التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُواْ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوۤاْ إِلَى ٱلطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوۤاْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ ٱلشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً
٦٠
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَإِلَى ٱلرَّسُولِ رَأَيْتَ ٱلْمُنَٰفِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً
٦١
فَكَيْفَ إِذَآ أَصَٰبَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآءُوكَ يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ إِنْ أَرَدْنَآ إِلاَّ إِحْسَٰناً وَتَوْفِيقاً
٦٢
أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ يَعْلَمُ ٱللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِيۤ أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً
٦٣
-النساء

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ... } الآية.
ذكر في القصة: أن رجلين تنازعا: أحدهما منافق، والآخر يهودي، فقال المنافق: اذهب بنا إلى كعب بن الأشرف، وقال اليهودي: اذهب بنا إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فاختصما إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم، فقضى لليهودي على المنافق، فلما خرجا قال المنافق: انطلق بنا إلى عمر بن الخطاب نختصم إليه، فأقبل معه اليهودي إلى عمر - رضي الله عنه - فقال اليهودي: يا عمر، إنا اختصمنا إلى محمد صلى الله عليه وسلم فقضى لي عليه، فزعم أنه لا يرضى بقضائه، وهو يزعم أنه يرضى بقضائك، فاقض بيننا، فقال عمر - رضي الله عنه - للمنافق: كذلك؟ قال: نعم، فقال: رويدكما أخرج إليكما، فدخل عمر - رضي الله عنه - البيت، فاشتمل على السيف، ثم خرج فضرب [به] عنق المنافق، فأنزل الله - تعالى -: { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوۤاْ إِلَى ٱلطَّاغُوتِ }.
والطاغوت، قيل: هو كعب بن الأشرف.
وقيل: { ٱلطَّاغُوتِ }: هو اسم الكاهن.
وقيل: { ٱلطَّاغُوتِ }: الكافر.
والطاغوت: هو كل معبود دون الله - تعالى - وعلى هذا التأويل خرج قوله - سبحانه وتعالى -: { فَكَيْفَ إِذَآ أَصَٰبَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآءُوكَ يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ... } أي: جاء أهل النفاق يحلفون بالله: أنه لم يرد بالتحكم إلى ذلك إلا إحساناً وتوفيقاً.
وفي الآية دلالة إثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم؛ وذلك أن قوله - سبحانه وتعالى -: { يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوۤاْ } قصدوا أن يتحاكموا ولم يتحاكموا بعد، فأخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك؛ فعلموا أنه إنما علم ذلك بالله، لكنهم لشدة تعنتهم وتمردهم لم يتبعوه.
وقوله - عز وجل -: { وَقَدْ أُمِرُوۤاْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ } أي: أمروا أن يكفروا بالطاغوت؛ كقوله - تعالى -:
{ فَمَنْ يَكْفُرْ بِٱلطَّاغُوتِ وَيْؤْمِن بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ بِٱلْعُرْوَةِ ٱلْوُثْقَىٰ } [البقرة: 256].
وقوله - عز وجل -: { وَيُرِيدُ ٱلشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً } أي: يزين لهم الشيطان ليضلوا ضلالا بعيداً؛ أي: لا يعودون إلى الهدى أبداً، فيه إخبار أنهم يموتون على ذلك، فكذلك كان، وهو في موضع الإياس عن الهدى.
وقيل: بعيداً عن الحق.
وقيل: طويلا، وهو واحد.
وقوله - عز وجل -: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَإِلَى ٱلرَّسُولِ }.
أي: إذا قيل لهم: تعالوا إلى حكم ما أنزل الله في كتابه، وإلى الرسول، وإلى أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وسنته - { رَأَيْتَ ٱلْمُنَٰفِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً }.
والصدود: هو الإعراض في اللغة، والصد: الصرف.
وقال الكسائي: يقرأ: "يَصِدُّونَ" بكسر الصاد، و"يصدون" بضم الصاد.
وفي حرف حفصة: "وإذا دعوت الكافرين والمنافقين إلى ما أنزل الله رأيت المنافقين يصدون عنك صدوداً".
وقوله - عز وجل -: { فَكَيْفَ إِذَآ أَصَٰبَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآءُوكَ يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ إِنْ أَرَدْنَآ إِلاَّ إِحْسَٰناً وَتَوْفِيقاً }.
يحتمل هذا ما ذكر في القصة الأولى: أن عمر - رضي الله عنه - لما قتل ذلك الرجل المنافق جاء المنافقون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يحلفون بالله ما أراد ذلك الرجل إلا { إِحْسَٰناً } أي: تخفيفاً وتيسيراً عليك؛ ليرفع عنك المؤنة، { وَتَوْفِيقاً } إلى الخير والصواب.
وقيل: نزلت في المنافقين في بناء مسجد ضرار؛ كقوله - سبحانه وتعالى -:
{ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ ٱلْحُسْنَىٰ } [التوبة: 107].
ويحتمل قوله - تعالى -: { فَكَيْفَ إِذَآ أَصَٰبَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآءُوكَ يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ إِنْ أَرَدْنَآ إِلاَّ إِحْسَٰناً وَتَوْفِيقاً } الآية في كل مصيبة تصيبهم، وكل نكبة تلحقهم أن كانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه سلم فيعتذرون كما
{ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا ٱللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ... } الآية [التوبة: 94]؛ لأنهم كانوا يميلون إلى حيثما كانوا يطمعون من المنافع من الغنيمة وغيرها، إن رأوا النكبة والدبرة على المؤمنين مالوا إلى هؤلاء، ويظهرون الموافقة لهم؛ طمعاً منهم، ويقولون: إنا معكم، وإن كانت [النكبة و] الدبرة على الكافرين يظهرون الموافقة لهم؛ كقوله - تعالى: { ٱلَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ ٱللَّهِ قَالُوۤاْ أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوۤاْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [النساء: 141] هذا كان دأبهم وعادتهم أبداً.
وقوله - تعالى -: { إِنْ أَرَدْنَآ إِلاَّ إِحْسَٰناً وَتَوْفِيقاً } قيل فيه بوجوه:
قيل: إلا تخفيفاً وتيسيراً عليك.
وقيل: قالوا: تحاكمنا إليه على أنه إن وفق، وإلا رجعنا إليك.
وفيه دلالة بطلان تحكيم الكافر والتحاكم إليه، وذلك حجة لأصحابنا - رحمهم الله - والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ يَعْلَمُ ٱللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ } من النفاق والخلاف غير ما حلفوا، { فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ }، ولا تعاقبهم في هذه المرة، { وَقُل لَّهُمْ }: إن فعلتم مثل هذا ثانية عاقبتكم.
ويحتمل: أن يكون على الوعيد، أي: لا تعاقبهم؛ فإن الله - عز وجل - هو معاقبهم.
وقوله - تعالى -: { إِنْ أَرَدْنَآ إِلاَّ إِحْسَٰناً وَتَوْفِيقاً }.
قيل: أي: تخفيفاً وتيسيراً عليك، على أنه إن وفق للصواب وإلا رجعنا إليك؛ إحساناً وتوفيقاً؛ لما لعل التحاكم إليهم يحملهم على الرجوع إلى دين الإسلام.
وقيل: { إِحْسَٰناً }: يحسنون إلينا ويبروننا بفضول أموالهم.
وقيل: { وَتَوْفِيقاً }: بفضول أموالهم.
وقيل: { وَتَوْفِيقاً }: أي: صواباً.
وقوله - عز وجل -: { وَقُل لَّهُمْ فِيۤ أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً }.
قيل: أوعدهم وعيداً؛ حتى إذا عادوا إلى مثله يعاقبون.
وقيل: ألزمهم الحجة في ذلك وأبلغها إليهم؛ حتى إذا عادوا عاقبتهم.