التفاسير

< >
عرض

صۤ وَٱلْقُرْآنِ ذِي ٱلذِّكْرِ
١
بَلِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ
٢
كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَواْ وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ
٣
وَعَجِبُوۤاْ أَن جَآءَهُم مٌّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ ٱلْكَافِرُونَ هَـٰذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ
٤
أَجَعَلَ ٱلآلِهَةَ إِلَـٰهاً وَاحِداً إِنَّ هَـٰذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ
٥
وَٱنطَلَقَ ٱلْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ ٱمْشُواْ وَاْصْبِرُواْ عَلَىٰ آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَـٰذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ
٦
مَا سَمِعْنَا بِهَـٰذَا فِى ٱلْمِلَّةِ ٱلآخِرَةِ إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ ٱخْتِلاَقٌ
٧
أَءُنزِلَ عَلَيْهِ ٱلذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فَي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ
٨

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { صۤ وَٱلْقُرْآنِ ذِي ٱلذِّكْرِ }.
قال بعضهم: { صۤ } لنا هو اسم تلك السورة التي ذكر، وكذلك قوله:
{ قۤ وَٱلْقُرْآنِ } [ق: 1] وكذلك جميع الحروف المقطعات، ولله أن يسمي ما شاء بما شاء وبأي اسم شاء.
وقال بعضهم لنا: هو أسماء الرب، تبارك وتعالى.
وقال بعضهم لنا: هو فواتح السورة، وقد ذكرنا أنه يفسره ما ذكر على أثره، وقد ذكرنا في غير موضع ما قيل في الحروف المقطعة.
وقال بعضهم: صاد، أي: عارض بالقرآن.
قال أبو عبيدة: صاد: من المصاداة.
وقال الزجاج: صاد بالقرآن، أي: قاتل به، وحارب بالقرآن.
وقال بعضهم: صاد بالقرآن، أي: ناد بالقرآن.
وقيل: أقبل بالقرآن ونحوه، والله أعلم.
وقال بعضهم: هو قسم أقسم بقوله: { وَٱلْقُرْآنِ }.
وقوله - عز وجل -: { ذِي ٱلذِّكْرِ }.
يحتمل ذي الشرف، سماه ذكرا؛ لأن كل شريف يذكر في كل ملأ من الخلق، أو سماه: ذكراً؛ لما يذكرهم كل ما لهم وما عليهم وما يؤتى وما يذر، والله أعلم.
وقال بعضهم: ذي البيان.
وقوله - عز وجل -: { بَلِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ }.
"ذكر أن أبا طالب كان مريضاً فجاءه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده وعند رأسه مقعد رجل، فقال أبو جهل، فجلس فيه وعنده ملأ من قريش، فشكوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي طالب، فقالوا: إنه يقع في آلهتنا، قال: يا بن أخي، ما تريد منهم؟ قال: يا عم، إني أريد منهم كلمة تدين لهم بها العرب ويؤدي إليهم بها العجم الجزية، قال: وما هي؟ قال: لا إله إلا الله، فقال أبو جهل: أجعل الآلهة إلهاً واحداً" ، بذلك أخبرهم "العزة" التي ذكر حيث قال: { بَلِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ }.
وقوله: { فِي عِزَّةٍ }.
قال بعضهم: منعة معاندين ممتنعين.
وقال بعضهم: { فِي عِزَّةٍ } في حمية واعتزاز، والحمية هي التي تحمل على الخلاف والمعصية، والله أعلم.
ثم اختلف في موضع القسم هاهنا:
قال بعضهم: القسم في قوله: { كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَواْ وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ } قيل: في قوله: { كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ } بوجهين:
أحدهما: أن هذا في كل كافر ومشرك ينادي عند موته وهلاكه، ويسأل ربه الرجوع والعود إلى الدنيا ليؤمن؛ كقوله:
{ حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ٱرْجِعُونِ * لَعَلِّيۤ أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا... } [المؤمنون: 99-100] { وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلاۤ أَخَّرْتَنِيۤ إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ } الآية [المنافقون: 10] ونحوه، لكن لم ينفع ذلك النداء والغوث والسؤال التأخير على ما أخبر أنه إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون.
ومنهم من يقول: هذا في الجملة في الأمم التي أهلكت من قبل واستؤصلت بالتكذيب والعناد، كانوا ينادون عند نزول ذلك بهم ووقوعه عليهم، ويسألون الغوث ويظهرون الإيمان؛ كقوله - عز وجل -:
{ فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُوۤاْ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَحْدَهُ } [غافر: 84] لكن لا ينفعهم إيمانهم في ذلك الوقت على ما أخبر الله - عز وجل - لأنه إيمان دفع العذاب واضطرار لا إيمان اختيار، يخوف بهذا أهل مكة أن ينزل بهم ما نزل بأولئك ويندمون على صنيعهم كما ندم أولئك، والله أعلم.
ثم قوله - عز وجل -: { وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ } هو في الأصل (ولاه)، فإذا وصل بـ (حين) صارت (ولات) كأنه يمين، أي: والله، وهو قول الكسائي.
وقال بعضهم: هو (ولا) وليس هنالك تاء وإنما التاء في (حين)، أي: (تحين)، وربما يزاد التاء في (حين) و(لا).
وقال بعضهم: (ولات) بالتاء، وقد قرئ بالتاء والوقف عليها.
[و] قوله: { حِينَ مَنَاصٍ } ابن عباس - رضي الله عنه - يقول: "ليس بحين تزور ولا فرار".
وقال بعضهم: ليس بحين مغاث.
وقيل: ليس بحين جزع، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -:
{ بَلْ عَجِبُوۤاْ أَن جَآءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ } [ق: 2].
يحتمل هذا وجهين:
أحدهما: { وَعَجِبُوۤاْ أَن جَآءَهُم مٌّنذِرٌ مِّنْهُمْ } أي: من بشر مثلهم؛ كقوله - عز وجل -:
{ هَلْ هَـٰذَآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ } [الأنبياء: 3]، وقوله - عز وجل -: { يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ } [المؤمنون: 33]، وقولهم: { أَبَعَثَ ٱللَّهُ بَشَراً رَّسُولاً } [الإسراء: 94] كانوا ينكرون الرسالة في البشر ويقولون: { لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا ٱلْمَلاَئِكَةُ } [الفرقان: 21].
والثاني:
{ بَلْ عَجِبُوۤاْ أَن جَآءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ } [ق: 2] أي: من دونهم في أمر الدنيا، لما رأوا أنفسهم قد فضلوا في أمر الدنيا دونه، فقالوا: { أَءُنزِلَ عَلَيْهِ ٱلذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا }، وقالوا: { لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [الزخرف: 31] لم يروا من دونهم في أمر الدنيا [أهلاً لذلك] على ما ذكر، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَقَالَ ٱلْكَافِرُونَ هَـٰذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ }.
دل هذا القول منهم: أنه قد كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه معجزة أتى بها حتى قالوا: { سَاحِرٌ كَذَّابٌ }، علموا أنه رسول الله، لكنهم عاندوا وأرادوا بقولهم: { سَاحِرٌ كَذَّابٌ } أن يغووا أتباعهم عليه، كما أغوى فرعون قومه على موسى - عليه السلام - حيث قال:
{ يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ } [الشعراء: 35] وهو - عليه السلام - لم يرد أن يخرجهم من أرضهم، إنما يريد الإسلام منهم؛ فعلى ذلك هؤلاء الرؤساء عرفوا أنه ليس بساحر ولكنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن أرادوا أن يغووا قومهم وأتباعهم عليه ولبسوا أمره عليهم؛ لئلا يتبعوه، وكذلك قوله - عز وجل -: { أَجَعَلَ ٱلآلِهَةَ إِلَـٰهاً وَاحِداً إِنَّ هَـٰذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } هذا القول من الرؤساء والمتبوعين منهم إغواء عليه لما عرفوا من خبر عبادة الأصنام والأوثان في قلوبهم، فقالوا: { أَجَعَلَ ٱلآلِهَةَ إِلَـٰهاً وَاحِداً إِنَّ هَـٰذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ }.
وقوله - عز وجل -: { وَٱنطَلَقَ ٱلْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ ٱمْشُواْ وَاْصْبِرُواْ عَلَىٰ آلِهَتِكُمْ }.
اختلف في قوله: { أَنِ ٱمْشُواْ } قال بعضهم: إن الملأ منهم والأتباع، أتوا أبا طالب يشكون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يذكر آلهتهم بسوء، فلما كلموه في ذلك لم يلتئم أمرهم فيما طمعوا منه ولم يجبهم إلى ما دعوه إليه وسألوه، فقال الملأ وهو أشرافهم للأتباع: امشوا من عنده واصبروا على عبادة آلهتكم.
أو أن يقال: أن قال الملأ للأتباع: { أَنِ ٱمْشُواْ } إلى آلهتكم { وَاْصْبِرُواْ } على عبادتها.
أو أن يكون قولهم لهم: { أَنِ ٱمْشُواْ } إلى أبي طالب وقولوا له كذا { وَاْصْبِرُواْ } على كذا.
أو يقولون: امشوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { إِنَّ هَـٰذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ }.
لسنا ندري ما أرادوا بقولهم: { إِنَّ هَـٰذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ }، فجائز أن يكونوا أرادوا بذلك أن محمداً صلى الله عليه وسلم وإن دعاكم إلى ترك عبادة الأصنام لا يترككم كذلك، ولكن يدعوكم إلى عبادة غيرها، أو يطلب منكم أشياء أحوالا، أو أشياء أرادوا لسنا نعرف ما أرادوا بذلك، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { مَا سَمِعْنَا بِهَـٰذَا فِى ٱلْمِلَّةِ ٱلآخِرَةِ }.
قال بعضهم: الملة الآخرة: هي ملة عيسى - عليه السلام - قالوا ذلك؛ لأن النصارى اختلفوا في عيسى - عليه السلام - منهم من اتخذه إلهاً، ومنهم من اتخذه ولداً لله - عز وجل - فيقولون: عبادة الواحد الذي يدعو إليه محمد صلى الله عليه وسلم في الملة الآخرة وهي النصرانية إذ من صيره إلها عنده ومن قال: إنه صيره بحيث يحتمل الشريك؟! فيقولون: ظهرت عبادة العدد من الملة الآخرة فكيف يمنعنا محمد - عليه الصلاة والسلام - عن عبادة العدد ويدعونا إلى عبادة الواحد؟!
وقال بعضهم في قوله: { فِى ٱلْمِلَّةِ ٱلآخِرَةِ }: هي الحال التي كانوا عليها يقولون: { مَا سَمِعْنَا بِهَـٰذَا فِى ٱلْمِلَّةِ ٱلآخِرَةِ } التي نحن عليها وكان آباؤنا عليها لا على عبادة الواحد، يقولون: { إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ ٱخْتِلاَقٌ } من عند محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله - عز وجل -: { أَءُنزِلَ عَلَيْهِ ٱلذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا }.
يدل على أنهم قد رأوا أن من أنزل عليه الذكر من السماء إنما ينزل لفضل وخصوصية، لكن إنما رأوا الفضل والخصوصية لأنفسهم؛ لما لهم الفضل في الدنيا؛ فلم يروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لذلك أنكروا إنزال الذكر عليه دونهم؛ ولذلك قالوا:
{ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [الزخرف: 31]، وقوله: { أَءُنزِلَ عَلَيْهِ ٱلذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا }.
ثم أخبر - عز وجل - أنهم شاكون في ذكره، حيث قال: { بَلْ هُمْ فَي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي }.
وتأويل هذا - والله أعلم -: أن الشك هو الذي لا يوجب القطع على شيء بل يوجب الوقف فبطل القطع على شيء، فكيف قطعتم علي الرد والإنكار دون أن تقفوا فيه؟! والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ }.
ثم يحتمل أن يكون هذا على الإخبار عن الإياس من إيمانهم أنهم لا [يؤمنون حتى] يذوقوا العذاب؛ كقوله:
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلْعَذَابَ ٱلأَلِيمَ } [يونس: 96-97].
وقال مقاتل: اللام زائدة كأنه قال: { بَلْ هُمْ فَي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ } يذكر سفههم في ردهم الذكر وتكذيبهم إياه على الشك منهم، والشك يوجب الوقف في الشيء لا القطع في الرد والتكذيب له.
ثم فيه الدلالة على أن الحجج والبراهين قد تلزم من جهلها ولم تتحقق عنده إذا كانت يسهل التحقق منها والوقوف عليها بالتأمل والنظر فيها وإن كانت لم تتحقق عنده بالبديهة وعند قرعها سمعه؛ فهو حجة لقول علمائنا: إن من أسلم في دار الإسلام ولم يعلم أن عليه الشرائع والأحكام كان مأخوذاً بها غير معذور في جهله فيها؛ لأنها يسهل ما يوصل إليها بالسؤال والبحث عنها والفحص منها، والله أعلم.