب الناظرين.
وقيل: { فَاقِـعٌ لَّوْنُهَا }؛ صَفْرَاءُ الظلف والقَرن، والله أعلم.
وقوله: { قَالُواْ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ ٱلبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِن شَآءَ ٱللَّهُ لَمُهْتَدُونَ }.
وقوم موسى مع غلظ أفهامهم، ورقة عقولهم - أَعرف لله، وأَمهلُ توحيداً من المعتزلة؛ لأَنهم قالوا: إنْ شَاءَ الله لكنا من المهتدين.
والمعتزلة يقولون: قد شاءَ الله أَن يهتدوا، وشاءُوا هُم ألا يهتدوا؛ فغلَبَتْ مشيئَتُهم على مشيئة الله على قولهم - فنعُوذ بالله من السَّرَفِ في القول، والجهل في الدين.
وقوله: { قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ ٱلأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي ٱلْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ ٱلآنَ جِئْتَ بِٱلْحَقِّ فَذَبَحُوهَا }.
قيل: لم يذللها لِلعمل؛ أَي: لم يزرع عليها، ولا هي مما يُسقى عليها الحرث.
وقيل: { لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ ٱلأَرْضَ }؛ أي: بقرة وحشية صعبة، تثير الأَرض، ولكن إثارة الأَرض لم تذللها؛ لصعوبتها وشدتها.
وقوله: { وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ }.
قيل فيه بوجوه:
{ وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ }، خوفاً على أَنفسهم أَن يفتضحوا لظهور القاتل.
وقيل: { وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ } لغلاءِ ثمنها.
والأولُ أَقرب، والله أعلم.
وقيل: إنهم استقصَوْأ في صفة تلك البقرة، والسؤال عن أحوالها، والاستقصاءُ في الشيء ربما يكون للمدافعة، والله الموفق.
وفي قوله: { إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً } دليلٌ لأَبي حنيفةَ - رَحمَهُ الله وَأصحابِه - أَن من حَلَف لا يأْكل لحم بقرَةٍ، فأَكل لحْم ثَور حنث؛ لأَن الله تعالى ذكر البقرةَ, ثم بين في آخره ما يدل على أَنه أَراد به الثورَ؛ لقوله: { لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ ٱلأَرْضَ }.
والثوْرُ هو الذي يثير الأَرض، ويسقي الحرث، دون الأُنثى منها؛ لذلك كان الجواب على ما ذكرنا.
إلا أَن يكونوا هُمْ كانوا يحرثون بالأُنثى منها كما يَحرث أَهل الزمان بالذكَر، فحينئذ لا يكون فيه دليلٌ لما ذكرنا، والله أَعلم.
وقوله: { وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَٱدَّارَأْتُمْ فِيهَا وَٱللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ }.
في الآية: دليلٌ مُرادِ الخصوص - وإن خرجت في الظاهر مخرج العموم - لأَنه قال عز وجل: { قَتَلْتُمْ }، وإنما قتله واحد، وقال: { وَٱللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ }، وإنما كان كتمه الذي قتله.
لذلك قلنا: ألا نصْرف مرادَ الآية إلى العموم بلفظ العموم، ولا إلى الخصوص بلفظ الخصوص إلا بعد قيام الدليل والبرهان على ذلك، والله الموفق.
وقوله: { فَقُلْنَا ٱضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا }.
قال بعضهم: بفخذها الأَيمن.
لكن هذا لا يعلم إلا بخبر عن الله تعالى، ولكن يقال: { بِبَعْضِهَا } بقدر ما في الكتاب.
وقوله: { كَذَلِكَ يُحْيِي ٱللَّهُ ٱلْمَوْتَىٰ }.
أَي: هكذا يُحيي الله الموتى، من الوجه الذي لا يتوهمون إحياءَه، بضرب بعض البقرة عليه.
وكذلك قوله:
{ وَٱللَّهُ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ ٱلرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَىٰ بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ ٱلنُّشُورُ } [فاطر: 9].
فكما أَحيا الأَرض بَعد موتها بالمطر المنزل من السماءِ، يقدر على إحياءِ الموتى، وبعثهم على الوجه الذي لا يظنون ولا يتوهمون، والله أعلم.
ويحتمل: إحياء ذلك القتيل لهم، لما لم يكونوا اطمَأَنُّوا على إِحياءِ الموتى؛ فأَرَاهُم الله - عز وجل - ذلك؛ ليطمئنوا، وليَسْتَقِروا على ذلك، ولا يضْطَربوا فيه، والله أعلم.
وقوله: { وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ }.
يحتمل: يُريكم آيات وحدانيته.
ويحتمل: يريكم آيات إِحياءِ الموتى، وآيات البعث.
ويحتمل: آياته فيما تحتاجون إليه، كما أَرى من تقدمكم عند حاجاتهم.
ويحتمل: { وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ } آيات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم؛ إذ هو خبَّر عن الغيب.
وأَوضح آيات الرسالة؛ الخَبَرُ عن الغيْبِ، وذكرُ القصة على الوجه الذي يعلم أَن الاختراع لا يبلغ ذلك؛ لتعلموا أَنه بالله علم؛ إذ لم يذكر له خط كتاب، ولا اختلافٌ إلى من عنده.
على أَنه لو كان مسموعاً منهم، يجرى على مثله القول بالزيادة والنقصان، ولكن منعهم الله تعالى عن ذلك - إذ علموا صدقه - إشفاقاً على أَنفسهم، أَن ينزل عليهم نِقْمة الله.
وقوله: { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }.
لكي تَعقلُوا آيات وحدانيته، وتعقلوا أَنه قادر على إِحياءِ الموتى بَعْدَ الموت.
وقوله: { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذٰلِكَ فَهِيَ كَٱلْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ ٱلْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ ٱلأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ ٱلْمَآءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ }.
ضرب الله لقلوبهم مثلاً بالحجارة، وشبهها بها، لتساويها، وشدة صلابتها، وأَنها أَشدُّ قسوةً من الحجارة، وذلك: أَن من الحجارة - مع صلابتها وشدتها، مع فقد أسباب الفهم والعقل عنها، وزوال الخطاب منها - ما تخضع له، وتتصدع؛ كقوله:
{ لَوْ أَنزَلْنَا هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ } [الحشر: 21].
وقوله:
{ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ... } الآية [الأعراف: 143].
وقلبُ الكافر - مع وجود أسباب الفهم والعقل، وسعة سببية القبول - لا يخضع له، ولا يلين.
وكذلك أَخبر الله عز وجل عن الجبال أَنها تلينُ، وتخضع لهول ذلك اليوم بقوله:
{ وَتَكُونُ ٱلْجِبَالُ كَٱلْعِهْنِ ٱلْمَنفُوشِ } [القارعة: 5]. وقلبُ الكافر لا يلين أَبداً.
أَو أَن يقال: إنّ الله عز وجل جعل من الجبال مَنافِع للخلق مع صلابتها وشدتها حتى يتفجر منه الأَنهار والمياه. وقلبُ الكافر - مع احتمال ذلك وإمكانه - لا منفعة منه لأَحدٍ. وبالله التوفيق.
ثم وجه حكمة ضرب قلوبهم مثلاً بالحجارة، وتشبيهها بها، دونَ غيرها من الأَشياء الصُّلبة؛ من الحديد، والصُّفْر، وغيرهما، وذلك - والله أعلم - أَن الحديد تُلينه النار، وكذلك الصُّفْر حتى تضرب منهما الأَواني.
والحجرُ لا تُلينهُ النار ولا شيء؛ لذلك شبه قلب الكافر بها. وهذا - والله أعلم - في قوم علم الله أَنهم لا يؤمنون أَبداً.
وقوله: { وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }.
خرجت على الوعيد - أَبلغ الوعيد - والوعظ؛ حين ذَكرهم علمه بما يعملون.