التفاسير

< >
عرض

إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ نُوحٍ وَٱلنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَٱلأَسْبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً
١٦٣
وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيماً
١٦٤
رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ ٱلرُّسُلِ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً
١٦٥
لَّـٰكِنِ ٱللَّهُ يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَٱلْمَلاۤئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً
١٦٦
-النساء

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ نُوحٍ وَٱلنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ }.
قيل فيه بوجوه:
قيل: قوله: { كَمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ نُوحٍ } الكاف صلة زائدة، ومعناه: إنا أوحينا إليك ما أوحينا إلى نوح ومن ذكر من بعده، أي: لا يختلف ما أنزل إليك وما أنزل إلى غيرك من الرسل؛ وهو كقوله - تعالى -:
{ وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ ٱلأَوَّلِينَ } [الشعراء: 196]، { إِنَّ هَـٰذَا لَفِي ٱلصُّحُفِ ٱلأُولَىٰ } [الآية] [الأعلى: 18].
وقيل: { إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ } من الحجج والآيات "كما أوحينا إلى نوح" ومن ذكر من الحجج والآيات على صدق ما ادعوا، أي: قد أعطاك [الله] من الحجج والآيات ما يدل على رسالتك ونبوتك؛ كما أعطى أولئك من الحجج والآيات على صدق ما ادعوا من الرسالة والنبوة، ثم لم يؤمنوا.
وقيل: إن اليهود قالوا: إن محمداً لو كان رسولا - لكان يؤتى كتاباً جملة، كما أوتي موسى كتاباً جملة من غير وحي؛ فقال - تعالى -: { إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ نُوحٍ وَٱلنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ } وحياً من غير أن أوتي كلٌّ منهم كتاباً جملة كما أوتي موسى، ثم كان أولئك رسلاً؛ فعلى ذلك محمد صلى الله عليه وسلم رسول وإن لم يؤت كتاباً كما أوتي موسى، ولله أن يفعل ذلك: يؤتي من شاء كتاباً جملة مرة، ومن شاء يوحي إليه بالتفاريق، والله أعلم بذلك.
وقوله - عز وجل -: { وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ... } ومن ذكر.
يحتمل ذكر إبراهيم ومن ذكر من أولاده بعد قوله: { إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ نُوحٍ وَٱلنَّبِيِّينَ } - على التخصيص لإبراهيم ومن ذكر؛ لأنه ذكر النبيين [من] بعد نوح؛ فدخلوا فيه، ثم خصهم بالذكر؛ تفضيلاً وتخصيصاً لهم.
ويحتمل أن يكون قوله - تعالى -: { وَٱلنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ }: الرسل الذين كانوا بعد نوح قبل إبراهيم، ثم ابتدأ الكلام فقال: { وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ... } ومن ذكر.
وفي حرف حفصة - رضي الله عنها -: "إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح، وكما أوحينا إلى الرسل من بعدهم، وكما أوحينا إلى إبراهيم"؛ فهذا يدل على ما ذكرنا من ابتداء الذكر لهم، والله أعلم.
والآية ترد على القرامطة مذهبهم؛ لأنهم يقولون: الرسلت ستة، سابعهم قائم الزمان؛ لأنه ذكر في الآية من الرسل أكثر من عشرة؛ فظهر كذبهم بذلك، ومخايلهم التي سول لهم الشيطان وزين في قلوبهم.
وقوله - عز وجل -: { وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ } ذكر في بعض القصة: أن اليهود قالوا: ما بال موسى لم يذكر فيمن ذكر من الأنبياء؛ فأنزل الله - عز وجل -: { وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ } هؤلاء بمكة في "الأنعام" وفي غيرها؛ لأنه قيل: إن هذه السورة مدنية.
ثم في قوله: { وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ } دلائل من وجوه:
أحدها: أن معرفة الرسل بأجمعهم واحداً بعد واحد - ليس من شرط الإيمان بعد أن يؤمن بهم جميعاً؛ لأنه أخبر - عز وجل - أن من الرسل من لم يقصصهم عليه، ولو كان معرفتهم من شرط الإيمان لقصهم عليه جميعاً، لا يحتمل ترك ذلك؛ دل أنه ليس ذلك من شرط الإيمان، والله أعلم.
والثاني: أن الإيمان ليس هو المعرفة، ولكنه التصديق؛ لأنه لم يؤخذ عليه عدم معرفة الرسل، وأخذ بتصديقهم والإيمان بهم جملة.
وقوله - عز وجل -: { وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيماً }.
اختلف فيه: قال بعضهم: خلق الله كلاماً وصوتاً، وألقى ذلك في مسامعه.
وقال آخرون: كتب له كتاباً فكلمه بذلك؛ فذلك معنى قوله: { وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيماً } لا أن كلمه بكلامه، ولا ندري كيف كان؟ سوى أنا نعلم أنه أحدث صوتاً لم يكن، فأسمع موسى ذلك كيف شاء، وما شاء، وممن شاء؛ لأن كلامه الذي هو موصوف به في الأزل لا يوصف بالحروف، ولا بالهجاء، ولا بالصوت، ولا بشيء مما يوصف به كلام الخلق بحال. وما يقال: هذا كلام الله - إنما يُقال على الموافقة والمجاز؛ كقوله:
{ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلاَمَ ٱللَّهِ } [التوبة: 6]، ولا سبيل له أن يسمع كلام الله الذي هو موصوف به بالأزل؛ ولكنه على الموافقة والمجاز يقال ذلك.
وقوله - عز وجل -: { وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيماً } يخرج هذا - والله أعلم - مخرج التخصيص له؛ إذ ما من رسول إلا وقد كان له خصوصية، [والكلام خصوصية] لموسى - عليه السلام - إذ كلمه من غير أن كان ثمة سفير ورسول، وكان لسائر الرسل وحياً يوحي إليهم؛ أي: دليل برسول، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيماً } دل المصدر على تحقيق الكلام؛ إذ المصادر مما يؤكد حقائق ما له المصادر في موضوع اللغة، وأيد ذلك الأمر المشهور من تسمية موسى: كليم الله، وما جرى على ألسن الخلق من القول بأن الله كلم موسى؛ فثبت أنه كان له فيما كلمه خصوصية لم يشركه فيها غيره من الرسل، وعلى حق الوحي وإنزال الكتب له شركاء في ذلك من الرسل؛ فثبت أن لما وصف به موسى خصوصية باين بها غيره؛ على ما ذكره من خصوصية كثير من الرسل بأسماء أو نعوت أوجبت لهم الفضيلة بها، وإن كان حمل ما يحتمل تلك الخصوصية - قد يتوجه إلى ما قد يشترك في ذلك جملة الرسل؛ فعلى ذلك أمر تكليم موسى صلى الله عليه وسلم.
وقوله - عز جل -: { رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ }.
أخبر أنه بعث الرسل بالبشارة في العاقبة لمن أطاعه، والإنذار لمن عصاه؛ فهذا ليعلم أن كل أمر لا عاقبة له فهو عبث، ليس من الحكمة، وأن الذي دعا الرسلُ الخلق إليه إنما دعوا لأمر له عاقبة؛ إذ في عقل كل أحد أن كل أمر لا عاقبة له ليس بحكمة؛ فهذا - والله أعلم - معنى قوله: { مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ } [النساء: 165-2] [مبشرين] لمن أطاع الله بالجنة، ومنذرين لمن عصاه بالنار.
وقوله - عز وجل -: { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةٌ }.
يحتمل هذا وجهين:
يحتمل: لئلا يكون للناس على الله - تعالى - الاحتجاج بأنه لم يرسل الرسل إلينا، وإن لم يكن لهم في - الحقيقة - عند الله - تعالى - ذلك؛ فيقولوا:
{ لَوْلاۤ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَىٰ } [طه: 134].
ويحتمل قوله - تعالى -: { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ ٱلرُّسُلِ } حقيقة الحجة، لكن ذلك إنما يكون في العبادات والشرائع التي سبيل معرفتها السمع لا العقل، وأما الدين فإن سبيل لزومه بالعقل؛ فلا يكون لهم في ذلك على الله حجة؛ إذ في خلقة كل أحد من الدلائل ما لو تأمّل وتفكر فيها لدلته على هيبته، وعلى وحدانيته وربوبيته؛ لكن بعث الرسل لقطع الاحتجاج لهم عنه، وإن لم تكن لهم الحجة.
وإن كان على حقيقة الحجة فهو في العبادات والشرائع؛ فبعث الرسل على قطع الحجة لهم، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً }.
أي: لا يعجزه شيء عن إعزاز من أراد أن يعزه، ولا على إذلال من أراد إذلاله.
{ حَكِيماً }: يعرف وضع كل شيء موضعه. وقد ذكرنا تأويله في غير موضع.
وقوله - عز وجل -: { لَّـٰكِنِ ٱللَّهُ يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَٱلْمَلاۤئِكَةُ يَشْهَدُونَ }.
قيل فيه بوجهين:
قيل: يشهد الله يوم القيامة - والملائكة يشهدون أيضاً - أن [هذا] القرآن الذي أنزل إليك إنما أنزل من عند الله، لا كما يقولون:
{ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ } [النحل: 103]، { مَا هَـٰذَآ إِلاَّ إِفْكٌ مُّفْتَرًى } [سبأ: 43]، { إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ ٱخْتِلاَقٌ } [ص: 7] كما قالوا.
وقيل: قوله: { لَّـٰكِنِ ٱللَّهُ يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ } أي: يبين بالآيات والحجج التي يعجز الخلائق عن إتيان مثلها، وتلزمهم الإقرار بأنه إنما أنزل من عند الله، والله أعلم.
وقوله - عزو جل -: { أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ } يحتمل وجهين:
أنزله بالآيات والحجج ما يعلم أنها آيات الربوبية والحجج السماوية.
ويحتمل: { أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ } أي: أنزله على علم منه بمن يقبل ومن لا يقبل، ليس كما يبعث ملوك الأرض بعضهم إلى بعض رسائل وهدايا لا يعلمون قبولها ولا ردها، ولا علم لها بمن يقبلها وبمن يردها، ولو كان لهم بذلك علم ما أرسلوا الرسل، ولا بعثوا الهدايا؛ إذا علموا أنهم لا يقبلون؛ فأخبر - عز وجل - أنه على علم منه أنزل بمن يقبل وبمن يرد، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً }.
أي: شاهداً على ما ذكرنا من شهادته يوم القيامة على أحد التأويلين أنه أنزله.
ويحتمل قوله: { شَهِيداً } أي: مبيناً، أي: كفى بالله مبيناً بالآيات والحجج.
وعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: لما أنزل الله:
{ لَّـٰكِنِ ٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ مِنْهُمْ } [النساء: 162] إلى قوله : { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ ٱلرُّسُلِ... } الآية [النساء: 165] - قالت قريش: من يشهد لك أن ما تقول حق؛ فأنزل الله - تعالى -: { لَّـٰكِنِ ٱللَّهُ يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَٱلْمَلاۤئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً }، وأنزل { قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَٰدةً قُلِ ٱللَّهُ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ } الآية [الأنعام: 19].