التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱللَّهَ وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ
٨٣
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَآءَكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ
٨٤
ثُمَّ أَنْتُمْ هَـٰؤُلاۤءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنْكُمْ مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِٱلإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَىٰ تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ ٱلْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذٰلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ ٱلّعَذَابِ وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ
٨٥
أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا بِٱلآخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ ٱلْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ
٨٦
-البقرة

تأويلات أهل السنة

قوله: { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ }.
قد ذكرنا عهد الله وميثاقه أَنه يكون على وجهين: عهد خِلْقةٍ وفطرة، وعهد رسالة ونبوة.
وقوله: { لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱللَّهَ }.
يحتمل وجهين:
يحتمل: لا تجعلون الألوهيةَ إِلا لله.
ويحتمل: نفس العبادة، أَي: لا تعبدون غير الله، من الأَصنام والأَوثان وغيرهما.
وقوله: { وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي ٱلْقُرْبَىٰ }.
بِرّاً بهما، وعَطفاً عليهما، وإِلطافاً لهما، وخفْضَ الجناح، ولينَ القول لهما؛ كقوله:
{ فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَٱخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ مِنَ ٱلرَّحْمَةِ... } الآية [الإسراء: 23-24]، وكقوله: { وَصَاحِبْهُمَا فِي ٱلدُّنْيَا مَعْرُوفاً } [لقمان: 15].
فإن قيل: إِن الأَمر بالإِحسان فيما بين الخلق يخرج مخرج الإفضال والتبرع، لا على الوجوب، واللزوم.
غير أَن الإحسان يجوز أن يكون الفعلَ الحسن نفسَه؛ كقوله:
{ إِنَّ رَحْمَتَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ ٱلْمُحْسِنِينَ } [الأَعراف: 56] استوجبوا هذا بالفعل الحسن، لا بالإحسان إلى الله تعالى، وفعلُ الحسن فرضٌ واجبٌ على كل أَحد.
والثاني: أَن الإحسان إِليهم يجوز أَن يكون من حق الله عليهم، وحقُّ الله عليهم لازم، وعلى ذلك صلةُ القرابةِ والمحارِم، والإِنفاقُ عليهم من حق الله عليهم، وهو لازم.
فهذا ينقض على الشافعي قولَه: إنه لا يوجب النفقة إلا على الوالدين، ولا يتكلم في الآباء والأُمهات بالقرابة، ولا سموا بهذا الاسم؛ فدل: أَنه أَراد به غير الوالدين، والله أَعلم.
وقوله: { وَالْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينِ }.
يحتمل: على النفْل من الصدقة والفرض جميعاً.
وقوله: { وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً }.
يحتمل: وجوهاً:
يحتمل: لا تكتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته ولكن أَظهروها.
ويحتمل: الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله.
ويحتمل: المراد به الكلُّ، كل شيءٍ وكل قول؛ أَي: لا تقولوا إلا حسناً. والله أعلم.
وقوله: { وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ }.
يحتمل: الإقرار بها، والقبول لها.
ويحتمل: إِقامتها في مواقيتها، بتمام ركوعها وسجودها وخشوعها.
ويحتمل: أن يكونوا في حالٍ تكون لكم الصلاة والتزكية.
وقوله: { وَآتُواْ ٱلزَّكَاةَ }.
يحتمل الوجوه التي ذكرناها في الصلاة.
وقوله: { ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ }.
الآية ظاهرة.
وقوله: { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ }.
قد ذكرنا الميثاق والعهد في غير موضع.
وقوله: { لاَ تَسْفِكُونَ دِمَآءَكُمْ }.
يحتمل وجهين:
أي: لا تسفكون دماءَ غيركم، فيسفك دماءَكم؛ فتصيرون كأَنكم سفكتم دماءَكم.
ويحتمل: لا يسفك بعضُكم دماءَ بعض؛ كقوله:
{ فَسَلِّمُواْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ } [النور: 61]، أي: يسلم بعضكم على بعض.
وذكر نقض العهد في هؤلاءِ وإن كان في أَوائلهم؛ لوجهين:
أَحدهما: لما رضي هؤلاء بفعل آبائهم.
والثاني: بقولهم:
{ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ... } الآية [الزخرف: 22-23].
وقوله: { وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ }.
يحتمل: أيضاً وجهين:
يحتمل: ولا يُخرج بعضُكم بعضاً.
ويحتمل: لا تخرجوا غيركم من ديارهم، فتخرجون من دياركم؛ على ما ذكرنا في قوله: { لاَ تَسْفِكُونَ دِمَآءَكُمْ }، والله أعلم.
وقوله: { ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ }.
يحتمل: ثم أقررتم وأَنتم تشهدون بالعهد والميثاق، وتشهدون أَنه في التوراة.
وقوله: { ثُمَّ أَنْتُمْ هَـٰؤُلاۤءِ }.
يعني: يا هؤلاء.
وقوله: { تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنْكُمْ مِّن دِيَارِهِمْ }.
يحتمل وجهين اللذَين ذكرتهما في قوله: { لاَ تَسْفِكُونَ دِمَآءَكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ }
وقوله: { تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِٱلإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَىٰ تُفَادُوهُمْ }.
أي: تَعَاوَنُون عليهم، يُعاون بعضكم بعضاً بالإخراج، وهو الظلم والعدوان.
وقوله: { وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ }.
أي: ذلك الإخراج محرم عليكم.
وقوله: { وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَىٰ تُفَادُوهُمْ... }.
الآيةُ - وإن كانت مؤخرة في الذكر - فهي مقدمة؛ كأَنه قال: لا تسفكون دماءَكم ولا تخرجون أَنفسكم، وإن يأْتوكم أسارى تفادوهم.
وقوله: { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ ٱلْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ }.
آمنوا بالمفَاداة من الأَسارى، وكفروا بالإِخراج وسفك الدماءِ.
ويحتمل: الإيمان ببعض ما في التوراة، وكفورا ببعضها، وهو نَعْت محمد صلى الله عليه وسلم وصفته؛ إذ لم يكن على موافقة مُرادهم.
ويحتمل: أَن فادوا أَسراهم من غيرهم، وسَبَوْا ذَرَاري غيرهم.
وقوله: { فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذٰلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ ٱلّعَذَابِ }.
قيل: الخزي في الدنيا إِجلاءُ بني النضير من ديارهم، وإخراجهم إلى الشام.
وقيل: مقاتلةُ بني قريظةَ، وسبيُ ذراريهم، وذلك لحربٍ وقع بينهم، والله أعلم.
ويحتمل قوله: { فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذٰلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا }. ولكن لا يعاقبون في الدنيا، بل يردون إلى أشد العذاب في الآخرة، وإن استوجبوا ذلك في الدنيا؛ كقوله:
{ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ... } الآية: [إبراهيم: 42].
وقوله: { وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }.
وعيدٌ. قد ذكرنا ذلك فيما تقدم.
وقوله: { أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا بِٱلآخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ ٱلْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ }.
يحتمل: أنهم كانوا آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل خروجه وبعثه، فلما بعث على خلاف مرادهم كفروا به، فذلك اشتراء الحياة الدنيا بالآخرة.
ويحتمل: ابتداء اختيار الضلال على الهدى، والحياة الدنيا على الآخرة، من غير أَن آمنوا به، والله أعلم.