التفاسير

< >
عرض

وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ آيَاتُ ٱللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِٱللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
١٠١
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ
١٠٢
وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
١٠٣
-آل عمران

تأويلات أهل السنة

وعلى ذلك قوله: { وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ }.
على أن الذي أراكم الرسول صلى الله عليه وسلم ألذّ للعقول، وأروح للأبدان مما وُعِدوه مع سوء المآب، والله أعلم.
وقوله: { وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ آيَاتُ ٱللَّهِ }:
وهو على وجه التعجب ظاهر، ولكنه على طلب الحجة في كفرهم.
{ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ }.
يدفع عنكم الشبهة التي عرضت لكم بإلقاء الكفار إليكم.
{ وَمَن يَعْتَصِم بِٱللَّهِ }:
أي: من جعل الله - عز وجل - ملجأً له، ومفزعاً إليه عند الشبه والإشكال.
{ فَقَدْ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }.
أي: يحفظه عن الشبه، ويرشده إلى صراط مستقيم، والله أعلم.
ويحتمل: { وَمَن يَعْتَصِم بِٱللَّهِ }: يتمسك بالذي جاء من القرآن، { فَقَدْ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }.
وقوله: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ }:
رُوي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: "{ حَقَّ تُقَاتِهِ }: أن يطاع فلا يعصى، ويشكر فلا يكفر، ويذكر فلا ينسى"، وأراد: حق تقاته؛ مما يحتمل وسع الخلق.
ورُوي في حرف حفصة: { ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } أي: اعبدوا الله حق عبادته، وهذا في اعتقاد التوحيد. وروي عن أنس - رضي الله عنه - يقول: "لا يتقي الله أحد حق تقاته حتى يخزن من لسانه، وبعد كلامه من عمله".
وقيل: { ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ }: أطيعوا الله حق طاعته.
وقيل: إن هذا نسخها قوله:
{ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ } الآية [التغابن: 16]؛ لكن لا يحتمل أن يأمر الخلق بشيء ليس في وسعهم القيام به، ثم ينسخ ذلك بما يستطاع، ولكن أصله ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إِنَّ لله عَلَى عِبَادِهِ حَقّاً، وَلِعِبَادِهِ عَلَيْهِ حَقّاً، وَحَقُّ الله على عَبْدِهِ: أَنْ يَعْبُدَ الله، وَلاَ يُشْرِكَ غَيْرَهُ فِيهِ. وَحَقُّ العَبْدِ عَلَى الله: أَنْ يُدْخِلهُ الجَنَّةَ؛ إِذَا عَبَدَهُ، وَلَمْ يُشْرِكْ غَيْرَهُ فِيهِ أَحَداً" ليكون هذا تأويلاً للآية أن قوله: { ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } ولا تكفروه؛ فيكون فيه الأمر بالإيمان، والنهي عن الكفر؛ لأنه ليس في وسع أحد أن يتقي الله حق تقاته في كل العبادة؛ ألا ترى إلى ما روي من أمر الملائكة مع ما وصفوا من عبادتهم أنهم { لاَ يَفْتُرُونَ } [الأنبياء: 20] و { لاَ يَسْئَمُونَ } [فصلت: 38]، ثم يقولون: ما عبدناك حق عبادتك؟!. وإذا كان أحد لا يبلغ ذلك فلا يحتمل تكليف مثله، وجملته: أن ذلك ليس بذي حدّ وغاية، فلذلك كان - والله أعلم - الأمر فيه راجع إلى الإسلام، أو في نفي حق الإشراك خاصّة، لا في جميع الأحوال والأفعال، دليله ما ختم به الآية، وفي وسع الخلق ألا يشركوا أحداً في عبادته؛ ألا ترى أنه قال: { وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ }؟!.
وفي ظاهر الآية النهي عن الموت إلا مسلماً، وليس في الموت صنع للخلق؛ والمعنى - والله أعلم -: أي: كونوا في حال إذا أدرككم الموت كنتم مسلمين؛ فالنهي فيه نهي عن الكفر، والأمر بالإسلام، حتى إذا أدركه الموت أدركه وهومسلم، والله أعلم.
وقد يكون على بيان ألا عذر عند الموت - وإن اشتد أمره - بالذي ليس بإسلام.
وروي عن أبي حنيفة - رضي الله عنه - أنه قال: "أكثر ما يسلب الإيمان عند الموت؛ كان الشيطان يطمعه في أمر لو أعطاه ما طلب".
ويحتمل قوله: { ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } أي: احذروا عذاب الله حق حذره، واحذروا نقمته؛ كقوله: { وَيُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفْسَهُ } بمعنى نقمته.
وقوله: { وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعاً }: اختلف فيه؛ قيل: حبل الله؛ يعني: القرآن، وهو قول ابن مسعود، رضي الله عنه.
وعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: "حبل الله: الجماعة، وإنما هلكت الأمم الخالية بتفرقها"، أمر بالكون مع الجماعة، ونهي عن التفرق؛ لأن أهل الإسلام هم الجماعة؛ ألا ترى أنه قال في آية أخرى:
{ وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَٱتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } [الأنعام: 153] وصف أهل دين الإسلام بالجماعة، وأهل أديان غيرها بالتفرق.
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - أيضاً - قال: حبل الله: الجماعة.
ورُوي في بعض الأخبار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"مَنْ فَارَقَ الجَمَاعةَ قِيدَ شِبْرٍ، فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الإِسْلامِ مِنْ عُنُقِهِ" يعني: حبل الإسلام.
وروي عنه - أيضاً - قال:
"إِنَّ الشيْطَانَ ذئب [الإنسان] كَذِئْبِ الغَنَمِ، يَأْخُذُ الشَّاذَّةَ والقَاصِيةَ وَالنَّاحِيَةَ، فَإِيَّاكُمْ والشِّعَابَ، وَعَليكُم بِالجَمَاعَةِ وَالعَامَّةِ وَهَذَا المَسْجِدِ" .
ورُوي عن علي [بن أبي طالب] - رضي الله عنه - قال: "دعاني النبي صلى الله عليه وسلم ليلةً ثلاث مرات، ثم قال: يَكُونُ فِي أُمَّتِي اخْتِلافٌ، قلت: كيف نصنع يا رسول الله إذا كان كذلك؟ قال: عَلَيْكمُ بكِتَابِ اللهِ؛ فإِنَّ فِيهِ نَبَأَ مَنْ قَبْلَكُمْ، وَخَبَرَ مَا بَعْدَكُمْ، وهُو حَكَمٌ فِيمَا بَيْنَكُمْ، مَنْ يَدَعْهُ مِنْ جَبَّارٍ يَقْصِمْهُ الله، وَمَنْ طلب الهُدَى فِي غَيرِهِ يُضِلَّهُ اللهُ، وَهُوَ حَبْلُ الله المَتِينُ، وَأَمْرُهُ الحَكِيمُ، وَهُوَ الصِّرَاطُ المُسْتَقِيمُ، وَهُوَ الَّذي لاَ تَخْتَلِفُ فيهِ الأَلْسِنَةُ، وَلاَ يَخْلِقُهُ كَثْرَةُ الرَّدِّ، وَلاَ تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ" .
وقيل: حبل الله: دين الله.
الحبل: هو العهد؛ كأنه أمر بالتمسّك بالعهد التي في القرآن، والقيام بوفائها، والحفظ لها، ونهي عن التفرق كما تفرقت الأمم الخالية، واختلفت في الأديان.
وقوله: { وَٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ }: بمحمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: ألّف بين قلوبكم بالإسلام.
وقيل: بالقرآن، ولم يكن ذلك للدّين نفسه، ولكن بلطف من الله منَّ به على أهل دينه، وأخبر أن التأليف بين قلوبهم نعمة؛ لأن التفرق يوجب التباغض، والتباغض يوجب التقاتل؛ وفي ذلك التفاني.
وعلى قول المعتزلة: ليس من الله على المسلم من النعمة، إلا ومثلها يكون على الكافر؛ لأن الهدى والتوفيق - عندهم - هو البيان، فذلك البيان للكافر كهو للمسلم؛ وعلى قولهم - لا يكون من الله على أحد نعمة؛ لأنهم لا يجعلون لله في الهداية فعلاً، إنما ذلك من الخلق، وأمّا عندنا: فإنما يكون الإسلام بهدايته إياه، فذلك من أعظم النعم عليه.
وقوله: { فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً }:
أي: صرتم بنعمته إخواناً.
وقوله: { وَكُنْتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ ٱلنَّارِ }:
أي: كنتم أشفيتم حفرة من النار، وهو القريب منها، لولا أنه منّ بالإسلام. ويحتمل أن يكون على الكون فيها والوقوع، لا القرب؛ كقوله:
{ لَتَرَوُنَّ ٱلْجَحِيمَ } [التكاثر: 6] ليس على الرؤية خاصة؛ ولكن على الوقوع فيها؛ وكقوله: { فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ } [آل عمران: 106] ليس على البعد منها؛ ولكن على الكون فيها، ومثله كثير يترجم على الوقوع فيها.
وقوله: { حُفْرَةٍ }: كأنه قال: كنتم على شفا درك من دركات النار، { فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا }. وهذا - أيضاً - على المعتزلة؛ لأن على قولهم: هم الذين ينفذون أنفسهم، لا الله، على ما ذكرنا، [والله أعلم].
قال الشيخ -رحمه الله - نقول: إذا كان الله - تعالى - عندهم قد جمع بين الكفرة والبررة في بذل الأصلح لهم في الدّين، وليس منه غير ذلك فلا يجيء أن يمنّ عليهم به يتألف بنعمته، والتي منه موجود مع التفرق؛ بل أولئك تألفوا بنعتمهم. وبعد؛ فإنّ النعمة لو كانت ديناً، فما الذي كان منه حتى يمنّ، وذلك فعلهم بلا فضل منه فيه؟! والله أعلم.
وفي قوله: { وَكُنْتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ } الآية: أنه قد يلزم خطاب الإيمان حين الفترة؛ لأنهم في ذلك الوقت كانوا قد أنقذوا، والله الموفق.
وقوله: { كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ }: إذ كنتم أعداء في الجاهلية والكفر، متفرقين، وصرتم إخواناً في الإسلام؛ كلمتكم واحدة.
{ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }: لكي تعرفوا نعمته ومنته.
قال الشيخ -رحمه الله -: وقد يكون: { كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ } في حادث الأوقات؛ لتكونوا فيها مهتدين كما اهتديتم؛ فيكون في ذلك وعد التوفيق والبشارة، والله أعلم.