التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذٰلِكَ لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً
١١٦
إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَٰثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَٰناً مَّرِيداً
١١٧
لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً
١١٨
وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ ءَاذَانَ ٱلأَنْعَٰمِ وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ ٱللَّهِ وَمَن يَتَّخِذِ ٱلشَّيْطَٰنَ وَلِيّاً مِّن دُونِ ٱللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً
١١٩
يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ ٱلشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً
١٢٠
أُوْلَـٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً
١٢١
وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً وَعْدَ ٱللَّهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ ٱللَّهِ قِيلاً
١٢٢
-النساء

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذٰلِكَ لِمَن يَشَآءُ... } الآية.
في الآية دليل ألا يصير بكل ذنب مشركاً؛ على ما قاله الخوارج لما قسم الكتاب، ولا يحتمل إضمار التوبة؛ لأن الشرك مما: يُغفر بالتوبة؛ فبطل قولهم.
وفيه بطلان قول من يبطل المغفرة في الكبائر بلا توبة؛ لأن الله - تعالى - جعل لنفسه مشيئة المغفرة، وذلك فيما في الحكمة دفعه سفه؛ فلزم الذي ذكرنا الفريقين جميعاً.
ثم الذي ينقض قول الخوارج الذين يكفرون بارتكاب الصغائر - ما بلى بها الأنبياء والأولياء؛ وما يكفر صاحبه - يُسقط النبوة والولاية، ومن كان وصف إيمانه بالأنبياء - عليهم السلام - هذا؛ فهو كافر بهم.
وعلى المعتزلة في ذلك أن الله وصف الأنبياء - عليهم السلام - بالدعاء له تضرعاً وخيفة، وخوفاً وطمعاً، وبكائهم على ما كان منهم من الزلات وتضرعهم إليه؛ حتى أجيبوا في دعائهم، ولو لم يكن ذنوبهم بحيث يحتمل التعذيب عليها في الحكمة، لكان في ذلك تعدى الحد والوصف بالجور والتعوذ به، وذلك أعظم من الزلات.
فهذا ينقض قول المعتزلة في إثبات المغفرة في الصغائر، وإخراج فعل التعذيب عن الحكمة، وقول الخوارج بإزالة اسم الإيمان بها، ولا عصمة إلا بالله.
ثم قوله: { لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذٰلِكَ لِمَن يَشَآءُ } - يحتمل: الشرك في الاعتقاد، وهو أن يشرك غيره في ربوبيته وألوهيته، وبين أن يشرك غيره في عبادته؛ ألا ترى أنه قال: - عز وجل -:
{ أَنَّمَآ إِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ } [الكهف: 110] ثم قال الله - تعالى - في آخره: { وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً } [الكهف: 110]: جعل الإشراك في الألوهية والربوبية، والإشراكَ في العبادة واحداً؛ كله شرك بالله، وبالله التوفيق.
ثم قوله: { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذٰلِكَ لِمَن يَشَآءُ } لا يحتمل ما قالت المعتزلة: إنه وعد المغفرة فيما يشاء، ثم بين ذلك في الصغائر بقوله - تعالى -:
{ إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } [النساء: 31] وقد ثبت الوعيد في الكبائر؛ بقي الوعد بحقه لم يزل بالذي ذكر لاحتماله.
وقيل: قوله: { لِمَن يَشَآءُ } كناية عن الأنفس المغفورات، لا عن الآثام والأجرام التي تغفر، لم يجز صرف التخصيص إلى الآثام بالآية المكنى بها عن الأنفس؛ لأنه لم يقل: ما شاء، ولكن قال: عز وجل -: { لِمَن يَشَآءُ }؛ فذلك كناية عن الأنفس.
وفي آيات الوعيد تحقيق في الذين جاء بهم، وفيما جاء على ما قيل: لا صرف في ذلك؛ فهو أولى.
وبعد: فإنه قال: { لِمَن يَشَآءُ }، والصغائر عندهم مغفورة بالحكمة لا بالوعد، والآية في التعريف، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَٰثاً }.
عن الحسن قال: الإناث: الأموات التي لا روح فيها وكذلك روي عن ابن عباس، رضي الله عنه.
وقيل قوله - تعالى -: { إِلاَّ إِنَٰثاً }: هم الملائكة؛ لأنهم يقولون: الملائكة بنات الله في السماء؛ فعبدوها؛ فإنهم إنما عبدوا الإناث عندهم وفي زعمهم.
وقيل: إناثاً من الوثن؛ وكذلك روي حرف عائشة - رضي الله عنها - أنها كانت تقرأ: "إن يدعون من دونه إلا أوثانا"، وهو الصنم؛ سمي إناثاً لما صوروها بصور الإناث، وحلُّوْها، وقلدوها قلائد، وزينوها بزيهم، ثم يعبدونها لم يعبدوها على ما كان في الأصل؛ فسمي بذلك.
وقيل: سمي إناثاً؛ لأنهم كانوا يسمون ما يعبدون من الأصنام والأوثان: اللات، والعزى، ومناة، فأسماؤهن أسماء إناث، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَٰناً مَّرِيداً }:
أخبر الله - عز جل - [أنهم] وإن كانوا يفرون من الشيطان ويأنفونه - فإنهم بعبادتهم الأصنام؛ والأوثان يعبدون الشيطان؛ لأن الشيطان هو الذي يدعوهم إلى عبادتهم الأصنام؛ فكأنهم عبدوه؛ ألا ترى أن إبراهيم - عليه السلام - قال:
{ يٰأَبَتِ لاَ تَعْبُدِ ٱلشَّيْطَانَ } [مريم: 44]: جعل عبادة الصنم عبادة للشيطان؛ حيث قال له: { لاَ تَعْبُدِ ٱلشَّيْطَانَ } [مريم: 44]؛ فدل أن عبادتهم الأوثان عبادة للشيطان، وبالله العصمة.
وقوله - عز وجل -: { مَّرِيداً }، قال ابن عباس: المريد: هو العاتي.
وقوله - عز وجل -: { لَّعَنَهُ ٱللَّهُ }.
اللعنة: هي الإبعاد من رحمة الله، فسمي: ملعوناً؛ لأنه مبعد من رحمة الله، مطرود منها.
وقوله - عز وجل -: { وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً }.
إنه - لعنه الله - وإن قطع القول فيه: لأتخذن من كذا، قطعا - فهو ظن في الحقيقة؛ ألا ترى أنه قال - تعالى - في آية أخرى:
{ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ } [سبأ: 20]؛ دل أن ما قاله، قاله ظنّاً، لكنه خرج مقطوعاً محققاً، ولا قوة إلا بالله.
وقوله - عز وجل -: { نَصِيباً مَّفْرُوضاً }، أي: مبيناً معلوماً، والنصيب المفروض هو ما ذكر: { وَلأُضِلَّنَّهُمْ } إلى آخر ما ذكر { مَّفْرُوضاً }، أي: مبيناً: من يطيعه ومن لا يطيعه.
وقوله - عز وجل -: { وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ } الآية.
قيل: هذا إخبار عن الله - تعالى - عبادَهُ عن صنيع اللعين؛ ليكونوا على حذر منه.
ثم قوله: { وَلأُضِلَّنَّهُمْ } - ليس على حقيقة الإضلال؛ لأنه لا يقدر أن يضل أحداً، لكنه يدعو إلى الضلال ويزين عليهم طريقه، ويلبس عليهم طريق الهدى؛ فذلك معنى إضافة الإضلال إليه؛ وإلا لم يملك إضلال أحد في الحقيقة؛ كقوله - تعالى -:
{ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ... } الآية [إبراهيم: 22]. ثم إذا ضلوا بدعائه إلى ذلك وتزيينه عليهم سبيله - يمنيهم عند ذلك؛ حتى يتمنوا أشياء؛ كقوله: { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ... } الآية [الأحقاف: 11]، وكقوله - تعالى - { وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ ٱلْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَىٰ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ } [البقرة: 111] ونحو ذلك من الأماني، وذلك مما يمنيهم الشيطان، لعنة الله عليه.
وعن ابن عباس - رضي الله عنه -: { وَلأُضِلَّنَّهُمْ }، يعني: عن الدين، { وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ } أن يصيبوا خيراً لا محالة؛ ليأمنوا.
وفي حرف ابن مسعود: "ولأعدنهم ولأمنينهم ولأحرمن عليهم الأنعام ولآمرنهم فليبدلن خلقك ولآمرنهم فليبتكن".
وقوله: { فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ ٱلأَنْعَٰمِ }.
فجعلوها نحراً للأوثان والأصنام التي كانوا يعبدونها.
وقوله - عز وجل -: { وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ ٱللَّهِ }.
يحتمل هذا وجهين، سوى ما قال أهل التأويل:
أحدهما: أن الله - تعالى - خلق هذا الخلق؛ ليأمرهم بالتوحيد، وليجعلوا عبادتهم له، لا يعبدون دون الله غيره؛ كقوله - تعالى -:
{ وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ * مَآ أُرِيدُ مِنْهُم... } الآية [الذاريات: 56-57]؛ فهو دعاهم أن يجعلوا عبادتهم لغير الله، وهو ما قيل في قوله - عز وجل -: { فِطْرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ ٱللَّهِ ذَلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ } [الروم: 30]، قيل: لدين الله؛ فعلى ذلك يحتمل قوله: { فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ ٱللَّهِ }، أي: عن الذي كان خَلْقُهُ إياهم لذلك، والله أعلم.
والثاني: أنه - عز وجل - خلق الأنعام والبهائم لمنافعهم، وسخرها لهم، فهم حرموها على أنفسهم، وجعلوها للأوثان والأصنام: كالبحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام؛ منعوا منافعها التي خلقها لهم عن أنفسهم، وذلك تغيير ما خلق الله لهم، والله - تعالى - أعلم.
وأما أهل التأويل فإنهم قالوا غير الذي ذكرنا:
قال بعضهم: قوله: { فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ ٱللَّهِ }: الإخصاء، وهو قول ابن عباس، رضي الله عنه.
وقال آخرون: هو دين الله.
وروي عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال - أيضاً -: دين الله.
وقيل: هو ما جاء من النهي عن الواشرة، والنامصة، والمتفلجة، والواصلة، والواشمة.
ولا يحتمل أن يكون خطر بباله يومئذ أنه أراد بتغيير خلق الله ما قالوا من الإخصاء، أو المثلة، والواشرة، والنامصة؛ لأنه إنما قال ذلك يوم طلب من ربه النظِرة إلى يوم البعث، ولا يحتمل أن يكون له علم ألا يحل هذا أو النهي عن مثله؛ إذ قد يجوز أن ترد الشريعة في مثله؛ لذلك بعد [هذا]، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَمَن يَتَّخِذِ ٱلشَّيْطَٰنَ وَلِيّاً مِّن دُونِ ٱللَّهِ }.
أي: يطيعه ويجيبه إلى ما دعاه، ويعبده دون الله.
{ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِينا }.
في الدنيا والآخرة: أما في الدنيا فذهاب المنافع عنهم التي جعلوها للأصنام والأوثان، وفي الآخرة العقوبة.
وقوله - عز وجل -: { يَعِدُهُمْ }.
إما فقراً وإما سعة.
{ وَيُمَنِّيهِمْ }.
هو ما ذكرنا من الأماني وقضاء الشهوات في الدنيا.
{ وَمَا يَعِدُهُمُ ٱلشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً }.
والغرور: هو أن يرى شيئاً يظهر خلافه.
{ أُوْلَـٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً }.
الآية ظاهرة، قيل: مفرا، وقيل: ملجأ.
وقوله - عز وجل -: { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً }.
قد ذكرنا هذا فيما تقدم: أن الإيمان هو التصديق، والأعمال الصالحات غير التصديق.
وقوله - عز وجل -: { وَعْدَ ٱللَّهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ ٱللَّهِ قِيلاً }.
تأويل هذا - والله أعلم - أن يقال: إنكم ممن تقبلون الأخبار والقول من الناس، ثم لا أحد أصدق قولا من الله - تعالى - ولا أنجز وعدا منه؛ كيف لا تقبلون قوله وخبره أنه بَعْثٌ، وجنة، ونار، وتكذبون قول إبليس أن لا جنة، ولا نار، ولا بعث؟!.