التفاسير

< >
عرض

يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيۤ أَوْلَٰدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ ٱلأُنْثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ ٱثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا ٱلنِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا ٱلسُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ ٱلثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ ٱلسُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَآ أَوْ دَيْنٍ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً
١١
-النساء

تأويلات أهل السنة

وقوله - عز وجل -: { يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيۤ أَوْلَٰدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ ٱلأُنْثَيَيْنِ }.
قيل: قوله: { يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ } أي: يفرضكم الله، وقد سمى الله - تعالى - الميراث فريضة في غير آي من القرآن بقوله: { لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ ٱلْوَالِدَانِ وَٱلأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ } ثم قال:
{ نَصِيباً مَّفْرُوضاً... } [النساء: 7]، وقال - أيضاً - في آخر هذه الآية { فَرِيضَةً مِّنَ ٱللَّهِ }، ولأنه شيء تولى الله إيجابه من غير اكتساب أهله؛ فهو كالفرائض التي أوجبها الله على عباده من غير اكتساب أهلها؛ فعلى ذلك سمى هذه فريضة؛ لأن الله تعالى - أوجبه، والله أعلم.
وقيل: قوله: { يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيۤ أَوْلَٰدِكُمْ }، أي: يبين الله في أولادكم ... إلى آخر ما ذكر.
وفيه نسخ الوصية للوالدين والأقربين في قوله:
{ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً ٱلْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ } [البقرة: 180]، ودليل نسخه ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ؛ فَلاَ وَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ" .
ثم قيل: إن أهل الجاهلية كانوا لا يورثون النساء ولا الصغار من الأولاد والإناث [في الميراث]؛ وإنما كانوا يورثون الرجال ومن يحوز الغنيمة؛ فنزل قوله: { لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ... } الآية [النساء: 7]؛ فالآية في بيان الحق للإناث في الميراث، وكذلك قوله: { يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيۤ أَوْلَٰدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ ٱلأُنْثَيَيْنِ } فيه بيان حق الميراث للذكور والإناث جميعاً.
وقيل: تأويل هذه الآية ما بين في القرآن في ذوي الأرحام، وإن كانوا مختلفين في سبب ذلك، وإن الآيات التي بعدها من قوله: { يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيۤ أَوْلَٰدِكُمْ } إلى آخر الآيات التي فيها ذكر المواريث - فُسر بها مبلغ النصيب الذي أوجبه الله للنساء والرجال في الآية الأولى مجملاً، وأجمعوا أن الرجل إذا مات وترك ولداً ذكوراً وإناثاً؛ فالمال بينهم { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ ٱلأُنْثَيَيْنِ }.
ويحتمل قوله: { فِيۤ أَوْلَٰدِكُمْ } - أولاد موتاكم، وهذا جائز في اللغة؛ لأنه لا يجوز أن يفرض على الرجل قسمة الميراث في أولاده وهو حي؛ دلَّ أنه أراد أولاد الموتى.
أو يحتمل ما ذكرنا أنهم كانوا لا يورثون الإناث من الأولاد والصغار منهم؛ فخاطب الجملة بذلك؛ لئلا يحرموا الإناث من الأولاد والصغار منهم.
وفي قوله: أيضاً -: { يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيۤ أَوْلَٰدِكُمْ }، أي: في أولاد من مات منكم؛ إذ لا يحتمل خطاب الحي ما ذكر في ولده؛ فهذا إن كان تأويل "يوصي": يفرض أو يأمر.
وإن كان تأويل ذلك: يُبَيِّن، فذلك جائز أن يخبر الحي ما بيَّن الله في أولاده بعد موته في ماله، وذلك يمنع الوصية؛ لأنه يزيل حق البيان، ولما يمكن رفع القسمة وتحصيل الوصية على بعض لبعض، وذلك بعيد؛ إذ لا يملك في غيرهم.
ثم من الناس مَنْ رأي نسخ الوصية للوارث بقوله:
{ لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ ٱلْوَالِدَانِ... } الآية [النساء: 7]؛ لأن الآية أوجبت الميراث فيما قل أو كثر، فلو كانت الوصية تجب للوالدين بقوله - تعالى -: { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً ٱلْوَصِيَّةُ... } [البقرة: 180]، لكان الميراث لا يجب فيما قل منه، وإنما يجب فيما يفضل منه، لكن الآية إذا لم تمنع الوصية للأجنبي وهي تصرف السهم المفروض إلى ما يفضل من الوصية؛ فمثله للوارث، لكن في الآية دلالة على رفع الكتاب؛ إذ في الأولى أنها كتبت، فلما أوجب الحق في كل قليل وكثير لم يبق معه الفرض والوجوب، ولكن يجب الفضل، ثم كان حق الوالدين ومن ذكر بحق اللزوم، وقد سقط ذلك، وبه كان يجوز، فلما سقط الحق جاء في الخبر أن "لا وَصِيَّةَ للوَارِثِ" .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الله قد أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّه؛ فلا وَصيَّةَ للوَارِثِ" ؛ فسقط الحق بالآية من الوجه الذي ثبت، والتنفل بقوله: "لا وَصية...".
فمن هذا الوجه الذي ذكرت يسقط حق الوصية بالقرآن، لكن قد ذكر للمرأة لا بحرف الوجوب بقوله:
{ مَّتَاعاً إِلَى ٱلْحَوْلِ } [البقرة: 240] ثم سقط - أيضاً - بالخبر [الذي ذكرنا]؛ إذ ليس في الآية ذكر المرأة بما ذكر فيها ميراث الأولاد والأقربين، وقد بقى حق المتاع؛ إذ له أن يوصي لغير الورثة، لكن ذكر في ميراث المرأة وصية، كقوله: { وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً } [البقرة: 240] من الله، والوصية منه مكتوبة على ما للوالدين والأقربين، ثم أشرك الزوجين في ميراث الوالدين والأقربين مما قل أو كثر، كقوله: "النصف" و"الربع" و"الثمن" مما ترك.
وقد بينا أن الآية نسخت ما ذكرت فصارت ناسخة للأمرين جميعاً، فهذا من جهة الاستخراج في حق النسخ.
على أنه على مذهبنا: السنة كافية في بيان نسخ الحكم [الذي] بينه الكتاب؛ إذ هو بيان منتهى الحكم من الوقت، وقد جعل الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم بحيث البيان مما في القرآن.
وقوله - تعالى -: { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ ٱلأُنْثَيَيْنِ } [النساء: 11]: فيه دلالة أن المال كله للذكر من الولد إذا لم يكن ثَمَّة أنثى؛ لأنه جعل للذكر مثلَيْ ما جعل للأنثى، وجعل للأنثى النصف إذا لم يكن معها ذكر؛ بقوله - تعالى -: { وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا ٱلنِّصْفُ }.
فدل أن للذكر من الولد إذا جعل له مثلي ما جعل للأنثى عند الجمع، إنما جعل له ذلك بحق الكل، ففي حال الانفراد له الكل.
وقوله - تعالى -: { فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ ٱثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ }.
قال بعضهم: بين الحق لما فوق الثنتين، ولم يبين للاثنتين، ولهما النصف الذي ذكر للواحدة، وهو قول ابن عباس، رضي الله عنه.
وأما عندنا: فإن للاثنتين ما للثلاث فصاعداً؛ فيكون بيان الحق للثلاث بياناً للاثنتين؛ لأن الله - تعالى - جعل حق ميراث الواحدة من الأخوات: النصف؛ بقوله:
{ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ } [النساء: 176]، كما جعل حق الابنة النصف إذا لم يكن معها ذكر بقوله - تعالى -: { وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا ٱلنِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا ٱلسُّدُسُ }، ثم جعل للأختين الثلثين بقوله: { إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَآ وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا ٱثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا ٱلثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ } [النساء: 176]، فإذا نزلت الأخوات منزلة البنات في استحقاق النصف إذا كانت واحدة، واستحقاق الثلثين إذا كانتا اثنتين فصاعداً؛ فعلى ذلك نزل بيان الحكم في الأختين منزلة بيان الحكم في الابنتين. قيل: يفوق اثنتين اثنتان فما فوقهما.
وقيل: بين الكتاب الاستواء [بين الابنة] الواحدة والأخت الواحدة؛ ليعلم استواء حق الولد وولد الأب، ثم بين في الأخوات للثنتين الثلثان، وفي البنات لما فوقهما؛ ليكون الذكر في الأختين دليلاً على الابنتين، وفيما كثر من البنات على ما كثر من الأخوات، وأيَّد ذلك أمر الاجتماع بين البنتين والبنات - وإن كثروا - بالإخوة والأخوات - وإن كثروا - مع ما كان معلوماً أن بنات الرجل أحق من بنات أبيه؛ أيَّد ذلك أن بنات ابنه قد يَرِثْنَ، وبنات ابن أبيه لا؛ فلا يجوز أن تكون الأختان أكثر حقا من الابنتين.
وفي الأغلب أن يجعل لهن ميراث هؤلاء، وأيد ذلك أنه ما دام يوجد في الأولاد من له فرض أو فضل - لم يصرف إلى أولاد الأب؛ ثبت أنهم بمعنى الخلف من هؤلاء، وعلى ما ذكرت جاءت الآثار، واجتمع عليه أهل الفتوى.
وقوله - عز وجل -: { وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا ٱلسُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ }.
اختلف فيه:
قال بعضهم: أراد بالولد الذكورَ خاصة؛ لأنه جعل للأبوين لكُلِّ واحد منهما السدس إذا كان الولد ذكراً، أما إذا الولد أنثى فللأب يكون الثلث.
وأمَّا عندنا: فإن اسم الولد يجمع الذكور والإناث جميعاً.
وبعد: فإنه إن كان الولد - هاهنا - ذكراً وأنثى؛ فينظر:
إن كان ذكراً يكون لكل واحد من الأبوين السدس، والباقي للولد.
وإن كان أنثى فلها النصف، وللأبوين السدسان، والباقي للأب؛ على ما جاء في الخبر:
"مَا أَبْقَتِ الفَرَائِضُ فِلأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ" .
وقالت الروافض: الباقي للابنة، ذهبوا في ذلك إلى أن الذي يقابل الابنة هو الابن، والذي يقابل الأب هي الأم، فالذي يقابلُ الابنة هو أولى بإحراز الميراث من الذي يقابل الأم؛ وهو الأب؛ فعلى ذلك الذي يقابل الابن - وهي الابنة - أولى بذلك من الذي يقابل الأم؛ وهو الأب.
وأما عندنا: فإن الأب أولى بذلك من الابنة؛ لأن للأب حَقَّيْن: حق فريضة، وحق عصبة: أمَّا حق الفريضة بقوله: { وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا ٱلسُّدُسُ }، وأما حق العصبة بقوله - عز وجل: { وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ ٱلثُّلُثُ }: جعل الباقي له؛ فذو حقين أولى بذلك من ذي حق واحد، والابنة ليس لها إلا حق الفريضة؛ لذلك كان الأب أولى.
وفي الخبر دلالة أن حكم الابنتين وما فوقهما سواء، وهو الثلثان: ما روي عن جابر بن عبد الله قال:
"جاءت امرأة ثابت بن قيس بابنتين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، هاتان ابنتا ثابت [بن قيس]، أصيبَ معك يوم أحد، وقد أخذ عمهما مالهما وميراثهما، ولم يدع لهما شيئاً إلا أخذه، فما ترى يا رسول الله؟ فوالله لا تنكحان إلا ولهما مال، فنزل قوله - تعالى -: { يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيۤ أَوْلَٰدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ ٱلأُنْثَيَيْنِ }؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعم الجاريتين: أَعْطهِمَا الثُّلُثَيْنِ، وَأَعْطِ أمَّهُما الثُّمُنَ، ولَكَ ما بَقِيَ" .
ثم في الآية دلائل:
أحدها: يخرج الخطاب على العموم، والمراد منه خاص؛ لأنه ذكر الأولاد، والولد قد يكون على غير دينه؛ فلا يرث، وقد يكون مملوكاً فلا يرث، على ما روي في الخبر:
"لاَ يَتَوَارَث أَهْلُ مِلَّتَيْنِ" ، وما روي: "لا يَرِث المُسْلمُ الكافِرَ وَلاَ الكَافِرُ المُسْلِمَ إِلا العَبْدَ مَوْلاَهُ" ، وذلك في الحقيقة ليس بميراث، ولكن ما للعبد يكون لمولاه.
وفي هذا دليل جواز الاستثناء من غير نوعه؛ حيث استثنى العبد، وذلك في الحقيقة ليس بميراث.
وفي الآية دليل جواز القياس، والفكر فيها، والاعتبار؛ لأن ميراث الابنتين مستدل عليهما، غير منصوص، وكذلك ميراث الذكور من الأولاد بالانفراد مستدل عليه غير منصوص، وما يحرز الأب من الميراث بحق العصبة مستدل عليه لا منصوص، وما يستحق بالفريضة فهو منصوصٌ عليه، وهكذا كل من يستحق شيئاً بحق الفريضة فهو منصوص عليه؛ فدل أن ما ترك ذكره إنما ترك للاجتهاد، والتفكر فيه، والاعتبار.
وفيه دليل أنه يجوز ألا يُطْلِع الله عباده على الأشياء بقوله - تعالى - { آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً } إذ لم يبين أيهم أقرب نفعاً؛ دل قوله { وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ ٱلثُّلُثُ }؛ إذ ذكر وراثتهما، ولم يبين حق الأب أنه جعله عصبة يرد إليه الفضل.
فيظهرُ للأب بهذه الآية من قوله - تعالى -: { يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ... } إلى آخرها - أمران:
أَحَدُهُمَا: حق العصبة.
الثاني: حق الفرض بقوله: { لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا ٱلسُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ }.
ثم بعد هذا فيه أمران:
أحدهما: أنه إذا ثبت له حق العصبة، وقد بين الله - تعالى - نصيب الابنة أنه النصف، ونصيب الأب مع الوالد أن له السدس؛ فزعمت الشيعة أن الفضل يرد إلى الابنة؛ لأنها ولد، ولم يذكر له مع الولد إلا السدس.
وعندنا: يرد إلى الأب؛ لأنه لم يذكر للابنة إلا النصف، ثم قد جعل الأب عصبة فيما له حق الفضل عن المفروض، ولم يجعل الابنة؛ لذلك كان الرد إلى الأب أحق مع ما يحتمل إن كان له ولد ذكر، ثم حرمت الأمُّ بالابنة؛ إذ هي تحرم بالأخوات، فالبنات أحق؛ إذ هن أقرب.
والثاني: أنه إذ جعل للأب السهم من وجهين: ثم الذي له في أحد الوجهين صار للجد دون أولاده، وبين لأولاد الأب الحق، وإبقاء حق الجدِّ لما بين لولده؛ فعلى ذلك ما له من الوجه الثاني وهو أولى؛ لأن حق العصَّاب يخرج على إلحاق الأبعدين فيه بالأقربين، وحق الفرائض لا، حتى يبين، ثم صار الجدُّ أباً في حقِّه من الفرض إذا لم يكن هو فمثله في حق العصبة.
ثم فيه وجه آخر: أنه أتبع ذلك الذَّكر ذِكر الزوجين، وذكرهما مع الولد، ولم يذكر معهما الولدان؛ فثبت أن أمرهما يدخل في حالهما فيما كان، لا في حالهما؛ أي: الزوجين، وأيَّد ذلك قوله: إنه بقى حالهما مع الزوجين مع الولد على ما كان عليه دون الزوجين معه؛ فعلى ذلك حالهما بلا ولد، وفي ذلك وجوب صرف حقهما إلى ما فضل، كما ذكر في قوله:
{ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ } فيكون الفضل بينهما على ما كان عليه بالكل لولا الزوجان.
وقوله: { فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ ٱلسُّدُسُ }.
اختلف في حكم الآية من أوجه ثلاثة:
قال بعضهم: لا يحجب الأم عن الثلث أخوان ولا أختان، حتى يكون ثلاثة؛ لأن الله - تعالى - قال: { إِخْوَةٌ }، وأقل الإخوة ثلاثة، وهو قول ابن عباس، رضي الله عنه.
وقال آخرون: يحجب الأم عن الثلث الذكور منهم؛ ولا تحجب الإناث؛ لأن الله - تعالى - ذكر الإخوة، والإخوة اسم للذكور منهم دون الإناث؛ إذ الإناث اسم على حدة وهو الأخوات؛ لذلك حجب الذكور ولم يحجب الإناث.
وأمَّا عندنا: فإن الإخوة اسم للذكور والإناث جميعاً في الحكم، وإن لم يكن اسماً لهما جميعاً في الحقيقية؛ ألا ترى أن الله - تعالى - ذكر الإخوة ثم جعل بالتفسير اسما لهما جميعا بقوله:
{ وَإِن كَانُوۤاْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَآءً } [النساء: 176]، دل أن اسم الإخوة يجمع الذكور والإناث جميعا في الحكم؛ لذلك حجب الأم عن الثلث ذكوراً كانوا أو إناثاً.
وأما قولنا: بأن الاثنين يحجبانها عن الثلث: ما روي عن علي وعبد الله وزيد بن ثابت أنهم قالوا: يحجب الأخوان الأم عن الثلث كما يحجبها الثلاثة.
وجعلوا الأخوين أخوة والفرائض على اختلافها اتفقت في أن حكم الاثنين حكم الأكثر؛ فكذلك في حق الحجاب، والله أعلم.
وحجة أخرى: وهي أنَّ الله - تعالى - حكم في
{ ٱلْكَلاَلَةِ } [النساء: 176] إذا كان واحداً أن له السدس، { فَإِن كَانُوۤاْ أَكْثَرَ مِن ذٰلِكَ فَهُمْ شُرَكَآءُ فِي ٱلثُّلُثِ }؛ فجعل حكم الاثنين والثلاثة واحداً يشتركون في الثلث؛ فوجب أن يكون حكم الاثنين والثلاثة في الإخوة في حجب الأم عن الثلث سواء.
وحجة أخرى: وهي أن الله - تعالى - جعل للأختين من الأب والأم الثلثين، وسوى بين حكم الأختين والثلاث في الميراث؛ فعلى ذلك يجب أن يستوي حكم الأخوين والثلاث في حجاب الأم عن الثلث.
ثم المسألة بيننا وبين الروافض: زعمت الروافض أن الإخوة من الأم لا تحجب الأم عن الثلث؛ لأنهم منها، فمن البعيد أن يحجبوها، ويمنعوا ذلك عنها، ويجعلون ذلك لغيرها، يضرون بالأم ويَنْفَعونَ غيرها؛ وقد قال - تعالى -: { آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ ٱللَّهِ }.
والثاني: أن الحجاب قد يجوز أن يقع بمن يحصل له ما حجب عنها نحو الإخوة من الأب والأم إذا حجبوا الأم عن الثلث وقع لهم ذلك، وأمَّا الإخوة من الأم فإن وقع لهم الحجاب لم يجعل لهم ذلك المحجوب منه؛ فلا يحتمل الحجاب بهم.
وأما عندنا: فإنه ليس لهم بحق القرب والبعد ما يحجبون، ولكن بحق الميت، فإذا كان ما ذكرنا؛ فسواء كانوا من قبل الأم أو من قبل الأب في حق الحجاب.
والثاني: أن المواريث جعلت حق الابتداء لا بحق المورثين؛ لما لا يحتمل أن يختار المورث من هو أبعد على من هو أقرب، نحو من يموت عن ابنة وابن عم، لا يحتمل أن يختار ابن العم على الابنة في النصف الباقي؛ دل أنه على الابتداء.
ونقول في الإخوة في الأم: إنهم في الحجاب كالإخوة من الأب والأم، وإن كان الحق لغيرهم؛ لما أن الإخوة لما تفرقت حقوقهم ذكرت، وكذلك الأولاد، فلو كان الحجابُ يتفرق لكانت الحاجة إلى الذكر لازمة؛ إذ بعيد ترك الأمر للنظر فيما لا أصل له في الأثر، ولا أصل له في هذا بالتفريق؛ بل قد جمع ذلك بين الإخوة والأخوات، على ما في ذلك من اختلاف الحقوق؛ [ثبت] أن غير الحجاب من الحقوق ليس بأصل له، والأصل أن ذلك لو كان على اعتبار الحق فهو بحق الميت، لا بحق الأبوين؛ لأنه لم يُعرف إيجاب حق ممن لا حق له، ولا حق لهم مع الأب؛ فبان أنه بمعتبر حق الميت يقع الحجاب، والمعنى منه واحد، ولو كان حجاب الإخوة من الأب بالأب لكان الأب إذن حجب الأم، فإذا كان هو لا يحجب بان أن ولدها لا يحجبونها؛ إذ هو بحق الميت.
وقوله: { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَآ أَوْ دَيْنٍ }.
ذكر الله - تعالى - الوصية قبل الدين، وأجمع أهلُ العلم أن الدين يبدأ به قبل الوصية والميراث.
روي عن علي - رضي الله عنه - قال: تقرءون الوصية قبل الدين، وقضى محمد - عليه الصلاة والسلام - بالدين قبل الوصية.
وروي عن علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"الدِّيْنُ قَبْلَ الوَصِيَّةِ، وَالْوَصِيَّةُ قَبْلَ المِيرَاثِ، وَلاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثِ" .
وأجمعوا أنه إذا قضى الدين - دفع إلى أهل الوصايا وصاياهم إلا أن تجاوز الثلث فترد إلى الثلث؛ إن لم يجز الورثة، ويقسم الثلثان بين الورثة على فرائض الله تعالى.
وليس معنى قول الله - تعالى -: { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَآ أَوْ دَيْنٍ } - أن يخرج الثلث، فيبدأ بدفعه إلى الموصى لهم، ثم يدفع الثلثان إلى الورثة؛ لأن الموصى له شريك الورثة؛ إن هلك من المال شيء قبل القسمة ذهب من الورثة والموصى له جميعاً، ويبقى سائر المال بالشركة بينهم.
ولكن معناه: من بعد وصية إعلام أن الميراث يجري في المال بعد وضع الوصية من جملته إذا كان الثلث أو دونه، وإن لم يكن دفع ذلك إلى أصحاب الوصايا، ثم لم يذكر في الآية قدر الدين والوصية، ومن قولهم: إن الدين إذا أحاط بالتركة منع الميراث والوصية، وإذا لم يحط لم يمنع.
والوصية تجوز قدر الثلث، ولا تجوز أكثر من الثلث، إلا أن يجيز الورثة.
والآية لم تخص قدراً من الدَّين دون قدر، وكذلك الوصية، لكن تفسيره ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"الثُّّلُث والثُّلُث كَثيرٌ" ، وما رُوي في خبر آخر: "إِنَّ اللهَ - تَعَالَى - تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ عِنْدَ وَفَاتِكُمْ زِيَادَةً فِي أَعْمَالِكُمْ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ" ، وما روي في خبر آخر عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - وعمر وعثمان - رضي الله عنهما -: "الخُمُسُ اقْتِصَادٌ، وَالرُّبُعُ جَهْدٌ، وَالثُّلُثُ حَيْفٌ" .
ثم الوصية جوازها الاستحسان والإفضال من الله تعالى، والقياس يبطلها؛ وذلك أن الله - تعالى - لم يملك الخلق أَعيْنَ الأموال؛ وإنما جعل الانتفاع لهم بها؛ ألا ترى أنهم نُهوا عن إضاعتها، ولو كان أعين المال لهم لكان لا مَعْنى للنَّهْي عن إضاعتها؛ دل أنه إنما جعل لهم الانتفاع فيها إلى وقت موتهم، وبالموت ينقطع الانتفاع بها؛ فينظر من الأحق بها بعد الموت: الغريم صاحب الدين، أو الوارث، وإلا جواز الوصية الإفضال من الله - تعالى - على عباده بقوله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ عِنْدَ وَفَاتِكُمْ" ؛ دل هذا الخبر أن جوازها الإفضال والاستحسان منه إلى عباده، والله أعلم.
وقوله - تعالى -: { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَآ أَوْ دَيْنٍ } - يدل على أن ما ليس بدين ولم يوصِ به الميت - فإنه لا يخرج من ماله، ويدخل عندنا في هذا الجنس: الحج يكون على الرجل، والنذر، والزكاة، وأشباه ذلك، ليس بشيء منها دين، فإذا لم يوص الميت بها فلا يجب أن تؤدى من التركة إلا أن يُنْفِذَها الورثة.
فإن قال قائل: هي دين كسائر الديون.
قيل له: أرأيت إن كان عليه دين وزكاة: يبدأ بالدين أو تقسم التركة بالحصص إذا لم يف بذلك كله؟
فإن قال: يبدأ بالدين؛ قيل له: لو كانت الزكاة ديناً كديون الناس كانت في القضاء.
فإن قال: أجعل الزكاة أسوة في القضاء مع الديون؛ قيل له: ما تقول في رجل أفلس وعليه ديون: هل يقسم ماله بين غرمائه؟
فإن قال: نعم؛ قيل: فإن كانت عليه زكاة هل يضرب لها بسهم؟
فإن قال: لا؛ قيل: كيف ضربت لها بسهم بعد الموت لما قسمت ماله، ولم تضرب لها بسهم في الحياة؛ إن كانت كسائر الديون بعد الموت؟! فيجب أن تكون كسائر الديون في الحياة، إلا أن الزكاة حالة واجبة على من كان عنده مال فحال عليه الحول فاستهلكه، وليس يجوز له تأخير قضاء الدين. وفي إقرارك أنك تبدأ بالدين قبل الزكاة في الحياة دليل على أنه يجب أن يبدأ بالدين قبل الزكاة بعد الموت.
فإن قيل:
"قول رسول الله صلى الله عليه وسلم للمرأة التي سألت: هل تحج عن أبيها؟: أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ، فَقَضَيْتِيهِ أَلَمْ يُجْزِ عَنْهُ؟" يدل على أن الحج دين.
قيل له: ليس فيه دلالة الوجوب عليها؛ إنما فيه دليل جواز الحج عن الميت وقبوله، إذن كان قضاء ما هو أوكد منه من ديون العباد قضاء صحيحاً؛ فالحج الذي هو دون ذلك في التأكيد أحرى أن يقبل؛ كأنه أراد هذا، والله أعلم.
ودليل آخر: أن الزكاة لا تجوز أن تؤدى عن الميت إذا لم يوص بها؛ لأن الزكاة لا تؤدى إلا بنية المزكي، والنية عمل القلب، ولا خلاف في أنه لا يُصَلَّى عن الميت ولا يصام عنه؛ فلما لم يجز أن يُقْضَى عن الميت على الأبدان، لم يجز أن تقوم نية الورثة في أداء الزكاة مقام نية الميت.
قال الشيخ -رحمه الله تعالى - في قوله - عز وجل -: { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَآ أَوْ دَيْنٍ } ظاهره أنه يقد م الوصية على الميراث، لكن أجمع أن الابتداء به عن حق حد الميراث، ولكن يوزع؛ فيخرج التأويل على وجوه:
أحدها: أن قوله - تعالى -: { يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ } إلى قوله: { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ } - كأنه سوى، أي: سواء مالُكُم: أن توصوا، أوصاكم الله فيه - بكذا.
والثاني: أن يكون { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ }، أي: من بعد ما أوصيتم، ويكون الميراث بعد الإيصاء.
ويحتمل: من بعد أن كان عليكم الإيصاء والدَّيْنَ - أمركم بالمواريث؛ فيكون فيه نسخ قوله: { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَىٰ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ ٱللَّهِ }؛ فدلت هذه الآية على حجر بعض الوصايا بقوله - عز وجل -: { غَيْرَ مُضَآرٍّ }، لكن يحتمل أن تكون المضارة تبطل الفضل، ويحتمل ألا تبطل؛ كقوله - تعالى -:
{ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً } [البقرة: 231] في الرجعة على إمضاء الرجعة على ذلك، لكن الإضرار في الرجعة مقصود، وفي هذا مفضول، فيمكن التفريق بين الأمرين، فقال - عز وجل -: { تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ... } الآيتين، وأوعد جهنم على تعدي [هذه الحدود]، وفي ذلك لا يحتمل مع جواز الفضل، وأيَّد ذلك قوله: { فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ... } [البقرة: 182] الآية، ولو كان يجوز لكان لا يملك معه الإصلاح؛ فثبت أن من الوصايا ما يبطل مع ما كان الله ذكر في المواريث: { فَرِيضَةً مِّنَ ٱللَّهِ }؛ فلا يُملك إبطال فريضة الله؛ وبالإذن منه يجوز فعله؛ لذلك يبطل بعض وصاياه.
والأصل في ذلك أن الأموال أنشئت للأحياء؛ وخُلقت لمنافع الأحياء، فكأنهم ملكوا منافعها إلى انقضاء آجالهم، ثم صارت إلى من به ملكوها، يجعلها لمن يشاء، ويضعها عند من يشاء.
وقد بين - عز وجل - أنها: لمن، ومن أحق بها؛ فصار الموصي كأنه أوصى بحقِّ مَنْ بَيْنَ أن مُحِقَّه فيه غيرُهُ، فإن تفضل الله عليه في ذلك من شيء، وإلا فذلك كسائر الأملاك التي بينت أربابها، لم يكن لغيرهم فيها حق إلا بجعل الله أو جعل من له؛ فعلى ذلك هذا قد جاء عن الله بيان هذه بعد أن بينت هذه الآيات جعل الحق له إلى الثلث، فذلك له صدقة من الله - تعالى - وفي الفضل إن أجاز المجعول له جاز، وإلا لا، والله أعلم.
فجعلت للوصية حدّاً، ولم تجعل للدين؛ لأن الدين مما يتصل بحوائجه في حال حياته؛ إذ هو يلزم بالأسباب التي بها معاشه وغذاؤه؛ فصار مقدماً على المتروك في الحكم، وإنما جُعلت المواريث في المتروك مع ما كان الغرماء أحق بملكه في حياته بعجزه عن كثير من المعروف في مرضه بهم، فلو لم يكن لهم الحق لامتنعوا من المداينات إلا بوثائق يكونون هم أحق بها بعد الوفاة من الورثة، أو يمتنعون من المداينات، وفي ذلك تقصير القوت والأغذية عن مضي الأجل، وهو به مأمور؛ فجعلت الديون كأنها استحقت الإملاك في حال الحياة؛ فلم تجيء منهم التركة، وليس كالعبادات؛ لأنها تجب في الفضول عن الحاجات، والديون في الأصول، فليست العبادات بالتي تمنع الوفاء بالآجال ولا كان بأربابها إليها تلك الضرورات؛ فإنما هي بحق القرب، وهي عمل الأحياء، فإذا ماتوا زال الإمكان، وجرت في الأموال المواريث، وكذا المعروف من الدين المذكور في القرآن من قوله - عز وجل -: { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَآ أَوْ دَيْنٍ } - أن العبادات لا توصف بالديون، ولا تفهم من إطلاق القول بالديون؛ فصارت بمعنى الفضل عن الوصايا والديون إلى أن يؤجل، وهو الحقيقة؛ ألا يكون للمولى على عبده دين؛ فيكون المذكور ديناً في الأفعال؛ كما ذكرت العِدَاتُ دَيْناً في الأخلاق، لا في حقيقة الذمم، مع ما كانت هي لله، وقد جعل الله له فريضة لأقوام بأعيانهم، لا تمنع عنهم إ لا بالوصية، كما جعل للموصى.
وعلى أن العبادات لا تقوم إلا بالبينات، ولا تؤدى عن أحد في حياته إلا بأمره، وإن احتمل قيام بعض منها عن بعض، وسائر الديون تجوز دونه؛ فعلى ذلك بعد الوفاة، وإن كان كل ما يؤدى به فهو الذي حدّت به الوصية، وقد جاء الحد لها مع ما كانت العبادات لا تحتمل لحوق الأموات ولا الإيجاب عليهم في أموالهم، ثبت أنها حقوق الحياة خاصة، والديون تحتمل، فهي حقوقهم في الحالين.
ثم قد ذكر في الدين { غَيْرَ مُضَآرٍّ }؛ بل الدين أقرب إلى حرف الثنيا، ومعلوم أنه لا يقع منه في الديون الظاهرة المعلومة مضارة بالورثة إن كان يقع، يقع في الغرماء؛ إذ يؤخذ منه بلا إيصاء، ولا يحتمل النهي من حيث الغرماء؛ لما فيه إلزام المكاسب في أوقات العجز لقضاء الديون؛ فثبت أن ذلك فيما لا يعرف من الديون؛ وإنما يرجع فيها إلى قوله؛ فبطل بالذي ذكرته جواز إقراره على كل حال لكل أحد؛ إذ لا ضرر يقع من حيث فعله فيرد، وقد بينا أن المضارة في هذا تمنع الجواز؛ فثبت أن من الإقرار ما لا يجوز، فقال أصحابنا - رحمهم الله -: لا يجوز إقراره لبعض الورثة وقت الإياس من نفسه؛ لأنه وقت الإيثار، والسخاء بما عنده من المال، ولوقت السخاء ما أبطل وصيته للوارث بما يخرج مخرج الإيثار، فنحن إذا أجزنا إقراره فيهن لنظره لم يمنع الوصية أن ينتفع؛ بل يذهب الكل، وفي الأول لم يكن يذهب، والله أعلم.
ثم الأصل أنه أجيز في الكل بحق الأمانة، ووصيته بحق الفضل ثم جعل وارثه كمن لا ملك له؛ إذ قد يقصد به التفضيل والتخصيص إلى القربة؛ فعلى ذلك فيما خان في الأمانة يجعل كمن لا أمانة له لما يخرج، على ما بينا، وإسقاط الأخبار؛ لتوهم من الأمناء أوجد في الأحكام، ومن إسقاط المعروف عن الأملاك، والله أعلم.
وعلى ذلك فيما كانت عليه ديون ظاهرة قد يبقى الضرر بأهلها لبعض من له بشأنه عناية، وفيما بينهما حقوق تحث على المعروف والصلة له وقت السخاء بماله، وللعلم بأنه عن الانتفاع به عاجز؛ فيقر لهم ذلك بتهم في الحقوق التي ظهرت، ثم كانت عبادات الأموال قد تقام عن الأموات بالأمر، ولا تقام عبادات الأفعال لوجهين:
أحدهما: جواز بعض في أحد عن بعض النوعين فيما للعباد بلا أمر في الحياة، ولا يجوز في الآخر؛ فمثله العبادات بالأمر.
والثاني: أن السبب الذي به تجب عبادات الأموال قد يجوز أن يوجب على نفر بالتحول من ملك إلى ملك، وما له تجب عبادات الأفعال يجوز فعل ذلك حق القيام بالأفعال، وعلى ذلك النيات؛ إذ ليست من الحقوق التي تتصل بالأموال في شيء من الأمور لم يقم بها أحد عن أحد، لذلك لم يجز إلا بأمر؛ فيكون الأمر بالأمر لما أمرنا به نادرا، والله أعلم.
وقوله - تعالى -: { آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً }.
اختلف فيه:
قال بعضهم: هذا في الدنيا، وهو أن يلزم الابن نفقة والده عند الحاجة والقيام بأمره، والأب يلزم أن ينفق على ولده في حال صغره، وعند الحاجة إليه، والقيام بحفظه، وتعاهده، فإذا كان ما ذكرنا لم يدر أيهما أقرب نفعاً: نفع هذا لهذا، أو هذا لهذا.
ويحتمل أن يكون قال: لا تدرون أنتم أي نفع أقرب إليكم: نفع الآباء أو الأبناء، فإن كان التأويل ما ذكرنا؛ ففيه دلالة بطلان شهادة [الوالد لولده، وشهادة الولد لوالده]؛ إذ أخبر أن لهذا نفعاً في مال هذا ولهذا نفعاً في مال هذا، فإذا ثبت النفع لم تقبل شهادة من يُنتفع بشهادته؛ ولهذا قال أبو حنيفة - رضي الله عنه -: لا يجوز للوكيل بالبيع أو الشراء أن يبيع من أبيه، أو ابنه، أو والدته؛ لما ينتفع ببيعه منه وبالشرى منه. وكذلك قالوا: إذا اشترى من هؤلاء فليس له أن يبيع مرابحة، إلا أن يبين؛ لأنه ينتفع به.
وقيل: هذا في الآخرة.
ورُوي عن ابن عباس - رضي الله عنه -: { آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً }، يقول: أطوعكم لله من الآباء والأبناء: أرفعكم درجة عند الله يوم القيامة؛ [لأنه - تعالى -] يُشَفِّعُ المؤمنين بعضهم في بعض.
وقيل: قوله: { لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ } أنتم في الدنيا { أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً }، يقول: أخصّ لكم نفعاً في الآخرة في الدرجات الوالد لولده، أو الولد لوالده؛ إذ هم في الدنيا لا يدرون أيهم أقرب لصاحبه نفعاً في الآخرة حتى يرجعوا في الآخرة قال: فإن كان الوالد أرفع درجة في الجنة من ولده رفع الله - تعالى - إليه ولده في درجته؛ لتقر بذلك عينه، وإن كان الولد أرفع درجة من والده رفع الله - تعالى - والوالدين إلى الولد في درجته؛ لتقر بذلك أعينهم برفع الأسفل إلى الأعلى والأدون إلى الأفضل، وهو كقوله - تعالى -:
{ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ } [الطور: 21]، يعني: بإيمان الآباء، { أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ } [الطور: 21]، يعني الآباء { مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ } [الطور: 21].
ويحتمل أن يكون هذا في الشفاعة، أو لا يدري ما ذلك النفع وما مقداره.
أو يحتمل قوله: { لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً }: ليس على حقيقة القرب؛ ولكن على الكبر العظم، وقد يتكلم بهذا كقوله:
{ وَمَا نُرِيِهِم مِّنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا } [الزخرف: 48]: ليس على أن آية هي أكبر من أُخرى، ولكن على وصف الكل منها بالكبر والعظم؛ فعلى ذلك قوله: { لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً } على وصف كل منهم بالنفع؛ على الإعظام والإكبار، والله أعلم.
ويحتمل قوله - تعالى -: { أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً }، أي: أوجب؛ كقوله:
{ إِنَّ رَحْمَتَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ ٱلْمُحْسِنِينَ } [الأعراف: 56] أي: واجب للمحسنين، وغيره من الآيات.
وقوله - عز وجل -: { فَرِيضَةً مِّنَ ٱللَّهِ }.
سمى الله - تعالى - المواريث فرائض؛ لأنه كان بإيجاب الله - تعالى - لا باكتساب من الخلق؛ إذ لم يملك الخلق أعين هذه الأموال، ولكنه إنما ملكهم المنافع منها، وإلى وقت وفاتهم فإذا ماتوا صار ذلك المال للذي جعل [الله] له؛ لذلك سمى فرائض.
وقوله: { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } ببدو حالهم ومعاشهم ومصالحهم، وما يصلح لهم وما لا يصلح { حَكِيماً } فيما فرض من قسمتها وبينها.
والحكيم: هو المصيب واضع كل شيء [في] موضعه، والظالم: هو واضع الشيء في غير موضعه.