التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ ٱلْمُجِيبُونَ
٧٥
وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ ٱلْكَرْبِ ٱلْعَظِيمِ
٧٦
وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ ٱلْبَاقِينَ
٧٧
وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي ٱلآخِرِينَ
٧٨
سَلاَمٌ عَلَىٰ نُوحٍ فِي ٱلْعَالَمِينَ
٧٩
إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ
٨٠
إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ٱلْمُؤْمِنِينَ
٨١
ثُمَّ أَغْرَقْنَا ٱلآخَرِينَ
٨٢
-الصافات

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ... } الآية.
قال بعضهم: حين دعا ربّه فقال - عليه السلام -:
{ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَٱنتَصِرْ } [القمر: 10]، فكأنه إنما دعا ربه بالهلاك على قومه، فأجاب الله دعاءه، وهو ما قال - عز وجل -: { فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ ٱلسَّمَآءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ... } [القمر: 11] إلى آخر ما ذكر.
ثمة أمران الرسل - عليهم السلام - هم مخصوصون بهما من بين غيرهم من الناس:
أحدهما: أن ليس لهم الدعاء على قومهم بالهلاك وسؤال العذاب عليهم إلا بعد مجيء الإذن لهم من الله - عز وجل - بالدعاء عليهم، فنوح - عليه السلام - إنما دعا ربه بإنزال الهلاك عليهم بالإذن من ربه.
والثاني: لم يكن لهم الخروج من بين أظهرهم عند نزول العذاب بهم إلا بإذن من الله - عز وجل - على ذلك؛ ولذلك جاء العتاب ليونس - عليه السلام - والتعيير لما خرج من بينهم عند نزول العذاب بلا إذن كان من ربه حيث قال - عز وجل -:
{ وَذَا ٱلنُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ... } الآية [الأنبياء: 87]، هما خصلتان لهم خاصة صلوات الله عليهم، وأما لغيرهم من أهل الدين فلهم أن يدعوا على الفجرة والفسقة منهم باللعن والهلاك، فلهم أن يفروا منهم، وأن يخرجوا من بين أظهرهم؛ لفسقهم وفجورهم، وكان هذا يعد من صالح الأعمال لهم.
وقوله - عز وجل -: { فَلَنِعْمَ ٱلْمُجِيبُونَ }.
وهو الرب - تبارك وتعالى - ذكر المجيب على الجماعة: إنا نفعل كذا، وفعلنا كذا، وهو كلام الملوك فيما بينهم، ثم كل فعل يضاف إلى الله - تعالى - [يشاركه] فيه غيره أو ينسب يزاد فيه شيء يكون فاصلاً، وذلك بينه وبين فعل غيره؛ نحو ما قال - عز وجل - في موضع آخر:
{ وَأَنتَ أَحْكَمُ ٱلْحَاكِمِينَ } [هود: 45]، ونحو قوله: { عَالِمُ } [الحشر: 22] لا كالعلماء ونحوه مما يكثر ذلك؛ لأنه قادر على وفاء ما وعد وأخبر وإنجاز ذلك لا يعجزه شيء، وغيره من الخلائق لعلهم لا يقدرون على وفاء ذلك والقيام بإنجاز ما وعدوا؛ لذلك كان ما ذكر، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ ٱلْكَرْبِ ٱلْعَظِيمِ }.
يحتمل نجاته من الكرب العظيم هو دعاؤه قومه إلى توحيد الله - عز وجل - تسعمائة وخمسين سنة، وما قاساه منهم من أنواع الأذى من التكذيب وغيره، فأنجاه الله من كرب ذلك حين أهلكهم.
ويحتمل: { مِنَ ٱلْكَرْبِ ٱلْعَظِيمِ } هو القول الشديد وهو الغرق، أغرق قومه وأنجاه منه، سماه: عظيماً، لشدة ما أصابهم.
وقوله - عز وجل -: { وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ ٱلْبَاقِينَ }.
أي: جعلنا ذرية نوح - عليه السلام - من بين سائر ولد آدم وذريتهم [هم الباقين] وأهلكنا غيرهم؛ ولذلك كان بقاء نسله إلى يومنا هذا وهلك نسل غيره، والله أعلم.
وقوله: { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي ٱلآخِرِينَ }.
يشبه أن يكون ما ذكر أنه ترك في الآخرين ما ذكر على أثره من السلام حيث قال - عز وجل -: { سَلاَمٌ عَلَىٰ نُوحٍ فِي ٱلْعَالَمِينَ }، أي: أبقينا عليه الثناء الحسن في الآخرين حتى يثنوا عليه جميعاً ويصدقوه ويقولوا فيه خيراً وحسناً، والله أعلم.
ويحتمل ما قال بعضهم: سلام الله على نوح في العالمين، وسلم إليه جميع العالمين في جميع الأوقات، كما سلم عيسى على نفسه حيث قال:
{ وَٱلسَّلاَمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً } [مريم: 33]، وما سلم على يحيى - عليه السلام - حيث قال: { وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً } [مريم: 15] ذكر السلام عليهما في أوقات ثلاثة وفي نوح في الأوقات كلها، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ }.
أي: إنا هكذا نجزي كل محسن، فجزاه الله بإحسانه إلينا الحسن في العالمين، رغب الناس في الإحسان: إما إلى الخلق، وإما إلى أنفسهم، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ٱلْمُؤْمِنِينَ }.
وليس في ذكره أنه من المؤمنين كثير منفعة له وهو من أولي العزم من الرسل، لكن يحتمل ذكره إياه أنه من المؤمنين وجوهاً:
أحدها: أنه من عبادنا المؤمنين قبل الرسالة وقبل أن يبعث رسولا، أي: لم يصر مؤمناً وقت الرسالة، ولكن كان لم يزل مؤمناً قبل الرسالة.
والثاني: أنه من عبادنا المؤمنين بك يا محمد؛ يذكر هذا ليسر به صلى الله عليه وسلم ويفرح عليه، والرسل - عليهم السلام - جميعاً يؤمن بعضهم ببعض.
والثالث: أنه كان من عبادنا المؤمنين المحققين الموفين، أي: وفاء ما اعتقد بلسانه، وهكذا كان الرسل كلهم موفين ما اعتقدوا [و]أعطوا بلسانهم، وهكذا يعتقد كل مؤمن في أصل إيمانه واعتقاده ألا يعصي ربه، وألا يخالفه في شيء من أموره ونواهيه، لكنه لا يفي ما اعتقده فعلا بل يقع - ربما - في معاصيه وفي مخالفة أمره ونهيه، والله أعلم.