التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ
٥١
إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَـٰذِهِ ٱلتَّمَاثِيلُ ٱلَّتِيۤ أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ
٥٢
قَالُواْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا لَهَا عَابِدِينَ
٥٣
قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ
٥٤
قَالُوۤاْ أَجِئْتَنَا بِٱلْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ ٱللاَّعِبِينَ
٥٥
قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ٱلَّذِي فطَرَهُنَّ وَأَنَاْ عَلَىٰ ذٰلِكُمْ مِّنَ ٱلشَّاهِدِينَ
٥٦
وَتَٱللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ
٥٧
فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ
٥٨
قَالُواْ مَن فَعَلَ هَـٰذَا بِآلِهَتِنَآ إِنَّهُ لَمِنَ ٱلظَّالِمِينَ
٥٩
قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ
٦٠
قَالُواْ فَأْتُواْ بِهِ عَلَىٰ أَعْيُنِ ٱلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ
٦١
-الأنبياء

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ }.
قال الحسن: رشده: دينه وهداه.
وقال غيره: رشده: النبوة.
ويشبه أن يكون قوله: { آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ } حججه وبراهينه التي حاج بها قومه على غير تعليم من أحد، وفيه دلالة أن ليس كل رشد وهدى بياناً؛ لأنه لو كان كله بياناً لم يكن لتخصيص إبراهيم بالرشد كثير معنى؛ إذ هو في ذلك البيان وغيره من الكفرة والفراعنة سواء، فدل قوله: { آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ } أنه يكون من الله للمهتدين فضل صنع ليس ذلك في الكافرين، وهو التوفيق والعصمة.
وقوله - عز وجل -: { مِن قَبْلُ } قال بعضهم: من قبل الأوقات التي يعطى البشر الرشد وهو حال الصغر.
ويحتمل قوله: { مِن قَبْلُ } أي: من قبل محمد.
وقال بعضهم: من قبل موسى وهارون.
ويحتمل: { آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ } من قبل إيمان أهل الأديان كلها؛ لأن جميع أهل الأديان يدعون أنهم على دين إبراهيم، فلا يحتمل أن يكون دينه ورشده الذي آتاه الله هو كل ذلك، بل إنما كان ذلك واحداً، فوجب النظر فيه والتأمل في ذلك؛ ليظهر الدين الذي كان عليه إبراهيم.
وقوله - عز وجل -: { وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ }.
يحتمل قوله: { وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ }، أي: بالرشد والدين الذي عليه إبراهيم عالمين من قبل.
أو أن يكون قوله: { وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ }، أي: كنا بجميع ما يكون من إبراهيم عالمين.
وقوله تعالى: { إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَـٰذِهِ ٱلتَّمَاثِيلُ ٱلَّتِيۤ أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ } كأنه قال: ما هذه التماثيل التي اتخذتموها { أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ }، أي: إنما يعبد من يعبد لفعل يكون من المعبود إلى من يعبده، فأما أن يعبد ما يفعله [من] المعبود فلا يحتمل، وهو ما قال إبراهيم:
{ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } [الصافات: 95-96] يسفههم ويعيب عليهم لعبادتهم ما ينحتون هم بأيديهم ويتركون عبادة من خلقهم وخلق أعمالهم.
وقوله - عز وجل -: { قَالُواْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا لَهَا عَابِدِينَ }.
قد انقطع حجاجهم لما قال لهم إبراهيم ما قال وأظهر سفههم، ففزعوا إلى تقليد آبائهم فقالوا: { وَجَدْنَآ آبَآءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ }، لم ينكر عليهم فعل آبائهم وعبادتهم الأصنام، ولكن أقر لهم بصنيع آبائهم، ثم جمعهم وآباءهم وأخبر: { أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } بعبادة الأصنام.
وقوله - عز وجل -: { قَالُوۤاْ أَجِئْتَنَا بِٱلْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ ٱللاَّعِبِينَ }.
لما علموا أن مثل هذا القول لا يقوله إلا من كان عنده حجة وبرهان، فقالوا: أجئتنا بما تقول بحجة، { أَمْ أَنتَ مِنَ ٱللاَّعِبِينَ } تلعب بنا وتهزأ؟ وأخبر أنه جاءهم بالحق وبين لهم ذلك الحق فقال: { بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ٱلَّذِي فطَرَهُنَّ } لا الأصنام التي تعبدونها، أي: { رَّبُّكُمْ رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } الذي يعرف بالدلالات والبراهين وآثار الصنعة في غيره، لا الذي أحدثتم أنتم واتخذتموه، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَأَنَاْ عَلَىٰ ذٰلِكُمْ مِّنَ ٱلشَّاهِدِينَ }.
يحتمل: وإنا على جميع ما قال وكان منه من الحجاج وإقامة الحجج على ألوهية الله تعالى وتسفيه أولئك في عبادة الأصنام - من الشاهدين، أو من الشاهدين على خلقها.
ويجوز أن يقال: الشاهد: المبين، وأنا على ذلكم من المبينين، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَتَٱللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ }.
إن الأصنام لا يقصد إليها بالكيد، لكن تأويله - والله أعلم - لأكيدن لكم في أصناكم.
وقوله - عز وجل -: { بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ } قال عامة أهل التأويل: إن إبراهيم إنما قال ذلك: { لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ } من الأصنام إلى عيدهم؛ لأنهم كانوا يخرجون إلى عيدهم من الغد، فقال: { لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ }، أي: لأكيدن لكم في أصنامكم { بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ } منها إلى عيدكم.
وجائز أن يكون قوله: { لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ } عني، وكانوا في ذلك الوقت بحضرة الأصنام؛ ألا ترى أنه قال لهم: { مَا هَـٰذِهِ ٱلتَّمَاثِيلُ ٱلَّتِيۤ أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ }، ومثل هذا الكلام لا يقال إلا بحضرة الأصنام؛ لأنه أشار إلى الأصنام فقال: { مَا هَـٰذِهِ ٱلتَّمَاثِيلُ ٱلَّتِيۤ أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ }، فقال عند ذلك: { وَتَٱللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ }، أي: لأكيدن لكم في أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين عني؛ على التأويل [الأول] يكون توليهم الأدبار عن الأصنام إلى عيدهم، وعلى التأويل الثاني يكون توليهم الأدبار عن إبراهيم، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً }.
وجذاذا: قال بعضهم: قطعاً.
وقال القتبي: جذاذا: فتاتا، وكل شيء كسرته فقد جذذته؛ ومنه قيل للسويق: جذيذ، والجذ: هو القطع، والمجذوذ: المقطوع، وذلك قوله:
{ غَيْرَ مَجْذُوذٍ } [هود: 108] أي: غير مقطوع.
وقوله - عز وجل -: { إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ } لم يكسره { لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ }.
يقول: إلى الصنم الأكبر الذي لم يكسره إبراهيم يرجعون من عيدهم.
وقال بعضهم: لعلهم إلى الحجة يرجعون، وقيل: هو أحج القولين، أي: من الحجة.
وقال بعضهم: { لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ }، أي: يتذكرون.
وجائز أن يكون قوله: { لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ }، أي: يرجعون إلى ما يريد أن يكيد لهم في أصنامهم؛ لأنه إنما يريد أن يكيد لهم إذا رجعوا إلى الأصنام فرأوها مجذوذة، والكيد: هو الأخذ على الأمن وكذلك المكر.
وقوله - عز وجل -: { قَالُواْ مَن فَعَلَ هَـٰذَا بِآلِهَتِنَآ إِنَّهُ لَمِنَ ٱلظَّالِمِينَ }.
لو تأملوا كانوا هم الظلمة في الحقيقة؛ لأنهم كانوا يعبدون تلك الأصنام رجاء منفعة تكون لهم حيث قالوا:
{ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ } [الزمر: 3] و { هَـٰؤُلاۤءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ ٱللَّهِ } [يونس: 18]، فإذا رأوهم لا يقدرون على دفع الكسر والقطع عن أنفسهم ودفع من فعل بهم ذلك، كيف طمعوا منها نفعاً أو دفع الضر عن أنفسهم؛ لأن من عجز عن دفع الضر عن نفسه فهو عن دفعه عن غيره أعجز، فهم الظلمة في الحقيقة؛ حيث طمعوا النفع ودفع الضر ممن لا يملك ذلك لنفسه، لكن قالوا ذلك سفها منهم.
وقوله - عز وجل -: { قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ }: بالكيد لهم حين قال: { لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ }، سمع ذلك القول منه ناس، فأخبروا قومهم لما قالوا: { مَن فَعَلَ هَـٰذَا بِآلِهَتِنَآ } فعند ذلك قالوا: { سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ } بالكيد لهم { يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ }.
وجائز أن يكون قوله: { قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ }: بالعداوة، وهو حين قال:
{ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِيۤ إِلاَّ رَبَّ ٱلْعَالَمِينَ } [الشعراء: 77]، أخبر أن أولئك الذين عبدوا الأصنام أعداء له، فالمعبود الذي عبدوه يكون عدوا له أيضاً، فاستدلوا بذلك القول منه أنه هو فعل بهم ما فعل، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { قَالُواْ فَأْتُواْ بِهِ عَلَىٰ أَعْيُنِ ٱلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ }.
قال بعضهم: على رءوس الناس.
وقيل: بحيث ينظر الناس إليه، أو بحيث يراه الناس، وهو واحد.
وقوله - عز وجل -: { لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ }.
اختلف فيه:
قال بعضهم: يشهدون عقوبته بما فعل بأصنامهم؛ فيكون نكالا له وزجراً لغيره عن أن يفعل بها مثل ما فعل هو؛ ولذلك قالوا: { حَرِّقُوهُ } نكالا وزجراً لغيره؛ كقوله:
{ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا } [البقرة: 66]، أي: زجراً، وكقوله: { فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ } [الأنفال: 57].
وقال بعضهم: { لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ } بفعله الذي فعله بالأصنام، لم يريدوا أن يعاقبوه بلا بينة ولا حجة.
وقال بعضهم: لعلهم يشهدون أنه قال لآلهتهم ما قال، والله أعلم.