التفاسير

< >
عرض

لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ ٱلْوَالِدَانِ وَٱلأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ ٱلْوَالِدَانِ وَٱلأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً
٧
وَإِذَا حَضَرَ ٱلْقِسْمَةَ أُوْلُواْ ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينُ فَٱرْزُقُوهُمْ مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً
٨
وَلْيَخْشَ ٱلَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً
٩
إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلْيَتَٰمَىٰ ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً
١٠
-النساء

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ ٱلْوَالِدَانِ وَٱلأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ... } الآية.
يحتمل أن تكون الآية - والله أعلم - نزلت بسبب ما لكم يكن يورث أهل الجاهلية الإناث والصغار، ويجعلون المواريث لذوي الأسنان من الرجال، الذين يصلحون للحرب، ويحرزون الغنيمة؛ فنزلت الآية بتوريث الرجال والنساء جميعاً.
ويقال:
"إن الآية نزلت في شأن رجل يقال له: أوس بن ثابت الأنصاري، توفي وترك بنات وامرأة، فقام رجلان من بني عمه - وهما وصيان - فأخذا ماله، ولم يعطيا امرأته ولا بناته شيئاً؛ فجاءت امرأة أوس بن ثابت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكت، وأخبرت بالقصة؛ فقال لها: ارْجِعِي في بَيْتِكِ حَتَّى أَنْظُرَ مَا يُحْدِثُ الله في ذَلِكَ" . فانصرفت؛ فنزل قوله - تعالى -: { لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ ٱلْوَالِدَانِ وَٱلأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ ٱلْوَالِدَانِ... } الآية.
وقيل: نزلت الآية في شأن امرأة سعد:
"أن سعداً استشهد بأحد، وترك ابنتين وامرأة، فاحتوى أخ لسعد على مال سعد، ولم يعط المرأة ولا الابنتين شيئاً؛ فاختصمت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرته بالقصة؛ فقال لها: لَمْ يُنْزِلِ الله عَلَيَّ فِيكُمْ شَيْئاً. ثم نزلت الآية، فأخذ من عمهما ثلثي المال، ورده إليهما، ودفع الثُّمُن إلى المرأة، وترك البقية للعم" . والله أعلم أنْ فيم كان نزولها؟.
وفي هذا الخبر دليل أن للابنتين الثلثين، كما للثلاث فصاعداً، ليس كما قال بعض الناس: إن لهما النصف؛ لأن الله - تعالى - إنما جعل الثلثين للثلاثة.
ثم تحتمل الآية وجهين بعد هذا:
تحتمل أن يكون المراد الأولاد خاصة لا غير؛ فيدخل كل ولد: ولد البنات، وولد البنين؛ لأنهم كلهم أولاده.
ويحتمل أن يكون المراد منها الرجال والنساء؛ فيدخل ذوو الأرحام في ذلك، فلما لم يدخل بنات البنات في ذلك - وهم أولاد - دل أنه أراد النساء والرجال جميعاً، لا الأولاد خاصة.
وفيه دلالة نسخ الوصية للوارث؛ لأنه قال - عز وجل -: { لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ ٱلْوَالِدَانِ وَٱلأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ... } إلى قوله: { مَّفْرُوضاً } أي: معلوماً بما أوجب في كل قبيل.
ثم قال في قوله: { نَصِيباً مَّفْرُوضاً }، قيل: ذا يرجع إلى ما بين فرضه، وهو أصحاب الفرائض دون العصبات، فيكون على ما أشار إلى حقه من حيث الاسم في القرآن.
ويحتمل ما بين، وقد جرى فيه ذكر حقين:
أحدهما: حق العصبة، كما ذكر في الأب والإخوة والأولاد، وحق أصحاب الفرائض، ولو كان على ذلك فقد يتضمن الفرض ما يعلم بالإشارة إليه والدلالة؛ لأن أكثر من يوصي بحق العصبة هو ما لا نص فيه، والذي فيه النص هو في الأولاد والإخوة - خاصة - والوالد.
وقيل: يتضمن كل الأقرباء على اختلاف الدرجات؛ فيكون منصوصاً - أيضاً ومدلولا عليه؛ ويؤيد هذا التأويل قوله:
{ وَأْوْلُواْ ٱلأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ } [الأنفال: 75] ثم بَيَّن: { مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُهَاجِرِينَ } [الأحزاب: 6] وأولئك هم البعداء الذين لهم أخوة الدين والهجرة، فإذا بقي في الرحم أحد - لم يصرف ذلك إلى المؤمنين، وقد قدم حقهم على المؤمنين والمهاجرين بالرحم؛ لذلك هم أولى، مع ما للإمام صرف ذلك بحق الإيمان إليهم؛ فيصير الدفع إليهم بحق الجواز، وإلى غيرهم شك عند قيامهم؛ فالدفع إليهم أولى لوجهين:
أحدهما: عموم الكتاب على تحقيق حق لكل آية منها؛ دون إدخال حكم آية في حق آخرين بلا ضرورة.
والثاني: الإجماع من الوجه الذي ذكرت مع اتفاق أكثر الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - والفتوى إلى يومنا هذا.
وقوله - عز وجل -: { وَإِذَا حَضَرَ ٱلْقِسْمَةَ أُوْلُواْ ٱلْقُرْبَىٰ } قيل فيه بوجهين:
قيل: أراد بالقسمة: قسمة المواريث بين الورثة بعد موت الميت.
وقيل: أراد به: قسمة الموصي وهو الإيصاء، يوصي ويبر لمن ذكر من الأقرباء واليتامى والمساكين بشيء؛ فالخطاب للموصي.
ومن قال بقسمة المواريث: فالخطاب للورثة إن كانوا كباراً، يعطون لهؤلاء شيئاً، ويبرونهم بشيء؛ وإن كانوا صغارا يقول الوصي: لهم { قَوْلاً مَّعْرُوفاً }، أي: يَعِدُ لهم عدَةً حسنة إلى وقت خروج الأنزال، أو إلى وقت البيع إن باعوها.
ثم اختلف المتأولون فيها:
قال بعضهم: هي منسوخة.
وقال آخرون: هي محكمة، وهو قول ابن عباس، رضي الله عنه.
ومن قال: هي منسوخة، قال: نسختها آية المواريث: قوله - عز وجل -: { يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيۤ أَوْلَٰدِكُمْ... } الآية؛ لأنهم كانوا يوصون الأولاد والآباء والأمهات؛ كقوله - عز وجل -:
{ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً ٱلْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ... } الآية [البقرة: 180] فنسخت آية المواريث وصية الموصي.
ومن قال: هي محكمة متقنة، وهو قول ابن عباس، والحسن ومجاهد وغيرهم؛ لأنه المعروف والبر والإحسان، وذلك مما لا يحتمل النسخ.
وقيل: إن عبد الله بن عبد الرحمن قسم ميراث أبيه، وعائشة حيةٌ، فلم يدع في الدار مسكيناً ولا ذا قرابة إلا قسم له من ميراث أبيه، وتلا هذه الآية: { وَإِذَا حَضَرَ ٱلْقِسْمَةَ... } الآية، فذكر ذلك لابن عباس - رضي الله عنه - فقال: ما أصاب، ليس ذلك له؛ إنما ذلك في الوصية، يريد الميت أن يوصي لهم.
وقوله - عز وجل -: { فَٱرْزُقُوهُمْ مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً }.
قيل: إذا كان المال كثيراً - رضخ وأعطى لهم شيئاً، وإذا كان قليلاً اعتذر إليهم، وهو قول ابن عباس، رضي الله عنه.
وقيل: أمر من يرث أن يرضخ ويعطي لمن لا يرث شيئاً، وهو قول الحسن، ويقال لهم: { قَوْلاً مَّعْرُوفاً }.
والقول المعروف يحتمل ما ذكرنا: أن يعطى لهم إن كانوا كباراً - أعني: الورثة - ويعد لهم عِدة إن كان المال ضياعاً إلى وقت خروج الأنزال والغلات، أو إلى وقت خروج الثمر، أو يعطي الورثة إن كانوا كباراً ويعتذر إليهم الوصي إن كانوا صغاراً.
وقوله - جل وعز -: { وَلْيَخْشَ ٱلَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ } قيل: هو الرجل يحضره الموت، وله ولد صغار، فيقول له آخر: أوصِ بكذا، أو أعتق كذا، أو افعل كذا، ولو كان هو الميت لأحب أن يترك لولده؛ فخوف هذا القائل بقوله: { فَلْيَتَّقُواْ ٱللَّهَ }، وأمر أن يقول له مثل ما يحب أن يقال له في ولده بالعدل بقوله - عز وجل -: { وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً }، وهو قول ابن عباس رضي الله عنه.
وقيل: هو الرجل يحضره الموت، فيقول له مَنْ يحضره: اتق الله، وأمسك عليك لولدك الصغار والضعفاء، ليس أحد أحق بمالك منهم، ولا توصِ [من مالك] شيئاً. فنهي أن يقال له ذلك؛ لما لو كان هو الموصي ، وله ورثة صغار ضعفاء، أحبَّ بألاَّ يقال له ذلك؛ فكذلك لا يقول هو له. والأول أشبه.
وقوله: { وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً }.
قيل: عدلاً؛ يأمر أن يوصي بما عليه من الدَّين والوصية، ولا يجوز في الوصية.
وعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: نهي من حضر منهم مريضاً عند الموت أن يأمره أن ينفق ماله في العتق والصدقة، أو في سبيل الله؛ ولكن يأمره أن يبين ما له وما عليه من دين أو حق.
وقوله: { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلْيَتَٰمَىٰ ظُلْماً }.
أي: استحلالاً، فإذا استحل كفر؛، فذلك الوعيد له.
وقيل: { ظُلْماً }: أي: غضباً.
والأكل: هو عبارة عن الأخذ؛ كقوله:
{ لاَ تَأْكُلُواْ ٱلرِّبَٰواْ أَضْعَٰفاً مُّضَٰعَفَةً } [آل عمران: 130] إنما هو نهي عن أخذه، وكذلك قوله: { ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ ٱلرِّبَٰواْ } [البقرة: 275]، وقوله: { وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ ٱلرِّبَٰواْ } [البقرة: 278] - إنما هو نهي عن قبض الربا؛ فعلى ذلك الأكل - في هذه الآية - عبارة عن الأخذ والاستحلال.
ومن حمل الآية على الغصب جعل الوعيد عليه، إلا أن يتوب؛ إذ لله أن يعذب من شاء ممن ارتكب من عباده جرماً، كما جعل الوعيد على المستحل إلا أن يتوب.
وقيل: إنه على التمثيل أن الذي يأكل من مال اليتيم كأنه يأكل ناراً؛ لخبثه ولشدته.
وعن قتادة قال: ذكر لنا
"أن [رسول الله] صلى الله عليه وسلم [كان] يقول: اتَّقُوا الله في الضَّعِيفَين؛ قيل: ومن هما يا [رسول الله] قال: اليَتيمُ والمَرْأة؛ فإن الله أيتمه وأوصى به، وابتلاه وابتلى به" .
وقيل في قوله: { فَلْيَتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلْيَقُولُواْ }: للميت إذا جلس إليه { قَوْلاً سَدِيداً }، أي: عدلاً في وصيته ولا يجور، ومن عدل في وصيته عند موته، فكأنما وجه ماله في سبيل الله؛ فقال سعد بن أبي وقاص: "فسئل النبي صلى الله عليه وسلم: كم يوصي الرجل من ماله؛ فقال: الثُّلُث، والثُلُث كَثيرٌ، لأََنْ تَدَع عِيالَكَ أَغْنياءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَتْرُكَهم عالَةً يَتَكَفَّفُونَ الناسَ" . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله - تعالى - تَصَدَّقَ عَلَيْكُم بثُلُثِ أَمْوالِكم زِيَادةً في أَعْمَالِكم عِندَ وَفَاتِكُم" .