التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ٱلأَمَانَاتِ إِلَىۤ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِٱلْعَدْلِ إِنَّ ٱللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً
٥٨
-النساء

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ٱلأَمَانَاتِ إِلَىۤ أَهْلِهَا }.
قيل:
"لما فتح الله مكة على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال العباس - رضي الله عنه -: يا رسول الله، لو جعلت السقاية والحجابة فينا؛ فأخذ مفاتيح الكعبة من ولد شيبة فدفعها إلى العباس؛ فأنزل الله - تعالى - هذه الآية، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم مفاتيح الكعبة فردها إلى ولد شيبة، ثم قال [النبي صلى الله عليه وسلم]: يَا عَمِّ، إِنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَحَبَّ أَنْ يرزأ ولا يرزأ شيئا" .
وقيل: إنها نزلت في الأمراء في الفيء الذين استأمنهم على جمعها وقسمتها، والصدقات التي استأمنهم على جمعها وقسمتها.
والآية يجب أن تكون نازلة في كل أمانة اؤتمن المرء فيها، من نحو ما كان فيما كان بينه وبين ربه، وما كان فيها بين الخلق.
أما ما كان فيما بينه وبين ربه، من نحو العبادات التي أمر المرء بأدائها، ومن نحو تعليم العلم الذي رزقه الله - تعالى - كقوله - سبحانه وتعالى -:
{ إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ... } الآية [الأحزاب: 72]، وكقوله - تعالى -: { كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَآءَ بِٱلْقِسْطِ ... } الآية [المائدة: 8]، وكقوله - تعالى -: { وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِٱلْعَدْلِ } كل ذلك أمانة تدخل في قوله - تعالى -: { إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ٱلأَمَانَاتِ إِلَىۤ أَهْلِهَا }، وكذلك أمانة يؤتمن المرء عليها تدخل في ذلك.
ذكر أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال:
"أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ عَلَيْهَا، وَلاَ تَخُنْ مَنْ خَانَكَ" .
ومن قال: نزلت في الأمراء، استدل بقوله - تعالى -: { أَن تَحْكُمُواْ بِٱلْعَدْلِ }؛ لأن الحكم إلى الأمراء.
وعن ابن عباس - رضي الله عنه -: { إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ٱلأَمَانَاتِ إِلَىۤ أَهْلِهَا } قال: هي مبهمة، المؤمن والكافر سواء.
وقوله - عز وجل -: { إِنَّ ٱللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ }.
من الحكومة بالعدل، وأداء الأمانات [إلى أهلها].
{ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً }.
يحتمل: مجيباً لمن دعا له وسأل؛ كقوله - عز وجل -:
{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } [البقرة: 186] يجيب لمن [استجاب له]، وأدى الأمانة.
ويحتمل: { سَمِيعاً بَصِيراً } أي: لا يخفى عليه شيء.
واختلف أهل العلم في العارية إذا ضاعت:
قال أصحابنا - رحمهم الله -: لا شيء عليه.
وقال غيرهم: عليه الضمان.
ولأصحابنا - رحمهم الله - في ذلك عدة حجج:
أحدها: أن المستعير إن لبس القميص، أو ركب الدابة، أو حمل عليها ما أذن له في حمله عليها، وأصابها في ذلك نقصان في قيمتها - فلا شيء عليه فإذا لم يكن عليه ضمان فيما وقع بها من الضرر والنقص بفعله، ولبسه، وركوبه - فلا يجب عليه ضمان ما هلك منها بغير فعله.
والثاني: ما روي عن ابن الحنفية، عن علي - رضي الله عنه - قال: العارية ليس بتبعة، ولا مضمونة، إنما هي معروف، إلا أن يخالف فيضمن.
وروي عن الحسن قال: إذا خالف صاحب العارية ضمن.
واحتج من خالف أصحابنا في ذلك بحديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"عَلَى اليَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّهُ" فالحديث يحتمل معنيين:
أحدهما: أن يقال: معناه على اليد أن ترد ما أخذت إذا كان قائماً عليها رده؛ ألا ترى أن الوديعة لا تضمن إذا تلفت، وعليه أن يردها إذا كانت قائمة، فالعارية مثلها.
والثاني: أن يحتمل معنى ذلك في الغصب وأشباهه؛ فعلى الغاصب أن يرده قائماً أو تالفاً، ولا يدخل في عموم الخبر العارية؛ ألا ترى أن الوديعة لم تدخل فيها، وإن كان فيه أخذ.
واحتجوا [- أيضاً -] بحديث صفوان:
"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعار من صفوان يوم حنين درعاً، فقال: أغصب يا محمد؟ فقال: بَلْ عَارِيَّةٌ مَضْمُونَةٌ" .
وروي في خبر آخر: "أن صفوان هرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد حنيناً، فقال: يَا صَفْوَانُ، هَلْ عِنْدَكَ مِنْ سِلاَحٍ؟ قال: عارية أو غصباً؟ قال: بَلْ عَارِيَّةٌ فأعاره" ، ولم يذكر فيه الضمان، فهو عندنا - إن ثبت خبر صفوان -: مضمونة الرد على المستعير، [و] رد العارية ليس كالوديعة؛ لأن الوديعة ما لم يطلب صاحبها لم ترد.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يؤيد قولنا، وهو قوله:
"العَارِيَّةُ مُؤَدَّاةٌ" .
وقوله - عز وجل -: { وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِٱلْعَدْلِ } وقال - عز وجل -: { إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإحْسَانِ } [النحل: 90] فمن ولي أمراً أو حكماً فيما بين الناس فقد ولي الأمانة، يجب أن يؤديها إلى أهلها، وعلى ذلك جاءت الآثار:
روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"مَا مِنْ أَحَدٍ يَكُونُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الأُمُورِ - قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ - فَلاَ يَعْدِلُ فِيهِمْ إِلاَّ أَكَبَّهُ اللهُ - تَعَالَى فِي النَّارِ" .
وفي خبر آخر: "أَيُّمَا امْرِئٍ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ شَيْئاً ثُمَّ لَمْ يُحِطْهُمْ مِثْلَ مَا يَحُوطُ بِهِ نَفْسَهُ وَأَهْلَهُ لَمْ يُرَحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ يَوْمَ القِيَامَةِ" .
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِليَّ وَأَقْرَبِهِمْ مَجْلِساً مِنِّي يَوْمَ القِيَامَةِ: إِمَامٌ عَادِلٌ، وَإِنَّ أَبْغَضَ النَّاسِ إِليَّ يَوْمَ القِيَامَةِ وَأَشَدَّهُمْ عَذَاباً: إِمَامٌ جَائرٌ" .