التفاسير

< >
عرض

وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّقُواْ مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ
٤٥
وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ
٤٦
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱلله قَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ ٱللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ
٤٧
وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَذَا ٱلْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
٤٨
مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ
٤٩
فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلاَ إِلَىٰ أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ
٥٠
-يس

تأويلات أهل السنة

قوله: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّقُواْ مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }.
اختلف في قوله: { مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ }: قال قائلون: { مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ }: ما كان من عقوبات الله ووقائعه فيمن كان قبلكم من عنادهم في آياته وتكذيبهم رسله، يقول: اتقوا ذلك واحذروا نزوله عليكم، فسمى: بين أيديهم؛ لأنه مضى بين أيديهم، وما خلفهم من أمر الساعة وعذابها سمى: خلفا؛ لأنه بعد ورائهم غير مأتي، يقول: احذروا ذلك.
وقال قائلون: { مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ } هي عقوبات الآخرة هي بين أيديهم ستأتي بهم وستنزل، { وَمَا خَلْفَكُمْ } ما مضى من العقوبات التي نزلت بمن كان قبلكم؛ فصار ذلك وراءً وخلفاً، يقول: احذروا ذلك.
وجائز أن يكون غير هذا يقول - والله أعلم -: احذروا ذنوبكم التي عملتم ومعاصيكم التي عصيتم في الدنيا، واحذروا أيضاً ما تسنون أيضاً لمن بعدكم؛ كقوله:
{ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ } [الانفطار: 5]: ما قدمت: ما عمل هو، وما أخرت ما سن لغيره من بعد.
وقوله: { لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }.
أي: إذا فعلتم ذلك استوجبتم الرحمة بفضله، والله أعلم.
وقوله: { وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ }.
هذا - والله أعلم - في قوم خاصة اعتادوا العناد والمكابرة في رد الآيات والإعراض عنها؛ لما كان سؤالهم الآيات تعنتاً لا سؤال استرشاد، ولو كان سؤالهم سؤال استرشاد، لكان قد أنزل لهم من الآيات وأتاهم ما يلزمهم قبولها والتمسك بها.
ثم الإعراض والعناد يكون بوجهين:
أحدهما: يعرض عنها؛ لما لم تقع له؛ لترك التأمل والنظر فيها.
والثاني: يعرض عنها إعراض عناد بعد التحقيق والتيقن والعلم بأنها آيات، والله أعلم.
وقوله: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱلله }.
يحتمل قوله: { أَنفِقُواْ } أي: صلة الأرحام والقرابات على حقيقة الإنفاق.
ويحتمل: أن اقبلوا الإنفاق وهو الزكاة بقوله:
{ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ * ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ } الآية [فصلت: 6-7] أي: لا يقبلون الإيتاء، والله أعلم.
وقوله: { أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ ٱللَّهُ أَطْعَمَهُ }.
بهذا قالت المعتزلة في قولهم: إن الله لا يفعل إلا ما هو أصلح له في الدين، يقولون: لو كان الإنفاق والرزق أصلح لهم في الدين لرزقهم الله على ما رزقنا.
فيقال للمعتزلة: أمره إياهم بالإنفاق على من ذكر لا يخلو من أن يكون النفقة لهم والرزق أصلح في الدين، ثم لم يرزقهم ولم يوسع عليهم، وإما أن يكون المنع أصلح لهم وترك الإنفاق: فإن كان الأول فقد ترك فعل ما هو أصلح في الدين، أو الثاني، فقد أمر هؤلاء بفعل ما هو ليس بأصلح، فكيفما كان، ففيه دلالة أن ليس على الله حفظ الأصلح للخلق في الدين، إنما عليه فعل ما توجبه الحكمة وحفظ ما يكون حكمة، وهؤلاء لم ينظروا إلى ما توجبه الحكمة، وفي الحكمة الامتحان والابتلاء: هذا بالسعة وهذا بالشدة والضيق؛ ثم أوجب على من وسع عليه في فضول ماله حقّاً لهذا الفقير والمضيق عليه، وبين ذلك الحق، وبيّن قدره وحدّه، ليتأدى بذلك شكره، وضيق على هذا، يطلب منه الصبر على ذلك إن منع هذا حقه، وإلا لم يسبق ممن وسع عليه ما يستوجب به تلك النعمة والسعة، ولا ممن ضيق عليه ما يستوجب ذلك، ولكن محنة يمتحنهم بها: هذا بالشدة والضيق، وهذا بالسعة والكثرة، هذا مأمور بالشكر وأداء ما أوجب عليه في ماله، وهذا بالصبر على حاجته إن منع حقه؛ وعلى ذلك روي في الخبر عن نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"لو شاء الله لجعلكم أغنياء لا فقير فيكم، ولو شاء الله لجعلكم فقراء لا يغنى عنكم شيئاً، لكنه ابتلى بعضهم ببعض لينظر كيف عطف [الغني] وكيف صبر الفقير" .
وقوله: { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ }.
قال بعضهم: هذا قول الكفرة للمؤمنين، لم يكتفوا بذلك القول الذي قالوه، ولكن نسبوهم إلى الضلال والجهل.
وقال بعضهم: هذا القول من الله جواب لهم، لقولهم: { أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ ٱللَّهُ أَطْعَمَهُ }، والله أعلم.
وقوله: { وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَذَا ٱلْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }.
ليس بصلة على ما تقدم من الكلام، كأنهم خوفوا بترك الإنفاق بالعذاب، فقالوا عند ذلك: { مَتَىٰ هَذَا ٱلْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }.
ثم قال: { مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً }.
أي: ما ينظرون لإيمانهم إلا ذلك الوقت، يقول - والله أعلم -: إنهم إذا بلغوا ذلك الوقت وعاينوا ذلك، فعند ذلك يؤمنون، لكن لا ينفعهم الإيمان في ذلك الوقت؛ لقوله:
{ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ ءَايَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ ءَامَنَتْ مِن قَبْلُ } [الأنعام: 158].
وقوله: { تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ } .
يخبر عن سرعة قيام الساعة وغفلة أهلها عنها؛ كقوله:
{ فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً } [الشعراء: 202] أي: فجأة، وهم لا يشعرون، وعلى ذلك روي في بعض الأخبار عن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "تقوم الساعة والرجلان يتبايعان الثوب، فلا يقومانه حتى تقوم الساعة" .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - في قوله: { فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلاَ إِلَىٰ أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ } فقال: "تقوم الساعة والناس في أسواقهم يحلبون اللقاح، ويذرعون الثياب، ويتبايعون وهم في حاجاتهم" ، وعن الزبير بن العوام - رضي الله عنه -: "أن الرجلين ليتبايعان إذ نادى مناد: قد قامت الساعة" ونحوه.
وقوله: { فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً }.
أي: وصية؛ وكذلك ذكر في حرف حفصة وأبي، أي: فلا يستطيعون وصية.
وقوله: { تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ }.
يحتمل ما ذكرنا أن الساعة تقوم وهم على ما كانوا عليه من قبل في البياعات والخصومات والمنازعة وعلى ذلك جاءت.
ويحتمل { وَهُمْ يَخِصِّمُونَ } أي: يختصمون في الساعة والبعث أنها لا تقوم ولا تكون؛ لأنهم كانوا [ينكرونها]، ودل قوله: { فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلاَ إِلَىٰ أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ } أن استطاعة الفعل تكون مع الفعل لا تتقدم الفعل؛ لأنها لو كانت تتقدم، لكانوا يستطيعون التوصية والرجوع إلى أهلهم إذا قامت بهم؛ دل هذا على أنها لا تتقدم الفعل، لكنها تقارنه وتجامعه، والله أعلم.